المشهد اليمني الأول/
بأوضاع اقتصادية غاية في السوء، ومستقبل لم تتضح معالمه بعد، وانفصال نصف الدولة، والنصف الآخر لا يزال يلملم أشلائه، و”موزايك” عرقي في مناطق البلد كافة، يلوح بالانفصال والأسباب متوفرة وعديدة، يمضي الواقع السوداني من ماضٍ محبط إلى حاضر معقد ومستقبل مهدد.
الأصعب في أيام السودان الحالية، بخلاف الضغوط الاقتصادية اليومية، هو جرّ البلد إلى مواجهة عسكرية، مع جار، لطالما اجتمعت بينهما أسباب النسب والثقافة والقرب الجغرافي وتبادل المنافع، بأقرب مما بين السودان وأي بلد عربي آخر، وهو اليمن، التي وجدت أمامها فجأة، قواتً سودانية، مشاركة في حلف إجرامي، يحاول كسر الشعب اليمني، ونسف وجوده.
البلد التي خاضت تجربتي انفصال، نتج عنها جغرافيا مشتتة، انسلخت من مصر في 1954، لتتحرر من كل احتلال، بريطاني أو سيطرة مصرية، خاضت حربًا مع نصفها الجنوبي، سنوات طوال، لتخرج في النهاية بنصف وطن، يحكمه نظام انقلابي، ساهم في مأساة الانفصال، ولم يكتف بإجرامه في حق البلد، ويستمر في الحكم بعصا الجيش، مثل أغلب أنظمة الشرق الأوسط.
قبل الخوض في حديث مشاركة النظام السوداني، في الحرب الإجرامية على شعب اليمن، لا بد من نظرة على أوضاع السودان الاقتصادية، التي كانت دافعًا لخروج عسكري سوداني غير مسبوق إلى ساحات القتال، فالسودان الحديث –منذ الاستقلال عن بريطانيا ومصر- لم يشارك في أي تجربة حرب خارجية، اللهم إلا مشاركة اسمية في الحروب العربية الصهيونية، كانت صفحات ناصعة من العطاء السوداني، بالإضافة إلى مواقف مجيدة، بعد نكسة العرب في 1967، قدمت فيها السودان كل ما تستطيع، واستضافت الكلية الحربية المصرية، وكانت قواعدها الجوية وموانئها في خدمة الجيوش العربية.
الأزمة السودانية مع الاقتصاد لها شقان، أحدهما أن الاقتصاد بدائي، يقوم في 80% منه أو أكثر على قطاع زراعي بأساليب لم تتغير منذ فجر التاريخ، إضافة إلى رسوم عبور البترول (من جنوب السودان الحبيس)، وتحويلات العاملين بالخارج، والتي تتقلص عامًا بعد الآخر، بفعل تغيرات في بنية دول الخليج، وتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية بشكل عام، والعمالة منخفضة التدريب، كما هي حال العمالة السودانية.
الضغوط التي تجمعت كسحب، تحولت لعاصفة، مع انهيار أسعار النفط، وقلة المدخول من عبور البترول الجنوبي، وتراجع تحويلات العاملين بالخارج، التي فضلت السوق غير الرسمية للحصول على أسعار أفضل للعملة، ثم حروب بينية في جنوب السودان، بين الفصائل المتناحرة، أثرت على المناطق الحدودية، وعدم التطور الزراعي، لتصبح السودان دولة مستوردة، حتى للغذاء، رغم امتلاكها أراض شاسعة خصبة، وموارد مائية ضخمة.
والأهم على مستوى المشروعات الجديدة، هو فشل نظام عمر حسن البشير، في توفير أي تمويلات دولية لمشروعاته، في ظل بقاء اسم السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، التي دخلتها السودان في 1997، على خلفية دعاوى إيوائه للإرهابيين، رغم رفع العقوبات الأميركية عنه، ما أوصل البلد بالفعل إلى طريق مغلق.
ومع قلة المتاح من العملات الصعبة، المتوافرة للاستيراد، اتخذ البنك المركزي السوداني، قرارًا بتحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار، في 4 فبراير 2018، ما رفع سعره التأشيري ما بين 28.8 جنيه إلى 31.5 جنيه مقابل كل دولار، من سعر 6.6 جنيه للدولار، وبالتبعية ارتفعت جميع الأسعار في السوق، وتسبب القرار في انحسار كبير في حركة الاستيراد بالبلاد، علمًا بأن السعر في السوق الحرة (أو السوداء) تصل إلى 45 جنيه للدولار، ما أوصل معدلات التضخم إلى نسب غير مسبوقة، سجلت 41% في 2012.
البشير الذي يحكم السودان بقبضة حديدية، منذ انقلابه في 1989، وحتى اليوم، كأحد أطول حكام إفريقيا والعرب بقاء في السلطة، أقام مشهد انتخابات الرئاسة، في 2015، وسط تشكيك عالمي في نتائجها، بعد سيطرته على لجنة الانتخابات العليا، وتقديم عدد من المرشحين كـ”ديكور” يكمل المشهد، ورغم تعهده بعدم الترشح في 2020، إلا أنه يريد دعم أحد رجال حزبه، ليبقى حاكمًا، ولو في الظل، وهي لعبة مارسها سابقًا مع شريكه الدكتور حسن الترابي، قبل أن يزيحه من طريقه، وينفرد بالسلطة.
النظام السوداني يرغب بشدة في محاولة تأمين الحد الأدنى من التمويل اللازم للخروج من أزمة خانقة، وهو بالتأكيد يود حزمة من التمويل السخي، تشبه ما حصلت عليه مصر، بعد وصول الجنرال عبد الفتاح السيسي للسلطة في 2014، حيث وفرت الدول الخليجية تمويلات تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، كودائع ومساعدات وهبات، وهو السبب الجوهري وراء اشتراك الجيش السوداني في حرب اليمن، وسبب تحمل النظام لخسائر ضخمة تقدر بمئات الأفراد، بدون تفكير في وقف هذا النزيف عند حد.
وبالتوازي مع المشاركة مع تحالف السعودية-الإمارات، يبحث البشير وراء الاستفادة من تحالف تركيا-قطر، ومنحت الحكومة السودانية لـ”أردوغان” في زيارته الأخيرة، ميناء سواكن، بالبحر الأحمر، كثمن مقدم للدعم المنتظر، لكن السودان في هذه اللحظة تخسر كل رهاناتها، فلا أحد في المنطقة، والعالم أيضًا، يرغب في التحالف مع نظام يقف على الجانبين، بحثًا عن مكسب.
كل ما خرج به السودان، وبعد كل التنازلات الممكنة، كان الوعود، لكن لا مال ولا دعم.
المشاركة السودانية في العدوان على اليمن، وفي العام الرابع للحرب، لم تحصد إلا مئات القتلى والجرحى، في حرب معلنة ضد المصالح الحقيقية للسودان، ولو كان الدعم الاقتصادي السخي هو ما يقف وراء قرار البشير بالتورط في المستنقع، فإن الدعم لم يأت أبدًا، وهو جزء من أزمة تلويح قيادات السودان، في الشهور الأخيرة بالانسحاب.
أخطر ما جره الاشتراك في العدوان على اليمن، هو وضع السودان –كشعب- في مواجهة تاريخه ومستقبله، المرهون حتمًا بحسن الجيرة والتعاون مع اليمنيين، وهو ما تسببت الحرب في نسفه تمامًا، والثمن الاقتصادي، ومهما بلغ، لن يعوض السودان عن ما خسره بالفعل في جبال ووديان اليمن.
(أحمد فؤاد – صحافي مصري)