المشهد اليمني الأول/
شهد السودان خلال الأيام القليلة الماضية تظاهرات شعبية في عدد من المدن بينها العاصمة الخرطوم احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية وغلاء أسعار المواد الغذائية لاسيّما الخبز.
وشارك في هذه التظاهرات مختلف شرائح المجتمع خصوصاً طلبة الجامعات، فيما استخدمت الشرطة الغازات المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين واعتقلت عدداً منهم، بينهم بعض النشطاء السياسيين والإعلاميين.
وفي الآونة الأخيرة ارتفع سعر الخبز وبعض الحاجات الأساسية في مختلف أنحاء السودان بنسبة 100 بالمئة، ما أدى إلى حالة من الغليان الشعبي إلى درجة فاجأت حكومة الخرطوم وشخص الرئيس عمر البشير الذي طرح خطة تقشف من أجل مواجهة المصاعب الاقتصادية التي تفاقمت بعد تنكر السعودية وأمريكا لوعودهما بدعم السودان مادياً لمواجهة هذه الأزمة.
وتجدر الإشارة إلى أن اقتصاد السودان بدأ بالتدهور بشكل ملحوظ بعد انفصال جنوبه عن الحكومة المركزية في عام 2011.
ومن الأسباب التي دعت السعودية لقطع دعمها المالي للسودان رفض حكومة عمر البشير لتدخلات سلطات الرياض في شؤون بلاده الداخلية، واستجابته لمطالب شعبه بترك المشاركة في التحالف الذي تقوده السعودية في مواصلة العدوان على اليمن.
كما أن البشير يرفض دعم السياسة السعودية المعادية للجمهورية الإسلامية في إيران، وهو ما أكده خلال زيارته إلى موسكو في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، معلناً رفضه لأي تصعيد عسكري أو سياسي ضد إيران.
وكانت الرياض تستهدف من وراء دعمها للخرطوم إقناع حكومة البشير بالوقوف إلى جانبها ودعم مواقفها ضد القاهرة التي ترفض الرضوخ للابتزاز السعودي الرامي إلى توريط مصر في العدوان على اليمن، الأمر الذي يرفضه الشعب المصري باعتبار أن هذا العدوان يستهدف بلداً عربياً ومسلماً وله مواقف مشرفة بوقوفه إلى جانب العرب والمسلمين في نصرة قضاياهم المصيرية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
من جانبها لم تلتزم أمريكا بوعودها التي أطلقتها قبل فترة من أجل مساعدة السودان للاستفادة من طاقاته وإمكاناته في مواجهة الجماعات المسلحة التي تهدد المصالح الأمريكية في عموم القارة الأفريقية، ما أدى أيضاً إلى تصاعد حدّة الأزمة المالية والاقتصادية التي يواجهها السودان منذ مدة، وهو ما انعكس سلباً على الوضع المعيشي والخدمي للمواطنين خصوصاً الشرائح الفقيرة التي يعاني الكثير منها من البطالة التي تفاقمت هي الأخرى نتيجة ضعف الدعم الحكومي للقطاع الخاص في مختلف المجالات.
والرياض وواشنطن لازالتا تتبنيان عقيدة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن “من ليس معنا فهو ضدنا” الأمر الذي ينذر بمزيد من الضغوط على الحكومة السودانية لتغيير مواقفها بشكل كلي وجعلها منسجمة مع سياسات أمريكا والسعودية سواء ما يتعلق بالحرب على اليمن أو القضية الفلسطينية أو مواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران ومحور المقاومة في عموم المنطقة.
ويبدو أن الأزمة المالية والاقتصادية في السودان ستطول ما لم تسارع الدول الصديقة لمد يد العون له، خصوصاً وأن صندوق النقد الدولي يرفض مساعدة هذا البلد لسبيين؛ الأول: رفض واشنطن لهذا الأمر باعتبار أن السودان كان إلى وقت قريب من الدول المعارضة بشدة لسياسة أمريكا الرامية إلى تمزيق المنطقة والاستحواذ على مقدراتها والعبث بمصيرها، والسبب الثاني أن السودان نفسه يرفض الانصياع لشروط صندوق النقد الدولي خصوصاً ما يتعلق بفرض مقررات تلزم الخرطوم بتقليص الدعم الحكومي عن الكثير من السلع والبضائع الأساسية، بالإضافة إلى اشتراط الصندوق الحد من توفير فرص عمل كافية للعاطلين بحجة أن ذلك يتنافى مع سياسة صندوق النقد التي تتبنى تقديم الدعم مقابل اعتماد خطة تقشف صارمة في الدول التي تتلقى الدعم المالي من الصندوق.
ولا تعتبر السودان دولة مغرية لصندوق النقد الدولي لإقراضها، على الرغم من الأزمة الاقتصادية العميقة التي تمر بها، إذ خلال أقل من سنتين تراجع صندوق النقد عن إشادته بالتحول الإيجابي الذي حدث في الاقتصاد السوداني، ليعلن أن البلد هش اقتصادياً.
وكان صندوق النقد قد أشار في عام 2014 إلى أن أداء الاقتصاد السوداني حقق نتائج مرضية قياساً إلى مؤشرات الأداء العلمية والمنهجية المتعارف عليها عالمياً، لكنه في نهاية عام 2016 ذكر الصندوق إن السودان يواجه اختلالات اقتصادية ملحوظة، وإن ديونه الخارجية تحول دون إمكانية حصوله على التمويل الخارجي.
وبالعودة إلى التظاهرات التي يشهدها السودان احتجاجاً على تردي الوضع الاقتصادي يعتقد الكثير من المراقبين بأن هذه التظاهرات تعبر عن حالة إيجابية شريطة أن لاتخرج عن الحد المعقول باعتبار أن التظاهر يمثل ظاهرة حضارية، فضلاً عن كونه مطلباً دستورياً وقانونياً أجازته جميع الأعراف والمقررات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وفي مقدمتها حق الحياة في ظل ظروف معيشية سليمة تؤمن للمواطن الحد المعقول من احتياجاته ومتطلباته لاسيّما ما يتعلق بالمواد الغذائية والطبية والخدمية.