تتسارع التطورات في المشهد السياسي والعسكري بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، في وقت باتت فيه جبهات متعددة تتشابك في محاولة إعادة ضبط موازين القوى وفرض شروط التفاوض. إعلان قائد حركة أنصار الله (الحوثيين) السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي عن مهلة زمنية مدتها أربعة أيام لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، مهدداً باستئناف الهجمات البحرية على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، يأتي ضمن استراتيجية ردع إقليمية تتكامل مع التهديدات التي وجهتها كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، حول العودة للمواجهة إذا استمر الاحتلال في المماطلة والتنصل من استحقاقات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.
هذه الرسائل ليست مجرد تهديدات خطابية، بل تعكس تحوّل الصراع إلى مشهد أكثر تعقيداً تتداخل فيه المصالح الإقليمية والضغوط الدولية، وتعيد طرح السؤال الأهم: إلى أين تتجه المعركة السياسية والعسكرية في ظل هذا التصعيد؟
استراتيجية الردع اليمنية: “نقابل الحصار بالحصار”
تصريح السيد عبد الملك الحوثي بأن اليمن “ستعود لاستئناف عملياتها البحرية” إذا لم يتم إدخال المساعدات إلى غزة يكشف عن تحول نوعي في استخدام القوة العسكرية كأداة سياسية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي. منذ تشرين الثاني / نوفمبر 2023، تبنت جماعة أنصار الله استراتيجية استهداف السفن المرتبطة “بإسرائيل” في البحر الأحمر وبحر العرب، في محاولة لفرض تكلفة اقتصادية على استمرار العدوان على غزة.
تشكل هذه العمليات نوعاً من الحرب غير المتناظرة التي تعتمد على استهداف المصالح التجارية والاقتصادية للعدو بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة. وبذلك، ينجح اليمن في توسيع دائرة المواجهة خارج نطاق الجغرافيا الفلسطينية، ما يضع “إسرائيل” أمام جبهات متعددة ويعزز مبدأ “الردع بالتكلفة”.
لكن هذه الاستراتيجية تحمل أيضاً مخاطر تصعيد إقليمي، خصوصاً بعد إعادة تصنيف الولايات المتحدة لجماعة أنصار الله كمنظمة إرهابية وفرض عقوبات على قادتها. في هذا السياق، تصبح المعادلة أكثر تعقيداً: فاستمرار أنصار الله في الهجمات البحرية قد يستدعي رداً عسكرياً أميركياً أو “إسرائيليًا”، ما قد يدفع المنطقة نحو مواجهة أوسع.
المقاومة الفلسطينية: بين الالتزام والضغط العسكري
في الجانب الفلسطيني، تقف كتائب القسام على جبهة أخرى في مواجهة التعنت “الإسرائيلي”. بثّ فيديو الجندي “الإسرائيلي” الأسير متان أنجليست، الذي يؤكد استحالة تحرير الأسرى بالقوة العسكرية، هو رسالة واضحة بأن الوقت ليس في صالح “إسرائيل”.
تدرك المقاومة الفلسطينية أن امتلاكها ورقة الأسرى “الإسرائيليين” هو عنصر قوة تفاوضي، لكن هذا العنصر يضعف كلما طال أمد التفاوض وتفاقمت الأوضاع الإنسانية في غزة. لذلك، تمثل تهديدات القسام بالعودة إلى المواجهة العسكرية استراتيجية ضغط مضادة تهدف إلى تسريع تنفيذ بنود المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي تشمل إنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين.
في هذا السياق، تتخذ حماس موقفاً حذراً بين الحفاظ على الالتزامات التفاوضية والاستعداد للمواجهة العسكرية، خصوصاً بعد تأكيد المتحدث العسكري باسم القسام، أبو عبيدة، أن المقاومة “لديها ما يؤلم العدو في أي مواجهة مقبلة”.
رسائل الجندي “الإسرائيلي” الأسير: ضغط داخلي وخارجي على نتنياهو
يحمل فيديو الجندي “الإسرائيلي” متان أنجليست أبعاداً استراتيجية ورسائل متعددة الأطراف، يمكن تحليلها من عدة زوايا:
1. رسالة إلى الحكومة “الإسرائيلية”:
أوضح أنجليست في الفيديو أن الوضع الذي يعيشه الأسرى العسكريون “الإسرائيليون” في غزة “جحيم حقيقي”، مشيراً إلى أن تعامل كتائب القسام معهم يختلف عن تعاملها مع الأسرى المدنيين. هذه الرسالة تشكل ضغطاً مباشراً على الحكومة “الإسرائيلية”، حيث تُحمَّل مسؤولية استمرار معاناة الأسرى نتيجة رفضها المضي قدماً في استحقاقات المراحل اللاحقة من الاتفاق.
يشير حديث الجندي إلى أن نتنياهو يراهن على استخدام القوة العسكرية لاستعادة الأسرى، وهي استراتيجية وصفها أنجليست بأنها “فاشلة”، ما يعكس فقدان الثقة داخل “الجيش الإسرائيلي” في القيادة السياسية. هذه الرسالة قد تزيد من حدة الخلافات داخل “الحكومة الإسرائيلية” وبين القيادة العسكرية، خاصة في ظل التوتر المتزايد بين الجانبين حول كيفية التعامل مع ملف غزة.
2. رسالة إلى عائلات الأسرى:
تُعد هذه الرسالة من أخطر التحديات الداخلية التي يواجهها نتنياهو. عندما يتحدث جندي أسير عن فقدان الأمل والمعاناة اليومية، فإنه يوجه نداءً مباشراً لعائلات الأسرى “الإسرائيليين” للضغط على الحكومة من أجل الإسراع في تنفيذ اتفاق تبادل الأسرى.
قد يؤدي هذا الفيديو إلى تصعيد الاحتجاجات الشعبية، خاصة أن عائلات الأسرى تشكل أحد أهم محركات الرأي العام الإسرائيلي. في حال اشتدت هذه الضغوط، قد يجد نتنياهو نفسه مضطراً لتقديم تنازلات سياسية خشية فقدان التأييد الداخلي.
3. رسالة إلى دونالد ترامب:
ربما تكون هذه أكثر الرسائل المفاجئة في الفيديو. حين يطالب أنجليست الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتدخل والضغط على نتنياهو، فإنه يكشف عن تصاعد حالة اليأس داخل الأسرى “الإسرائيليين” وثقتهم بأن الإدارة الأميركية هي الجهة الوحيدة القادرة على التأثير على القرار الإسرائيلي.
هذه الرسالة قد تحمل تداعيات سياسية أوسع، إذ تضع إدارة ترامب في موقف حرج بين دعمها التقليدي “لإسرائيل” ومطالبته بالتدخل لإنقاذ الأسرى عبر الضغط على نتنياهو للمضي قدماً في تنفيذ الاتفاق.
سيناريوهات المرحلة المقبلة: التصعيد أم التفاوض؟
أمام هذه التهديدات المتبادلة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للمشهد المقبل:
1. سيناريو التصعيد الإقليمي:
إذا استمرت “إسرائيل” في عرقلة دخول المساعدات ورفضت تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، فمن المرجح أن تستأنف حركة أنصار الله هجماتها البحرية، ما قد يؤدي إلى استهداف السفن التجارية في البحر الأحمر وتصعيد عسكري مع الولايات المتحدة. بالتوازي، قد تشن المقاومة الفلسطينية هجمات صاروخية جديدة على المستوطنات “”الإسرائيلية”، ما يدفع الاحتلال إلى استئناف عدوانه على غزة.
هذا السيناريو يحمل مخاطر توسع الصراع ليشمل عدة جبهات، بما في ذلك لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران، ويضع المنطقة على حافة مواجهة شاملة.
2. سيناريو التفاوض تحت الضغط:
مع تصاعد التهديدات وتزايد الضغوط الدولية والداخلية، قد تجد “إسرائيل” نفسها مضطرة للعودة إلى طاولة التفاوض وتنفيذ استحقاقات المرحلة الثانية من الاتفاق. في هذا السيناريو، يلعب الضغط العسكري والسياسي من اليمن والمقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى الضغوط الداخلية من عائلات الأسرى، دوراً محورياً في إجبار الاحتلال على تقديم تنازلات.
3. سيناريو الوساطة والتهدئة:
في ظل المخاوف من تصعيد إقليمي واسع، قد تتدخل أطراف دولية وإقليمية (مثل مصر وقطر) لمحاولة تهدئة التوتر وإعادة تفعيل المفاوضات. هذا السيناريو يتطلب التزاماً متبادلاً من جميع الأطراف بتنفيذ الاتفاق، مع تقديم ضمانات لعدم التنصل من استحقاقات المراحل اللاحقة.
معادلة القوة والضغط المتبادل:
بين تهديدات اليمن باستئناف العمليات البحرية ورسائل القسام حول جاهزيتها للمواجهة، ورسائل الأسرى “الإسرائيليين” التي تضيف بُعداً داخلياً شديد الأهمية، تبرز معادلة جديدة في الصراع.
هذه المعادلة تقوم على مبدأ “الضغط المتبادل” حيث تستخدم الأطراف أدواتها العسكرية والسياسية والشعبية لفرض شروطها التفاوضية. لكن ما يجعل هذه المعادلة خطيرة هو احتمال انزلاقها نحو مواجهة إقليمية واسعة، في ظل الدعم الأميركي غير المشروط “لإسرائيل” واستعداد الفصائل الإقليمية للانخراط في الصراع.
في النهاية، يبقى مصير التهدئة أو التصعيد مرهوناً بقدرة الأطراف على تحقيق توازن بين المطالب الإنسانية والضغوط السياسية، دون أن يدفع المدنيون في غزة الثمن الأكبر لهذا الصراع.