أكّدت، ولا نقول كشفت، التّهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس بـ”قتل جميع سكّان قطاع غزة إذا لم يُفرجوا عن الرّهائن الإسرائيليين الأحياء والأموات” أنه ليس إرهابيًّا عُنصريًّا فقط، وإنّما شخص مريض فاقد العقل والإحساس، وغير قادر على التصرّف، ليس كرئيسٍ سويٍّ، وإنّما حتّى كإنسانٍ طبيعيٍّ، فهل سكّان القطاع هُم الذين يحتجزون الأسرى يا غبي؟
فعندما يقول ترامب “إنه سيُرسل لإسرائيل ما تحتاجه من قنابل، وذخائر، ومعدّات عسكريّة لإنجاز المَهمّة في القطاع، أي إبادة مِليونيّ فِلسطيني، فإنّه بات بحاجةٍ إلى سيّارة إسعاف تنقله بسُرعةٍ إلى أقرب مصحّةٍ عقليّة، فأدولف هتلر لم يُصدر مِثل هذه التّهديدات، وبهذه الدّرجة من الوقاحة والدمويّة، والتعطّش لسفكِ الدّماء والتّباهي بتزويد القاتل “بأُمّ القنابل” وزن 2000 رطل للقضاء كُلِّيًّا على أبناء القطاع الذين وعدهم، في قمّة هذيانه، بأنّ مُستقبلًا جميلًا ينتظرهم، في تناقضٍ لا يُوجد إلّا عند المُختلّين عقليًّا.
واللّافت أنّ هذه التّهديدات جاءت بعد كشف النّقاب عن إرساله لمبعوثه الخاص لشُؤون الأسرى آدم بولر إلى الدوحة للتّفاوض مع مسؤولين من حركة “حماس” وجهًا لوجه للتوصّل إلى صفقةٍ للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين أحياءً وأموات.
الأمر المُؤكّد أنّ هذه التّهديدات جاءت لسببين أساسيين:
الأوّل: أنّ المُفاوضين في حركة “حماس” لم “تُبهرهم” هذه الخطوة الأمريكيّة التي كسرت الحصار الأمريكيّ على الحركة وتصنيفها في خانة الإرهاب، ولم يرقصوا طربًا لها، وتمسّكوا برُجولةٍ وشجاعةٍ بكُلّ شُروطهم، وأبرزها الالتزام بقرار وقف إطلاق النّار، وتنفيذ كُل ما جرى الاتّفاق على تنفيذه في الجولات الثّلاث، ورفض كُلّ الضّغوط الأمريكيّة والإسرائيليّة والعربيّة.
الثاني: الحملة التي يشنّها الإسرائيليّون، أسياد ترامب، عليه وحُكومته، لأنّه انخرط في هذه المُفاوضات دون إبلاغهم مُسبقًا بهذه الخطوة، وطعنهم في الظّهر، ولأنّه رئيسٌ جبان، أرادَ أن يُرضيهم بإطلاق هذه التّصريحات الدمويّة الاستفزازيّة ضدّ حركة “حماس” وأبناء قطاع غزة، وامتصاص غضبهم.
ما يُثير استغرابنا أنّ بعض الجهات العربيّة، والرسميّة خُصوصًا، هلّلوا فَرِحين بحُدوث هذه السّابقة الأمريكيّة بالتّفاوض المُباشر مع حركة حماس، واعتقدوا أنها “مَكرُمة” ومُؤشّرات على حدوثِ تغيير في منهج وسياسة الإدارة الأمريكيّة الترامبيّة، فلُجوء ترامب إلى المُفاوضات جاء نتيجةً ليأسِ حُكومته ومبعوثيها في إملاءِ شُروطهم على المُقاومة الفِلسطينيّة عبر الوُسطاء العرب أو التّهديد، بالطّريقة نفسها التي يتعاطون بها ويفرضونها على “الزّعماء” العرب، ويجدون بالرّكوع فورًا سمعًا وطاعةً، وفوقها مِئات المِليارات من الدولارات “هديّة” وتعبيرًا عن “حُسنِ النّوايا” وحِرصًا على عدم إغضاب “العم الأمريكي”.
لُجوء ترامب إلى المُفاوضات المُباشرة مع حركة “حماس” جاء لأنّه أدرك أنها لا تخشى تهديداته، ولا تخاف من فتح أبواب جهنّم عليها وحاضنتها الشعبيّة الصّلبة، وأن جميع خططه، بما فيها تهجير أبناء القطاع، وتحويله إلى صفقةٍ عقاريّة باسم ريفيرا الشّرق الأوسط، بحيثُ تجني شركاته، وشركات أصهاره وحُلفائه الصّهاينة مليارات الدّولارات.
ومثلما انتهت تهديدات التّهجير بالفشل، وأعطت نتائج عكسيّة برفضها كُلِّيًّا من القمّة العربيّة الأخيرة، وكُلّ الشّرفاء في العالم بما في ذلك حُكومات أوروبيّة تُدرك النّتائج الكارثيّة لهذه السّقطة، ستفشل تهديدات ترامب الأحدث بإبادة جميع أبناء القطاع بالقنابل الأمريكيّة والأيادي الصّهيونيّة التي ستُلقيها عليهم.
المُفاوضات الأمريكيّة مع “حماس” ليست هديّة، أو مِنّة، وإنّما أحد أدلّة الاعتِراف بالهزيمة، وفشل كُل مشاريع التّهجير والابادة رغم فداحتها، فالولايات المتحدة لم تتفاوض مع “الفيت كونغ” في فيتنام إلّا بعد تفاقم الخسائر البشريّة في صُفوف قوّاتها، ولم تجلس على مائدة المُفاوضات مع حركة طالبان الأفغانيّة إلّا بعد الهزائم المُتلاحقة والنّزيف البشريّ والمادّيّ في ميادين القتال، والشّيء نفسه يُقال عن العِراق حيثُ سحب أوباما 160 ألفًا من قوّاته في ليلةٍ ما فيها قمر عام 2011 بفِعل بُطولات المُقاومة العِراقيّة.
شُكرًا لرجال غزّة الأحياء منهم والشّهداء الذين صمدوا لأكثر من عام ونصف العام في وجه حرب الإبادة، والشُّكر أيضًا لجنرالات المُقاومة الميدانيّة وكوادرها الذين أداروا المعركة بدهاءٍ غير مسبوق إكمالًا لمُعجزة “طُوفان الأقصى”، والشُّكر موصولٌ أيضًا لكُلّ الجبَهات المُساندة في اليمن ولبنان والعِراق وقريبًا جدًّا في “سورية المُقاومة”.. والأيّام بيننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الباري عطوان