الرئيسية زوايا وآراء رحل الأمين على الحدود وبقيت العهدة عند الأمين الأول

رحل الأمين على الحدود وبقيت العهدة عند الأمين الأول

واشنطن

صعقني الخبر كما يوم رحيل الأنيس، فالأمين كان صديقاً لصيقاً كما كان النقاش، ومَن تزاحمت الألقاب عليه وزهد بها كنت أحبّ أن أناديه بلقبه الأول العقيد يوم عرفته، ثم العميد أمين حطيط، نظيف العقل والكفّ والقلب والروح والجيب، شجاع في الميدان، شجاع في المواقف، شجاع في قولها، ولأنني تماهيتُ مع القيم والمفاهيم التي استقرّت نفسي عليها وتصالح عقلي معها، وصارت معايير الصداقة عندي صعبة الاستجابة.

بقيت لي قلة نادرة من الأصدقاء وهي تتناقص منذ رحيل الأنيس، وها هو الأمين يرحل، وما بقي أقل من قبضة يد واحدة ربما، فلم يعُد بوسعي أن اتخذ صديقاً ليس عالماً وليس فارساً وليس نبيلاً وليس فاعلاً وليس من جماعة الإتقان والمثابرة في حرب الوعي التي نخوضها على مستوى بلدنا وأمتنا وأحرار العالم. وليس صديقي من لم يكن زاهداً بالمناصب والمكاسب وعدواً لطلب المال والشهرة، عصياً على الكسر عصياً على العصر، كما هي غزة وكما هو جنوب لبنان، وقد كان الأمين كما كان الأنيس من هذه القلة العبقريّة النادرة كندرة الألماس والذهب.

خلال أكثر من ثلاثين سنة عرفته فيها منذ كان ضابطاً محاضراً في العلوم الاستراتيجية وكان من الذين يضعون القواعد النظريّة لقواعد حروب القرن الحادي والعشرين بصفتها حروب المقاومة، وكان هذا هو موضوع حواراتنا الهادئة. ثم جاء انتصار المقاومة عام 2000 وكلفه الرئيس المقاوم العماد إميل لحود تمثيل لبنان في مهمة إظهار النقاط الحدودية في اللجنة الدولية التي ترأسها المبعوث الدولي تيري رود لارسن، وكان بطلاً من أبطال السيادة والاستقلال والمقاومة، ويعود له الفضل في إثبات لبنانية النقاط والمساحات التي أجبر الاحتلال على مغادرتها، وإظهار تلك التي لا زال لبنان يتحفظ عليها.

ولا حاجة لذكر حجم الترهيب والترغيب الذي انتصر عليه هذا البطل الوطني ليحمي مصالح وطنه وحقوقه بالأخلاق التي كانت رصيداً لا يساوم عليه. ويوم اتصلت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت بالرئيس لحود تتلو عليه مزاميرها التلموديّة، ويجيبها بإنهاء المكالمة رداً على قولها تذكّر أنك تتحدّث مع وزيرة خارجية أميركا، فقال لها أما أنت فتذكري أنك تتحدّثين مع رئيس جمهورية لبنان وأقفل الخط، كان أمين حطيط حاضراً في خلفية المحادثة، وكانت أولبرايت تحمّله مسؤولية عرقلة التوصل إلى إعلان إتمام الانسحاب الإسرائيلي وافتعال طلبات غير مقبولة في الخط الحدوديّ، وكان الرئيس لحود يقول الجنرال حطيط أنا وأنا الجنرال حطيط.

تقاعد الجنرال، لكن المقاوم لم يتقاعد، أما المفكر فقد اعتبرها البداية وأعلن الانتقال الى مرحلة جديدة من ورشة البناء، وقد أعدّ لها العدّة، أستاذاً جامعياً حاملاً عدة شهادات في عدة اختصاصات، كاتباً لا يهدأ، ناشراً لفكر استراتيجي يقوم على ثقافة حروب المقاومة. وجاءت حرب تموز 2006، التي كانت بوادرها وإشاراتها تنذر بقرب وقوعها، وتنادينا للقاء وبادرت لدعوة ثلة من الفرسان إلى اجتماع تأسيسي لغرفة عمليات إعلامية استباقية، وكان في طليعتهم مواظباً ودائم الحضور والمثابرة على البحث والشرح والكتابة كل يوم، كل من الأنيس والأمين،.

وفي موعد السابعة من صباح كل يوم كنّا مع عدد من الفرسان نلتقي ونتناول قهوة الصباح مع ما أعدّه لنا الزملاء من ملخّصات عن محاور الخطاب الإعلامي في كيان الاحتلال، وفي الإعلام الغربي والعربي، وبعد النقاش نضع محددات خطابنا الإعلامي. وغالباً ما كان الأمين يكتب تقدير الموقف، ويكون سائر الفرسان قد حضروا في التاسعة، ويبدأ النقاش والشرح والحوار، وتتوزّع المهام في العاشرة كل على منبر أو منصة، ودائماً للأمين حصة.

كانت حرب تموز المحطة التاريخية التي ترسّخت فيها صداقتي بالأنيس والأمين، وعندما بدأت الحرب الكونيّة على سورية ولبست ثوب ربيع كاذب، كما كان الأنيس كان الأمين، قامتين تنتصبان شامختين لوقفة العز، وكنا على تشاور دائم وحوار مستمر، وغالباً ما كان الأمين يتدخل ناصحاً في بعض التفاصيل العسكرية، طالباً إيصالها الى القيادة السورية في دمشق، حيث كانت له سمعة ومحبة وتقدير ورفعة مكان ومكانة، وكان الذين تصلهم آراؤه يهتمون لتأكيد أنه يعلم أنهم يبادلونه الحب والثقة والحرص.

ونحن منذ عشر سنوات زملاء كتابة على صفحات «البناء»، التي خسرت برحيله أحد أعمدة الرأي الحر الملتزم والمقاوم، مواظباً على مقالته الأسبوعية، وعند مقتضى الحال أكثر من مقالة في الأسبوع، تاركاً خلفه أكثر من 700 مقالة، تنضح فكراً وثقافة وعلماً ومعرفة ووضوح رؤية، تشكل بذاتها أكاديمية معرفية تحكي تاريخ لبنان والمنطقة والمقاومة خلال عشر سنوات.

رحل الأمين على الحدود، وبقيت الأمانة عهدة في اليد الأمينة، يد الأمين الأول الذي أحبّه الراحل حتى حدود العشق ورأى فيه جنرال القرن الحادي والعشرين وسيّد حروبها، وأول التعازي بالرحيل لسيّد المقاومة سماحة السيد حسن نصرالله، الذي خسر أحد فرسان الفكر وعلماء الاستراتيجية وفلاسفة المقاومة، وكل مشاعر الحب والودّ والمواساة لعائلته ولكل الذين عرفوه وأحبّوه رمزاً من رموز لبنان المقاوم، والعزاء لكل الزملاء والكتّاب في «البناء» الحزينة على الرحيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر قنديل

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

Exit mobile version