في ظل هذا الوضع المستجدّ، نجد أن العدو ينحو إلى مسارات محكوم عليها بالفشل التكتيكي قبل الاستراتيجي. ولا عجب في ذلك، فهذه حال القوى التي يبدأ نجمها بالأفول.
يتكرّر في الأراضي المحتلة المشهدُ الذي كان سائداً قبيل معركة “سيف القدس”، عام 2021، فالمستوطنون يتحضرون للقيام بما يسمى “مسيرة الأعلام” والتجول في الأحياء العربية في القدس المحتلة، وحتى محاولة اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه، وذلك في محاولة لتكريس الاحتلال الصهيوني لمدينة القدس، وترسيخ فكرة التقسيم، زمانياً ومكانياً، في المسجد الحرام بين المستوطنين والفلسطينيين، على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي.
ويطرح هذا تساؤلات عن سبب محاولة الكيان الموقت إعادة الكَرّة على الرغم مما يعلمه بشأن مخاطر تدحرج الأمور إلى جولة تصعيد جديدة، لا يبدو أن حظوظه فيها ستكون أفضل حالاً من “سيف القدس”، بالإضافة إلى تساؤلات عن دور قوى المقاومة الإقليمية في هذه المرحلة وجولة المواجهة الجديدة هذه إن وقعت.
عند النظر في التوازنات القائمة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان الموقَّت، منذ “سيف القدس”، نجد أنه لم يطرأ تغيُّر يُذكر في موازين القوى تلك، هذا إن لم تكن الكفّة مالت بقدرٍ ما لمصلحة الفلسطينيين عما كانت عليه الحال في العام الفائت. وإذا ما صحَّت هذه النظرة، يصير من المنطق تفادي العدوِّ الذهابَ إلى جولة مواجهة جديدة لا يُرجى منها تحقيق أي إنجاز، لكن يظهر أن إصرار العدو على هذه المقامرة ينبع من كونه يعمل على التصعيد، في خطين متوازيين، على ما سيأتي.
ومرد ذلك ضعف حكومة العدو الائتلافية الراهنة، وبحثها عن أي إنجاز أو تصعيد مع الفلسطينيين تقدّمه إلى جمهور المستوطنين، ولاسيما بعد الفشل الذي مُنِي به العدو في كبح جماح العمليات الفدائية في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948. فالعدو اليوم يحاول البحث عن رد اعتبار على الرغم من قناعته بعدم قدرته على تحقيق أيّ تقدم استراتيجي ولا حتى تكتيكي في الميدان. ولعل استهدافه المقصود للصحافية المغدورة الشهيدة شيرين أبو عاقلة يُعَدّ مثالاً على الأعمال الانتقامية والخرقاء، التي يمكن للعدو القيام بها في ظل انكسار هيبة جيشه التي باتت واضحة.
لقد أكدت كل فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها “كتائب عز الدين القسام”، الذراع العسكرية لحركة “حماس”، في الأيام الفائتة، استعدادها الكامل للدفاع عن القدس والمسجد الحرام، وأنها لن تسمح للعدو بتجاوز المعادلات التي رُسِمت بالنار والدم في “سيف القدس”، بل إنها لم تحدِّد خطوطاً حمراً للعدو في هذا الصدد، لكنها استخدمت لغة شاملة، وألقت على العدو عبء معرفة تلك الخطوط الحمر ضمن سياسة الغموض المقصود.
لهذا، يصح استنتاج، مفاده أن المواجهة محتّمة إذا مضى العدو في إصراره على خطوته التصعيدية، بل يمكن ترجيح فرضية، مفادها أن المواجهة المقبلة ستبدأ من حيث توقفت “سيف القدس”، أي بضربة شاملة في كامل مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا تكتيك اتبعته المقاومة الفلسطينية في معاركها الأخيرة، بحيث كانت تبدأ كل جولة من النقطة التي توقفت عندها سابقتها.
أما قوى المقاومة في الإقليم، وخصوصاً المقاومة الإسلامية اللبنانية (حزب الله)، فلقد حدّد الأمين العام لحزب الله العام، السيد حسن نصر الله، خطوطها الحمر في هذه المواجهة، بحيث وضّح في كلمته الأخيرة بمناسبة عيد التحرير، في الـ25 من أيار/مايو، أن حزب الله سيكون معنياً مباشرةً إذا تعرّض المسجد الحرام وقبة الصخرة الشريفة للخطر من جانب المستوطنين.
وكان لافتاً استخدام كلٍّ من السيد حسن نصر الله ورئيس حركة “حماس” في غزة حيى السنوار مصطلحَ “محور القدس” في إطلالاتهما الأخيرة، وفي هذا مؤشرٌ على مستوى التنسيق الميداني المتقدم، والذي بات واقعاً بين كل قوى المقاومة والتحرير في عالمنا العربي.
في ظل هذه القراءة للمناخ الاستراتيجي الناشئ في المنطقة، يمكن أن نخلص إلى أنه إذا مضى العدو في خطوته التصعيدية المزمعة تحت ضغط البحث عن استرداد هيبة جيشه المفقودة، فإنه بذلك يُقْدِم على مغامرةٍ غير محسوبةٍ، يكون احتمال خروجه منها مكسوراً هو الأقرب إلى واقع الحال.
كان هذا المسار التصعيدي الأول الذي يبدو أن الكيان الموقَّت يسير فيه، أمّا المسار الآخر الذي يمضي به العدو في محاولاته الحثيثة لاسترداد قدرته الردعية المفقودة، فتدلل الشواهد على عزمه على العودة إلى سياسة الاغتيالات ضد قيادات من الفصائل الفلسطينية. فمتابعة صحافة العدو وتصريحات مسؤوليه، بالإضافة إلى بعض تحركاته الميدانية، تشير كلها إلى هذا المسار.
والظاهر أن العدو يُمنِّي نفسه باغتيال أسماء لامعة من قيادات الصف الأول لحركة “حماس” في الخارج، ليقدّم هذا إلى شارعه القلِق على أنه إنجاز عظيم. ولا شكّ في أن نجاح أي محاولة اغتيال سيكون لها بعضُ الآثار في العمل الوطني، لكن العدوّ يدرك أن هذا لن يغير السياق العام للأحداث، ولن يكون كافياً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
فالتحولات الاستراتيجية، التي جدّت في محيطه وفي الداخل الفلسطيني، لا يمكن قلبها عبر اغتيالٍ من هنا أو من هناك، مهما كان ذاك الاغتيال مؤلماً، فتغيير أي مسار استراتيجي يلزمه عمل استراتيجي، وهذا ما لا يبدو أن العدو قادرٌ عليه في هذه المرحلة.
يزداد المأزق الاستراتيجي الذي يعيشه الكيان الموقت مع مرور كل يوم، فوضعه الداخلي في تَأَكُّل مستمر، ووضع قوى المقاومة الفلسطينية والإقليمية في تصاعد مستمر، ناهيك بالتحولات الدولية الجذرية، والتي لا يبدو أنها تصبّ في مصلحة الاحتلال.
وبات اليوم هاجس قادة الكيان الموقّت فكرة إذا كان كيانهم سيُكمل عقده الثامن. وفي ظل هذا الوضع المستجدّ، نجد أن العدو ينحو إلى مسارات محكوم عليها بالفشل التكتيكي قبل الاستراتيجي. ولا عجب في ذلك، فهذه حال القوى التي يبدأ نجمها بالأفول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمرو علان
كاتب وباحث فلسطيني