المشهد اليمني الأول/
يشهَدُ البحرُ الأحمرُ تصاعداً للسباق الدولي على النفوذ والسيطرة على خطوط الملاحة الدولية التي يمثل البحر الأحمر أهمّ خطوطها؛
باعتبار هذا النوع من النفوذ يعطي الدول قوة اقتصادية وعسكرية على حساب الدول الأُخْـرَى، ولذلك لم يعد غريباً أن تتحول دولة صغيرة مثل “جيبوتي” إلى مجمع للقواعد العسكرية التابعة لعدة دول أبرزها الولايات المتحدة وفرنسا والصين، ما يجعل من البحر الأحمر في الوقت الحالي أحد أسخن المناطق التي قد تؤدي إلى مرحلة الانفجار العسكري، بالإضافة إلى أن ما سبق يفسر جانباً من طبيعة وأهداف التدخل الأمريكي الإسرائيلي في اليمن بغطاء تحالف العدوان الذي تقوده السعوديّة والإمارات في اليمن ويفسر أسباب التحَـرّكات باتجاه السواحل والموانئ والجزر اليمنية ومنابع النفط والغاز.
خلال السنوات الأخيرة وتحديداً مرحلة الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001م بدأ الظهور الخارجي للإمارات من خلال تقديم الأخيرة نفسها للولايات المتحدة كوكيل في المنطقة فأرسلت قوات برية إلى أفغانستان مكونة في معظمها من مرتزقة شركة بلاك ووتر الأمريكية الذين منحوا الجنسية الإماراتية وارتدوا زيها العسكري ومع الوقت لعبوا دوراً أكبر في حروب الإمارات الخارجية أَوْ في حفظ وحماية نظام الحكم من الاختلالات والصراعات الداخلية.
أما الظهور الأكثر تأثيراً للإمارات في المنطقة فيعود إلى ما قبل سبع سنوات تقريباً من خلال الدور الذي لعبته في إطار الربيع العربي وبعد ذلك العدوان على اليمن. وبالنظر لحجم وقدرات وإمكانيات الإمارات فإنها تبدو أقل بكثير من أن تدخل في منافسة مع الدول العظمى مثل روسيا والصين ودول كبرى مثل تركيا وغيرها على النفوذ في البحر الأحمر، وهو ما يقود إلى تأكيد أن الإمارات مجرد وكيل حظي بالثقة الأمريكية وتقوم بتنفيذ أجندة أمريكية تعفي واشنطن من التكاليف بشتى أنواعها وليس التكلفة المالية.
لكن ما سبق لا يعني أن الإمارات تخدم الولايات المتحدة فقط بل قدمت نفسها لواشنطن للعب هذا الدور الذي يحقق لها أيضاً مصالح منها الإبقاء على مكانة موانئ دبي من خلال الهيمنة باستخدام المال على موانئ دول البحر الأحمر كما هو الحال في أرض الصومال وفي أريتيريا وقبل ذلك في جيبوتي قبل أن تتوتر العلاقة مع هذه الأخيرة، أَوْ باحتلالها عسكرياً بمساندة معلنة وغطاء عسكري وسياسي من قبل الولايات المتحدة كما هو الحال في الموانئ والجزر اليمنية.
التحَـرّكات الأمريكية المباشرة أَوْ عبر الوكيل الإماراتي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي أَدَّت لتصاعد السباق العسكري والاقتصادي وظهر بعض الأقطاب الجديدة والتكتلات والأحلاف بعدما كان التنافس حكراً بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أُخْـرَى فيما يظهر الآن تكتل منافس يتكون من دول لها علاقات وتحالفات وخلافات في الوقت نفسه مع طرفي المنافسة السابقين، وهنا الحديث عن تركيا كرأس لتكتل مكون من قطر والسودان والحكومة المركزية الصومالية ودول أُخْـرَى. وإذا كانت قطر بمفردها وقوتها المالية عاجزة عن دخول هذا النوع من السباق لولا الغطاء التركي فإن الأمر ينطبق على الإمارات التي تحظى بالرعاية الأمريكية.
تسببت الحرب العدوانية على اليمن والأزمة الخليجية بشأن قطر، باستقطابات حادة في منطقة القرن الأفريقي تهدد بانفجاره عسكرياً.
ومنطقتا الخليج والقرن الأفريقي متشابكتان بشكل وثيق إذ تواجهان معاً خطورة الصراعات المسلحة والحركات الإرهابية والتهريب والقرصنة والاتجار بالبشر وعمليات غسل الأموال.
صَعَّدت أزمةُ قطر من الاستقطابات في القرن الأفريقي، حيث يبرز معسكران، معسكر قطر تركيا السودان أثيوبيا جيبوتي وجمهورية الصومال، ومعسكر آخر الإمارات مصر ارتيريا السعوديّة إقْليْم أرض الصومال.
وتأتي الأزمةُ الراهنةُ في الخليج في لحظة عصيبة بالنسبة للقرن الأفريقي الذي تمزّقه أصلاً النزاعات، فكثير من دوله غير مستقرة سياسياً، أَوْ غارقة في نزاعات مسلحة داخلية، ولم يكن ينقص المنطقة أن تنشب الأزمة بين مصر وأثيوبيا بشأن سد النهضة الأثيوبي هذه الأزمة التي تضع المنطقة على شفا الهاوية.
تلعبُ الإماراتُ دوراً عدوانياً ومُصعداً لأزمة القرن الأفريقي؛ وبسبب أطماعها التوسعية البحرية التي تقف خلفها الامبريالية العالمية ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية بدرجة رئيسية، فهي تكسب كُلّ يوم مزيد من الأعداء، وتواجه برفض من منطقة الخليج والقرن الأفريقي، حيث تبرز القوى الوطنية اليمنية المدافعة مبدئياً عن السيادة من جهة، ومن جهة أُخْـرَى دولة قطر وسلطنة عمان وجمهورية الصومال وأثيوبيا فكلها دول منزعجة من التوسع الإماراتي.
مؤخراً ألغت دولة جيبوتي عقد احتكار مينائها للإمارات، بسبب تعطيله لصالح مينا دبي وهو ما اعتبرته جيبوتي تدخلاً في الشؤون الوطنية الجيبوتية، وبسبب الوجود العسكري الإماراتي الذي يثير مخاوف وقلق دول القرن الافريقي التي هي في حالة سلام هش، وفي السابق دولاً متحاربة.
من شأن اندلاع النزاع عسكرياً في المنطقة أن يخفف الضغط العسكري على اليمن، إلا أن نتائجه ستكون كارثية على المستوى الانساني والاقتصادي في القرن الأفريقي، من جهة أُخْـرَى فإن عرقلة الملاحة في البحر الأحمر كنتاج للصراع في القرن الأفريقي قد يدفع القوى العالمية ذات المصلحة التجارية أن تعقد تسوية أزمة منطقة الخليج واليمن والقرن الأفريقي.
مؤخراً اندلع خلاف بين إقْليْم أرض الصومال والإمارات تسبب بوقف بناء قاعدة بربرة العسكرية، لكن هذا الخلاف منشؤه اقتصادي، حول التزامات إماراتية وليس سياسياً ومن المسائل المختلف عليها بناء وترميم طريق “بربرة-كوردول” الذي يصلها بمدينة وجالي على الحدود بين أرض الصومال إثيوبيا، ويبلغ طوله نحو 220 كلم. بينما تظل احتمالات انحياز أرض الصومال للمعسكر الآخر بعيدة.
استقطابات الصراع في منطقة القرن الأفريقي
أَدَّى الاضطرابُ في الخليج إلى تصعيد العسكرة في القرن الأفريقي، حيث يتم الضغط على الحكومات فيه؛ لتأييد الإمارات والسعوديّة، أَوْ تركيا وقطر؛ ولأن تكون موضع قدم للإمارات والسعوديّة في الحرب على اليمن.
دولة السودان وفي آخر موقف لها تقف بجانب قطر ومنحت تركيا قاعدة عسكرية في جزيرة لها، وتغازل طهران، وطلبت من روسيا تحديث سلاحها ومساعدتها لمواجهة التهديدات الأمريكية في البحر الأحمر. فيما جمهورية الصومال تقف مع قطر وتركيا وتقاوم الضغوط السياسية والاقتصادية الإماراتية السعوديّة، ولا يمكنها أن تقف في تحالف يدعم انفصال إقْليْم أرض الصومال.
رئيس جمهورية الصومال الجديد محمد عبد الله فرماجو، أبدى تضامنه مع اليمن بطريقة غير مباشرة، حيث قال في كلمة تنصيبه رئيساً انه لا ينس فضل اليمن على قبول الصوماليين ووعد بفتح الصومال لليمنيين، وتمنى لليمن أن تعود (حرة وقوية وشعباً عزيزاً).
أما اريتريا فهي تقف مع الإمارات والسعوديّة، في مواجهة معسكر قطر تركيا السودان، وتهيئ لدول العدوان موقعاً متقدماً للحرب على اليمن.
وفي آخر التطورات في المنطقة غيرت جيبوتي موقفها من الإمارات، وتميل الآن إلى المعسكر السوداني الاثيوبي.
الطبيعة الجيو سياسية للصراع
الاستقطاباتُ العسكرية الإقْليْمية في منطقة القرن الأفريقي تفجّر صراعاً جيوسياسية في المنطقة، فمصر تعتبر بناء إثيوبيا لسد النهضة بدون الاتّفاق معها، أمراَ يهدد أمنها القومي.
القرن الماضي شهد صراعاً على الأراضي بين اثيوبيا وإرتيريا، أثيوبيا اليوم تتخوف من ان تستفيد ارتيريا من الوجود الإماراتي المسلح، لتقوي مركزها العسكري على حساب اثيوبيا. كما أن الأزمة بين مصر والسودان قد تؤدي إلى صراع مسلح بين البلدين الجارتين اللتين كانتا تمثلان دولة واحدة. فيما التواجد العسكري في إقْليْم أرض الصومال (الانفصالي) يثير مخاوف حقيقية لجمهورية الصومال واثيوبيا وجيبوتي معاً. بالإضافة إلى أن الاهتمام السعوديّ الوهابي المتزايد في منطقة القرن الافريقي يثير المخاوف الثقافية المسيحية الأثيوبية.
التموضعات العسكرية ومؤشراتُ الصراع
تتّبِعُ الإماراتُ سياسةَ حزام (أمني) واحد، وميناء واحد (دبي). حيث تمتلك ميناءاً وقاعدة عسكرية في مدينة بربرة في إقْليْم أرض الصومال. كما تمتلك ميناءاً وقاعدة عسكرية في مدينة عصب الارتيرية. وهذه التموضعات العسكرية تزيد الأزمة احتقاناً وتجعل أي شرارة كفيلة بإشعال النار في البحر الأحمر!
لا يبدو أن ثمة -حتى الآن- أيَّ توجه لحل الخلافات سلمياً إذ فشلت دعوات الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة للحوار بين مصر وأثيوبيا. من جهتها تضغط السعوديّة على اثيوبيا بورقة العمالة الاثيوبية في أراضيها، وقرارات سعودة العمل سوف تؤثر عليهم. كما تمارس السعوديّةُ والإمارات ضغوطاً مالية على حكومة جمهورية الصومال.
جيبوتي أنهت من جانب واحد وبأثر فورى عقداً مع موانئ دبى العالمية لتشغيل محطة دوراليه للحاويات. ومؤخراً اجتمع رؤساء أركان الجيش السوداني والتركي والقطري في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم. كما أقامت قوات قطرية مناورة عسكرية مشتركة مع نظيرتها السودانية في البحر الأحمر.
ومع وصول صول تعزيزات عسكرية من مصر إلى قاعدة “ساوا”. في أريتريا. أعلن الرئيس السوداني عمر البشير حالة الطوارئ في عدد من ولايات البلاد بينها ولاية كسلا شرق السودان المحاذية لإقْليْم القاش بركة الإريتري، فيما انتقلت المعارضة المسلحة الاثيوبية من إريتريا إلى القاهرة، وقد تكتسب من هناك مكانة سياسية.
بدورها أرسلت اثيوبيا تعزيزات عسكرية إلى قبالة المثلث الحدودي مع جارتها ارتيريا. ونشرت مصر في سواحل ارتيريا أسطولاً من سفن قتالية تضم فرقاطة قادرة على إطلاق صواريخ بعيدة المدى، قادرة على الوصول إلى السودان.
احتمالاتُ الصراع
يظلّ احتمالُ شن إريتريا حرباً على السودان بعيداً لأسباب متعددة منها عدم وجود استقرار وتماسك سياسي في الداخل الإريتري، بالإضافة إلى أن الإريتريين يحصلون على معظم احتياجاتهم الغذائية من السودان. وبالنظر إلى حجم القوات العسكرية وقدراتها وإمكاناتها فالجيش الإرتيري بحالته الراهنة غير قادر على شن هجوم عسكري إلا بدعمٍ من قوات المعارضة السودانية وحركات دارفور ومثل هذا التحالف مازال وارداً وبه قد يتم الهجوم.
السودان وإثيوبيا تعدان العدة لمواجهة محتملة، فإثيوبيا لن تفرط في أمنها وفي حماية سد النهضة بعد أن أنجزت 63% من أعماله، كما أن السودان يسعى لتأمين حدوده كما يسعى لوقف بناء السد بأية طريقة منها العسكرية.
وبقراءة خريطة الصراع وتضاريسها، فمن الصعب على مصر شن حرب مباشرة على إثيوبيا، لبُعد المسافة بين الدولتين، ولن تستطيعَ القاهرة أيضًا شنَّ الحرب انطلاقًا من إريتريا لبُعد سد النهضة أيضاً عن الحدود الإريترية.
احتمالُ قيام مصر بتنفيذ ضربة جوية لسد النهضة يظل واردًا، إذا ما تصاعد الصراع، غير أنه خيار غير آمن تماماً، فقد اتخذت إثيوبيا احتياطات بفرض حظر جوي يمتد إلى داخل العمق السوداني، ووضعت مقاتلات إف 16 الاعتراضية على أهبة الاستعداد، وتسلّمت السودان طائرات السوخوي 35 الروسية ذات الإمكانات العالية وتنسق مع إثيوبيا بشكل مستمر وفق اتّفاقية الدفاع المشتركة.
ما يمكن أن تقدم عليه مصر هو ضرب السودان في عمقه الشرقي بعمليات نوعية خاطفة، لمنع الخرطوم من استضافة القاعدة التركية المحتملة وإنهاء أي وجود محتمل لتركيا في إطار المنافسة الإقْليْمية في المنطقة، كما ستعمل مصر وارتيريا بكل الوسائل؛ بهدف إنهاء التحالف الاستراتيجي بين السودان وإثيوبيا.
ولا يُستبعد ان تقوم مصر واريتيريا بالعمل على زعزعة أَوْ إسقاط النظام الاثيوبي بدعم فصائل المعارضة الإثيوبية، والرهان على حدوث صراع عرقي كبير بين القوميات الإثيوبية خصوصًا أوروميا وأمهرا من أجل إيقاف بناء سد النهضة.
تداعيات الصراع
في حالة اندلاع حرب في منطقة القرن الأفريقي قد تسحب السودانُ قواتِها من اليمن لحاجتها في جبهاتها عسكرياً، وسيكون ذلك قطعاً لآخر الروابط السياسية التي تجمعها بالسعوديّة والإمارات.
سيؤثر الصراعُ الدائرُ في إثيوبيا على أهمّ ممر مائي في العالم بمنطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وسينسف استقرار المنطقة والتأثير على الدول المحيطة. فإثيوبيا، أكبر دول القرن الأفريقي وثاني أكبر الدول سكاناً في أفريقيا.
تداعيات اندلاع حرب أهلية في إثيوبيا لن تتوقف آثارها على تلك المنطقة، بل ستمتد لا محالة لتتأثر بها بعض الدول العربية القريبة منها، وعلى رأسها السعوديّة. كما أن البحر الأحمر الذي يستحوذ على نسبة 13% من تجارة العالم سنوياً، أي صراع في شواطئه سيلحق أضراراً هائلة باقتصادات كُلّ دول المنطقة، كما سيؤثر على اقتصادات دول أُخْـرَى بعيدة كالصين والهند.
تقرير: أنس القاضي – مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية اليمني