المشهد اليمني الأول/
في أقصى شمال اليمن، على الحدود الجنوبية للمملكة السعودية، جبال خضراء تتكىء على بعضها البعض، ووديان حبلى بالفواكه، وسكان منهكمون بالزراعة في الحقول، غير مكترثين بما يدور حولهم. نساء يؤدين رقصة «الواسي» بأزياء تشتمل على كل ألوان الطبيعة. تتناغم أقدامهن مع أقدام الرجال على إيقاعات «المثلوث» و«المربوع» و«البليح» و«المسدوس»، فيما تمتد الأكمام الطويلة للراقصين من الجنسين كأجنحة نسور وحمائم تحلق وسط الجموع. طرب متخم بالدهشة، وموروث ضارب في أعماق التاريخ، وخاصٌّ بإنسان هذه البقاع الذي يؤكد للزائر أن «امتشاق الشمس ليس صعباً على صعدة».
صعدة سلّةُ الرمان ومعمل صناعة البارود ونصالِ الخناجر، أرض القباب والمآذن والأضرحة والمقابر، المدينة المصنوعة منازلها من الطين، والمقتطعة أواني طعام سكانها من الصخر، تنبعث الحياة فيها من وسط الركام. هكذا، يجدد السكان، الذين ألفوا العيش تحت القصف وأزيز الطائرات، يومياً، عهدهم مع الصمود ومواجهة الموت القادم من الشمال، المتخم بالنفط والمال وفتاوى التكفير والقتل.
العزاء عادةً يومية
تحاصرك المقابر أينما يمّمت وجهك في مديريات صعدة التي استوطن الموت فيها خلال سنوات الحرب الثلاث، وصار التنقل بين مجالس العزاء عادة يومية للكثير من سكانها. يباغت طيران «التحالف» المدنيين حتى في أوقات الصلوات، وتقابلك المساجد فيها بمآذن مهدمة وقباب لم يتبقَّ منها سوى هياكل الحديد، في حين تكومّت جدران المدارس فوق بعضها البعض.
في مركز المحافظة المكتظ بالمدنيين، دمّر طيران «التحالف» جانباً كبيراً من جامع الهادي، وفرع البنك المركزي، وديوان المحافظة، ومباني البريد والاتصالات، وعدداً من قاعات التعليم في جامعة صعدة، ومشروع المياه ومحطات الغاز، وجميعها محاطة بالمساكن التي تهدّمت العشرات منها، وقُتل الكثير من قاطنيها. كما أحال القصف الجوي المدينة القديمة المبنية من الطين، والمرشّحة للانضمام إلى قائمة التراث العالمي، إلى أكوام من التراب.
مدير مكتب الصحة في المحافظة، عبد الإله العزي، يفيد، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «عدد الشهداء والجرحى جراء غارات طيران العدوان السعودي منذ آذار/ مارس 2015 وحتى سبتمبر/ أيلول 2017 وصل إلى ألفين و114 شهيداً كحصيلة تقريبية، أغلبهم نساء وأطفال، فيما بلغ عدد الجرحى 8 آلاف و520 جريحاً، بالإضافة إلى ألف و430 معوّقاً». ويلفت العزي إلى أن «مرض السرطان انتشر بشكل مخيف جراء استخدام العدوان للأسلحة المحرمة، حيث بلغ عدد الحالات المصابة 713 حالة».
موجات النزوح
مساء يوم الـ27 من آذار/ مارس 2015، ألقت الطائرات السعودية منشورات على سكان صعدة تطالبهم فيها بالرحيل من منازلهم، مُمهِلةً إياهم 48 ساعة، ليبدأ إثر ذلك القصف الجوي والبري على المحافظة، وتبدأ معه موجات النزوح هرباً من الموت، والتي ما تزال متواصلة حتى اليوم. مدير الوحدة التنفيذية للنازحين، عبد الإله أبو طالب، يلفت، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «عدد النازحين من صعدة منذ مارس (آذار) 2015 وحتى ديسمبر (كانون الأول) 2017، الموثقين في سجلات الوحدة، 250 ألف نازح، القليل منهم في مخيمات في محافظتي عمران وصنعاء، والغالبية إما مستأجرون في منازل شعبية أو مكدسون في المدارس والمباني الحكومية، ولدى أقاربهم في صنعاء والمحافظات المجاورة». والجدير ذكره هنا أن طيران «التحالف» هدم أكثر من 3 آلاف منزل في صعدة، وفق إحصائية صادرة عن المجلس المحلي في المحافظة.
حقول القنابل العنقودية
تُعدّ المديريات الحدودية مع السعودية (رازح، شدا، الظاهر، باقم، حيدان، منبه، الصفراء) الأكثر عرضة لقصف طيران «التحالف»، وتواجِه الفرق الطبية والمنظمات الإنسانية صعوبة في الوصول إليها. يروي سكان محليون من مديرية باقم كيف تحولت مزارعهم إلى حقول للقنابل العنقودية التي تقتل أطفالهم ومواشيهم، حتى «صارت الحياة هنا جحيماً لا يطاق».
مسفر القطابري الذي نزح من منطقته في مديرية شدا بعد مقتل اثنين من أفراد أسرته بانفجار قنبلة عنقودية، يقول لـ«الأخبار»: «لن أتمكن من العودة إلى منطقتي، فالقنابل التي تلقيها السعودية قتلت 2 من أطفالي مع 7 من الأغنام». ويضيف: «كنا نضطر إلى إزالة القنابل بأنفسنا خوفاً من أن يلتقطها الأطفال أو أن تصيب ماشيتهم، ولكن تزايدت أعداد الضحايا ونزحت مع معظم سكان المديرية بعد أن حاصرتنا القنابل، فلا نستطيع رعي الأغنام ولا تتمكن النساء من الاحتطاب، وفي كثير من الأيام كنا نجد قنابل عالقة في الأشجار بالمزارع». في تقرير حديث، أعلنت منظمة «هيومن رايتس ووتش» أنها وثقت ومنظمة «العفو الدولية» استخدام «التحالف» 7 أنواع على الأقل من الذخائر العنقودية المحظورة دولياً، مصنوعة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والبرازيل. وأشارت مديرة قسم الشرق الأوسط في «هيومن رايتس ووتش»، سارة ليا ويتسن، حينها، إلى أن «الوعود المتكررة للتحالف بقيادة السعودية بشن ضرباته الجوية بشكل قانوني لا تُجنب الأطفال اليمنيين الهجمات غير المشروعة»، فيما حذرت كبيرة مستشاري الأزمات في «العفو الدولية»، لمى فقيه، من أنه «من دون جهود منسقة تكفل توقف قوات التحالف بقيادة السعودية عن استخدام الذخائر العنقودية، ومن دون مساعدة دولية عاجلة لتطهير المناطق الملوّثة، فإن تلك القنابل العنقودية سوف تظل على مدى السنوات القادمة تمثل تركة مميتة في اليمن».
معاهد التكفير
ليست القنابل العنقودية وحدها هي التي ألحقت أضراراً بحقول صعدة. ففي سبعينيات القرن الماضي، اقتُلعت أشجار الرمان من وسط وادي دماج ليُشيَّد بدلاً منها، بتمويل سعودي، «دار الحديث» لنشر السلفية الوهابية وعولمة «الجهاد» وتجريف الزيدية. ذَبُلت أزهار الجلنار لتشتعل بؤر الصراع المذهبي، ويعتلي منابرَ المساجد تلاميذُ الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، العائد من السعودية إلى مسقط رأسه، للوعظ بفتاوى محمد بن عبد الوهاب وابن عثيمين وابن باز، والتحذير من خطر تصدير الثورة الإيرانية. وإلى اليوم، لا تزال نسخ من كتاب «الفريضة الغائبة» للمصري محمد عبد السلام فرج، وكذلك كتاب «الخميني في ميزان الإسلام» لباحثَين عراقيَين على رفوف مجالس بعض السكان في شمال اليمن، مُعمَّدة بختم «دار الحديث» في دماج، والذي قام بتوزيعها في العام 1988.
يؤكد أحد تلاميذ الوادعي، لـ«الأخبار»، أن «ابن باز كان على تواصل جيد مع الشيخ مقبل، إذ كان يرعى هذه المجموعة رعاية خاصة وشخصية لعدة سنوات، حرصاً منه على نشر السنة في هذه المنطقة». ويضيف: «رحبت جملة من القبائل بدعوة الشيخ مقبل، وفتحت مناطقها لطلابه الذين كانوا يخرجون للمحاضرات، ونشر السنة في منطقة صعدة التي تُعَدّ قلعة الزيدية الهادوية ومنطلقها في اليمن». خلال الفترة الممتدة بين عامي 1979 و1990، فرضت السلفية حضورها على معظم المساجد في صعدة، مسنودة بالقوة العسكرية لنظام صنعاء، ليتعرض المرجع الزيدي، بدر الدين الحوثي، عقب ذلك للنفي من مناطق سحار وجمعة بن فاضل. لاذ الحوثي بجبال مران، وهناك تكفل الأهالي ببناء مسكن له على نفقتهم، ليستأنف محاضراته تحت شجرة بالقرب من المنزل.
من الصرخة إلى الطلقة
لم تكد تمرّ 5 سنوات حتى كان تلاميذ بدر الدين الحوثي قد أسسوا تنظيم «الشباب المؤمن»، الذي سرعان ما سيتحول إلى حركة كان لحسين بدر الدين الحوثي السهم الأكبر في رسم معالمها الفكرية. تحولت خطب الحوثي في المدارس والمجالس إلى «ملازم» بلغت جامع الهادي في مدينة صعدة، حيث أطلق مؤسس «أنصار الله» وتلاميذه شعار «الموت لأمريكا… الموت لإسرائيل…»، عقب صلاة جمعة حضرها الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، وشيخ السلفية «الإخوانية»، عبد المجيد الزنداني، اللذين غادرا إثر ذلك إلى السعودية لتأدية مناسك العمرة، وعادا بعدها لشنّ الحرب الأولى ضد «المتمردين» في صعدة، والتي انتهت بمقتل حسين الحوثي.
تداعى أتباع الحوثي من مديريات صعدة الـ15 إلى المناطق النائية والخالية من السكان في مطرة ونقعة والرزامات، على مقربة من الحدود الشمالية لليمن مع السعودية. وهناك أعادوا ترتيب صفوفهم خلف شقيقه عبد الملك بدر الدين الحوثي، الذي قاد 5 حروب ضد القوات التابعة لنظام صنعاء والسلفيين و«الإخوان المسلمين»، انتهت في العام 2009 بسيطرة الحوثيين على محافظة صعدة، ومناطق واسعة على الحدود مع السعودية (التي تدخلت مباشرة في الحرب السادسة)، قبل أن ينسحبوا منها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.
من وسط الركام
اليوم، تعيد السعودية الكرّة، صابّة جام غضبها على صعدة. قصف وحشي لطيران «التحالف»، يرافقه ضرب عشوائي لمدفعية حرس الحدود السعودي على المديريات الشمالية، يخلفان بشكل شبه يومي ضحايا في صفوف المدنيين ودماراً واسعاً في المنازل والممتلكات. إلا أن صعدة لا تزال تعجّ بالحركة وتكتظ أسواقها بالعمال القادمين من كل محافظات اليمن للاشتغال في مزارع الرمان والبرتقال، التي تفيض بخيراتها حتى على السعودية. وفي الوقت الذي يلقي فيه الطيران أطناناً من القنابل العنقودية على المحافظة، تتقاطر الشاحنات من المملكة «الشقيقة» يومياً إلى صعدة لنقل الفواكه من سلة الغذاء في اليمن. إلا أنه، حتى هؤلاء الذين «يطلبون الله» كما يُقال في اليمن، لا يسلمون من غارات الطيران. ففي أيار/ مايو من العام 2017، استهدفت طائرات «التحالف» ثلاثة سائقي شاحنات سوريين كانوا قادمين من السعودية إلى صعدة لنقل الرمان، ليباغتهم القصف في منطقة الجعملة في مديرية سحار، وتتناثر أجسادهم أمام ثلاجة مركزية لحفظ الفواكه، مع 15 ألف سلة رمان بعثرتها الغارات في المكان.
«تحرير صعدة» بعيد المنال
لا يكفّ الرئيس اليمني المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، عن التلويح بـ«رفع العلم اليمني على جبال مران»، في وقت «يبشّر» فيه مسؤولوه بشكل دوري بقرب «تحرير صعدة»، من أجل «إخماد الفتنة» التي انطلقت من هناك. لكن وقائع الميدان تثبت أن تلك التصريحات والتهديدات تبدو أقرب إلى التمنيات. فعلى الرغم من إطلاق القوات الموالية لـ«التحالف» غير عملية لاقتحام صعدة، واستقدام مقاتلين سلفيين من جنوب اليمن إلى الحدود مع السعودية للاشتراك في هذه المعارك، لا تزال التشكيلات التابعة للرياض بعيدة عن إحراز تقدم حقيقي في المحافظة. وباستثناء «الإنجازات» التي صوّرها، تكراراً، مراسل قناة «العربية» على جبهة صعدة، محمد العرب، في المكان نفسه تقريباً، لم تبرح قوات هادي مكانها على تخوم المحافظة منذ أشهر طويلة. تصعّب عليها المهمة، التي تبدو أكثر استحالة مع مرور الوقت، الطبيعة الجغرافية شديدة الوعورة في صعدة، وتآلفها مع مقاتلي «أنصار الله» الذين خبروها جيّداً واجتهدوا في تهيئتها لاستقبال المهاجِمين، حتى لتبدو المحافظة في نظر البعض أشبه بثقب كبير يبتلع كل داخل إليه.
(فايز الأشول – الأخبار)