يتعرض ولي العهد السعودي الحاكم الفعلي لبلاد الحرمين لإذلال علني من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو ما أجبره على تبني خطاب أكثر تشددا إزاء فرص التطبيع العلني مع دولة الاحتلال.
ورأى موقع Middle East Eye البريطاني أن العلاقة السرية التي ادعى نتنياهو وجودها مع السعودية، والتي كانت في طور التكوين لسنوات، بدأت تتفكك في غضون أيام. وتحدث نتنياهو عن ذلك صراحة في مقابلة مع القناة 14 العبرية خلال زيارته لواشنطن الأسبوع الماضي.
إذ قال نتنياهو “كانت لدينا علاقات سرية لمدة ثلاث سنوات تقريبا. من جانبنا، باستثناء أنا، كان هناك ثلاثة أشخاص على علم بذلك. ومن جانبهم كان هناك أيضا عدد صغير جدا من الأشخاص الذين شاركوا في هذا، كما كانت الحال على الجانب الأمريكي”.
وذكر الموقع أنه إذا كان هذا صحيحا، وليس مجرد افتراء آخر من افتراءات نتنياهو، فيمكنك إما الكشف عن هذه العلاقة بموافقة الطرف الآخر، أو عندما تنتهي. والاحتمال الثالث هو أن هذا التصريح هو تصرف من تصرفات البلطجة، مثل العديد من التصريحات الأخرى في الأسبوع الماضي.
لكن العلاقة بين المملكة ودولة الاحتلال الإسرائيلي كانت تعتمد على الطموحات الشخصية بقدر ما كانت تعتمد على الطموحات الحكومية. وباعتباره أميرًا غير معروف يواجه معارضة شديدة من أعضاء أقوياء في العائلة المالكة، أدرك محمد بن سلمان أن طريقه إلى السلطة في الداخل يمر عبر تل أبيب وواشنطن.
وبمجرد تنصيبه وليا للعهد، واصل بن سلمان التقرب من “إسرائيل”، وقام بزيارة سرية إلى دولة الاحتلال في عام 2017.
وقد أشاد بالرأي العام اليهودي الأمريكي الذي عبر عن ازدرائه للقضية الفلسطينية، وهو ما تصدر عناوين الأخبار.
وقبل هجوم طوفان الأقصى للمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، كان محمد بن سلمان يقترب أكثر فأكثر من توقيعه على اتفاقيات إبراهيم.
لا مجال للمناورة
وحتى بعد هجوم طوفان الأقصى وشن دولة الاحتلال حرب إبادة جماعية على مدار أكثر من 15 شهرا، واصلت الحكومة السعودية أعمالها كالمعتاد. ولمدة خمسة عشر شهراً طويلة، لم يتم التسامح مع أي احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في المملكة، واستمرت المهرجانات مثل مواسم الرياض بينما بكت غزة.
وحتى رفع العلم الفلسطيني أو الدعاء من أجل غزة من قبل الحجاج في مكة كان محظوراً. ولم يغير عدد الشهداء في غزة، ولا غزو لبنان، ولا العملية العسكرية في الضفة الغربية المحتلة، الخط السعودي.
الإذلال من ترامب
كان ولي العهد السعودي مستعدا لتحمل قدر من الإذلال على يد الرئيس الأميركي دونالد ترمب. فعندما سئل عن الدولة التي سيزورها أولا، قال ترمب إن المملكة سوف تضطر إلى دفع 500 مليار دولار في عقود أميركية مقابل امتياز حضوره.
وبعد مكالمة هاتفية ودية من محمد بن سلمان، وعدت المملكة بتقديم 600 مليار دولار . ثم رفع ترامب الطلب قائلا إن الرقم يجب أن يكون أقرب إلى تريليون دولار.
وقال ترامب في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا: “أعتقد أنهم سيفعلون ذلك لأننا كنا جيدين للغاية معهم” .
وعندما كشف ترامب عن خطته للسيطرة على غزة بعد التهجير الجماعي للفلسطينيين، قال إن فاتورة عملية التنظيف ستذهب إلى دول الخليج، وهو ما كان يقصد به السعودية. وهذا الأمر أثار حفيظة الرياض بشكل خاص.
وتباهى ترامب أيضًا بأن المملكة ستطبع العلاقات علنا مع دولة الاحتلال من دون وجود دولة فلسطينية. ولم يستغرق الأمر من الرياض سوى 45 دقيقة للرد فيما أصبح يُعرف ببيان الفجر والذي لم يترك سوى مجال ضئيل للمناورة.
وأكد البيان السعودي أن المملكة ستواصل جهودها الدؤوبة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ولن تقيم علاقات علنية مع دولة الاحتلال دون ذلك. وقد تصاعدت حرب الكلمات منذ ذلك الحين.
وفي مقابلته مع القناة 14، تظاهر نتنياهو بالنصر. وقال إنه إذا كان السعوديون حريصين على إنشاء دولة فلسطينية، فيمكنهم القيام بذلك على أراضيهم. وأضاف: “يمكن للسعوديين إنشاء دولة فلسطينية في المملكة لديهم الكثير من الأراضي هناك”.
وأدى هذا إلى موجة أخرى من الإدانة من العالم العربي بما في ذلك مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة وكذلك العراق وقطر والكويت.
وفي ثاني بيان لها هذا الأسبوع، الأحد، قالت الرياض إنها ترفض رفضا قاطعا التصريحات التي “تهدف إلى صرف الأنظار عن الجرائم المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الأشقاء الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك التطهير العرقي الذي يتعرضون له”.
ومرة أخرى، لم يترك البيان مجالا للخيال: “إن هذه العقلية المتطرفة الاحتلالية لا تفهم ما تعنيه الأرض الفلسطينية للشعب الفلسطيني الشقيق وارتباطه العاطفي والتاريخي والقانوني بهذه الأرض”.
عصر مضى
في غضون أيام قليلة، أبطل ترامب ونتنياهو كل ما قاما به. كانا هما من ضغطا على الإمارات والبحرين والسودان والمغرب لتوقيع اتفاقيات إبراهيم.
في مقابلته مع قناة فوكس نيوز، لم يخف نتنياهو غرضه من هذه الخطوة، وقال إنها تهدف إلى تهميش الفلسطينيين. كما سخر نتنياهو من الحساسيات السعودية. ويزعم نتنياهو الآن أنه سيفرض السلام على العالم العربي بالقوة، وأن العالم العربي سوف يأتي زاحفاً إليه عندما تنتصر إسرائيل على كل شيء.
وحتى اليوم، كان نتنياهو يبلغ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد رئيس الإمارات أنه سيتعامل معهما كحلفاء. لكنه الآن يقول إنه سيفرض التطبيع عليهم بالقوة، وأن هذه ليست علاقة متساوية، وأن العالم العربي سوف يأتي زاحفاً إليه عندما تنتصر (إسرائيل) على كل شيء.
وقد أجبر كل هذا الآن السياسة الخارجية السعودية على العودة خمسة عقود إلى أيام القومية العربية في عهد الملك فيصل. وللمرة الأولى منذ خمسة عشر شهراً، هناك الآن احتمال حقيقي لظهور خط أمامي للدول العربية، يتكون من البلدان التي كانت هادئة للغاية تجاه دولة الاحتلال.
فقد حذر رئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل، الذي ارتدى كوفية، من “العمل الجماعي” ليس فقط من جانب العالم العربي والإسلامي، بل وأوروبا أيضا.
وأعلنت مصر، أنها ستستضيف قمة عربية طارئة في 27 فبراير/شباط الجاري لبحث “التطورات الجديدة والخطيرة” بعد اقتراح ترامب توطين الفلسطينيين من قطاع غزة.
وبعيداً عن مجرد تحدي جيران (إسرائيل) المباشرين، مصر والأردن، فإن النقل القسري لمليوني فلسطيني من شأنه أن يؤثر على كل دولة عربية، وخاصة السعودية.
ومع تعزيز ترامب لخطط النقل الجماعي، ووصف نتنياهو لها بأنها “الفكرة الأكثر نقاءً وحداثة منذ سنوات”، تزايد التهديد الذي تشعر به العواصم العربية.
إن الحركة الصهيونية الدينية تطالب بأراضٍ أبعد كثيراً من الحدود الحالية مع لبنان وسوريا والأردن ومصر. ولا تتردد دانييلا فايس، زعيمة حركة الاستيطان، في التعبير عن النطاق الإقليمي للأرض التي وعد الله بها اليهود.
وتقول “هذا هو وعد الله لآباء الأمة اليهودية. إنها منطقة تمتد على مساحة ثلاثة آلاف كيلومتر. وهي تقريباً بحجم الصحراء الكبرى. إنها العراق وسوريا وجزء من السعودية”.
يدرك المسئولون السعودية أنها مسألة وقت فقط قبل أن يؤدي التوسع الإقليمي الإسرائيلي إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة على المملكة.
وعليه يرى مراقبون أن محمد بن سلمان أمام فرصة التخلي عن (إسرائيل) والنأي بنفسه عن ترامب بما يمنحه والمملكة الفرصة للعودة إلى المركز الأخلاقي والاقتصادي للعالم العربي والإسلامي.
كما يدرك محمد بن سلمان الآن مدى الشعبية التي اكتسبتها القضية الفلسطينية في بلاده. فوفقا لتقرير مجلة “أتلانتيك” عن محادثته مع وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن، قال إنه في حين لا يهتم شخصيا بالقضية الفلسطينية، فإن 70% من شعبه الذين هم أصغر منه سنا يهتمون بها.
أمام ذلك ماذا سيحصل محمد بن سلمان من مصافحة يدي نتنياهو الملطختين بالدماء في العلن؟ الإجابة أنه اليوم لم يعد هناك سوى قائمة طويلة من السلبيات بالنسبة له في مثل هذه الصورة.