رغم الوضعية التي تصنف فيها “اسرائيل” كأقوى جيش في الشرق الاوسط، إلا أنها تولي اهتماماً أيضاً لمسألة الخسائر البشرية في أي قتال تخوضه أو حرب تشنها. ويكشف هذا الموضوع الاهتمام بالبعد المعنوي للقوات الإسرائيلية بسبب تأثير عدد القتلى والجرحى على حافزيتها القتالية. وبخلاف البيئة الإسلامية التي ترفع من قيمة التضحية وتدرج سقوط المجاهدين: شهداء، جرحى، أسرى أو مفقودين كجزء من عملية الاستنهاض والتحفيز والثمن الضروري لتحقيق النصر، فإن “إسرائيل” تكاد تكون الجهة الوحيدة التي لا تحتفي بمفهوم التضحية والشهادة ولو انطلاقاً من اعتبارات “وطنية” وليست دينية.
تبدو البيئة الداخلية الإسرائيلية غير محفزة لمفهوم التضحية بمعناه الواسع، وتضيقه الى أقل النطاقات الضرورية التي لا يمكن تجاوزها وهو الكلفة البشرية لأي قتال/حرب، باعتباره استحقاقاً ضرورياً، مع غياب أي بعد غيبي في النصوص الدينية اليهودية تحتفي بقتلى اليهود في أي معركة “محقة لهم” (من وجهة نظرهم)، كما تحتفي النصوص القرآنية بشهداء الإسلام. لذلك اهتم من صاغ العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بمسألة العدد المنطقي والمقبول في أي قتال/حرب وتقليصه قدر الإمكان. واعتبر العدد القليل من القتلى معياراً لنجاح أي حرب حتى لو كانت الأهداف كبيرة جداً وكانت المخاطر بدرجة تهديد وجودي.
ملاجئ وصفارات انذار:
تم تحديد مجموعة مكونات أساسية في العقيدة العسكرية الاسرائيلية ترتبط بتقليص الأكلاف البشرية التي سيتكبدها الجيش إلى الحد الأدنى، وكذلك لدى الجبهة الداخلية التي ترجم فيها هذا الأمر على سبيل المثال بمسألة توفير الملاجئ في جميع المناطق لفرار المستوطنين الصهاينة إليها فور إطلاق صفارات الإنذار.
ويتمركز مفهوم الملجأ في الوعي الجمعي الإسرائيلي بوصفه مكان للفرار والاختباء يجب أن يكون جاهزاً في أي وقت ليكون تعبيراً عن درجة الخوف من الموت وليس كتدبير حمائي تقليدي يستحسن توفيره في أي بلد يشن حروباً او يتعرض لها، علماً أن مفهوم الملجأ يتناقض مع مرتكزين أساسيين في العقيدة العسكرية وهما القتال في أرض العدو والحسم السريع لأي حرب.
كذلك يتناقض مع التسويق الدائم لمفردة أن الجيش الإسرائيلي هو الأقوى في الشرق الاوسط، ومع كل تلك المفاهيم المتجذرة في الوعي الإسرائيلي وتم تركيزها لفترة في وعي الخصوم أيضاً، فإن الملجأ يعبّر عن حاجة أساسية تعتبر مركباً جوهرياً في الشخصية الإسرائيلية.
الرقابة العسكرية:
الجانب المرتبط بمؤسسة الرقابة العسكرية الإسرائيلية مفهوم متوافق عليه ومقبول في الوعي الإسرائيلي وأمر مسلم به رغم تنافيه مع مفهوم الديمقراطية وحرية تداول الأخبار والمعلومات بهذا الشأن، وإخضاع كل ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية ونشاطها وإدارتها للحروب وخسائرها البشرية والمادية إلى الرقيب العسكري الذي سيطبق لائحة بروتوكول محكم للتحكم بتدفق المعلومات وخصوصاً المرتبط بالأكلاف البشرية للقتال/الحرب وضمان عدم تأثر القوات والجمهور بالخسائر والسيطرة على نشر الأخبار والمعلومات المرتبطة بها، ووضع قوانين تعاقب من يتجاوز لوائح الرقابة ويعرض الأمن القومي وثقة الجمهور ومعنويات القوات للخطر.
وحتى مفردة الرقابة العسكرية والرقيب العسكري (خاضع لمكتب رئيس الوزراء مع أنه يتبع إدارياً للمخابرات العسكرية) لا تستخدم في العالم بهذا الوضوح كما تستخدم في الكيان الإسرائيلي كمصطلح يعبّر عن مجال تخصصي وعن مؤسسة لها هيكليتها وبرامج عملها ولوائحها وقيودها وفرق عملها. علماً أن عدداً لا بأس به من الدول بما فيها الأكثر ديمقراطية في العالم -كما تصنف نفسها- تمارس الرقابة العسكرية على الأخبار وعلى وسائل الإعلام ولكن بطريقة ناعمة أو غير مباشرة، ولكنها لا تسمي نفسها رقابة عسكرية أو رقيب عسكري.
بروتوكولات خاصة:
في المجال التطبيقي، هناك بروتوكولات خاصة بالتعامل مع القتلى مثل تلك المرتبطة بإعلام ذويهم بمقتل أو إصابة أبنائهم في العمليات والحروب.
لا يعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً عن وقوع قتلى وجرحى أو ينشر أسماءهم إلا بعد إعلام ذويهم. بهذا الاتفاق المسبق يمكن أن يسيطر على انفعالات أهالي العسكريين من خلال أن أي عائلة لم تبلّغ مسبقاً بمقتل أو جرح أو فقدان/أسر أي من أبنائها فإنها تعتبر نفسها غير معنية بالنتائج المتداولة إعلامياً عن خسائر بشرية عسكرية إسرائيلية نظراً لقناعتها الاتفاقية المسبقة أن عائلات المعنيين قد أُبلغت قبل نشر خبر. هذا أسلوب للسيطرة على القلق والمشاعر بحيث تبقى العائلات مطمئنة إلى وضعية أبنائها.
لكن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والصراع السياسي الداخلي واستخدام الإعلام في هذا الصراع قلّص من السيطرة المطلقة لقيادة الجيش على إدارة الخسائر بهذه الكيفية، فضلاً عن أن استخدام العسكريين للهواتف الخلوية أثناء خدمتهم فتح الباب لبعض المبادرات الشخصية في الإبلاغ المسبق للعوائل عن مقتل أو إصابة أو فقدان أبنائهم.
وعندما تنجز مرحلة الإبلاغ للعوائل تنتقل الجهات المختصة إلى مرحلة الإعلان عن عدد القتلى والجرحى ومن ثم نشر أسماء وصور القتلى. وبهذه الطريقة تحاول الرقابة العسكرية أن تبني مصداقية حول إعلاناتها الرسمية من خلال عدم الإنكار ونشر الأسماء والصور والرتب العسكرية ومكان القتل، وتحاول أن تنتهي بهذه “الشفافية” لحسم الرواية النهائية حول نتائج أي عملية عسكرية لأنها في النهاية قد اعترفت ونشرت ما يفترض أن يكون نهائي وغير قابل للنقاش. وتستمر الإدارة الرقابية لهذا الأمر حتى انتهاء مراسم الدفن ضمن إجراءات عامة، مع ملاحظة انتقائية معينة بحيث لا تنشر أخبار ومشاهد جميع الجنازات تبعاً لبروتوكلات خاصة.
ويمكن ملاحظة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية مقيدة بخصوصية الأسماء والصور والجنائز أيضاً نظراً لترتيب إجراءات جزائية ممكن أن تخضع لها قضائياً من قبل ذوي القتلى والجرحى والأسرى أمام المحاكم المختصة.
لكن يمكن أن يحصل تجاوز لهذه البروتوكولات في ظروف سقوط عدد كبير من القتلى العسكريين مثل حرب طوفان الأقصى والحرب الحالية ضد لبنان. ولفت ما نشره أحد الصحفيين (بلال بلبيسي – رام الله المحتلة، وكالة أنباء آسيا) عن صيغة اتفاق مع ذوي القتلى يتولى تقديمه مندوب عن مكتب بنيامين نتنياهو يرافقه مندوب من منظمة “بيت إسرائيل الدولية” يذهبون مع ممثلي الجيش المسؤولين عن إبلاغ العائلات بمقتل أبنائهم في المعارك، وذلك لإبلاغهم بمقتل أبنائهم او إخوتهم أو أزواجهم أو أباءهم العسكريين. وبعد مواساتهم يقدمون لهم استمارة تحوي خطة تعويض إضافية مختلفة عن تعويضات الجيش ووزارة الدفاع تنالها عائلات القتلى من منظمة “بيت إسرائيل” إذا اختارت العائلة عدم الإعلان رسمياً عن مقتل فرد منها.
الخطة تقدم 250 ألف شيكل (67000$) لكل عائلة تختار جنازة عائلية لا يشارك فيها رسميون ولا ممثلين عن الجيش وتجري بعيداً عن الإعلام ولا ينعى الجيش العنصر أو الضابط القتيل لأن في ذلك مصلحة عليا لإسرائيل.
العائلات التي توافق تحصل فوراً على 125 ألف شيكل (33.700$) بعد توقيع الاستمارة التي تضم بنود تجبر العائلات على التزام السرية لخمس سنوات. وباقي المبلغ يدفع للعائلات على أربع أقساط كل ثلاثة أشهر قسط واحد.
مثل هام قدمه “ايلان شجاب” ضابط سابق في “الشاباك” في برنامج حواري في “القناة الاولى” العبرية حول موضوع الرقابة العسكرية يكشف عن الانطباعات المتعلقة بهذه العملية اليومية فقال:
“قرار الرقابة العسكرية عدم نشر ما جاء في ملفات التحقيق في مكتب نتنياهو خطير يوازي عملية يقتل فيها أكثر من 5 جنود إن لم يكن أكثر، ولكم ان تُخمنوا ما الذي يتم التكتم عليه ولا تريد الرقابة العسكرية كشفه واطلاع الجمهور الإسرائيلي عليه”.
انتقاء المفردات بعناية:
يمكن الاستنتاج أن هناك جهداً كبيراً تخصصه الجهات الرقابية المختصة لانتقاء العبارات التي تشكّل جزءاً أساسياً من الحرب النفسية ومن أدوات التحشيد والتعبئة أو الإحباط والترهيب. هناك أدلة اثبات كثيرة يمكن تقديمها لتفسير سلوك العدو في عملية انتقاء المفردات التي تخفف الخسائر إلى الحد الأدنى إلى حد إخفائها إذا استطاعوا، ولعل تسمية العملية البرية بـ”المناورة البرية” هي لحفظ خط الرجعة في احتواء الخسائر الكبيرة وعدم تحميل المؤسسة العسكرية بشكل مبكر تبعات الفشل في هجوم بري مكتمل الأوصاف يقوم به ولكن قرر أن يسميه “مناورة” للاحتفاظ بقدرته اللغوية والإعلامية على تفسير وتبرير الخسائر واحتواء مفاعليها عندما تستدعي الحاجة لذلك.
على سبيل المثال، برز مصطلح “حدث أمنى صعب” كمفردة أولى في الدلالة على نكسة كبيرة أصابت قوات العدو وتكبدها خسائر بشرية كبيرة. وقد استخدمت هذه العبارة في حرب غزة ويكثر استخدامها حالياً في الحرب على لبنان. وهي جزء من أدوات التدرج في الإفصاح عن حقيقة ما جرى من خلال تهيئة الجمهور لإحاطته بما يقرره الرقيب العسكري في نهاية المطاف.
علماً أن مفردة “حدث أمني” لا تتفق وطبيعة الحرب التي لديها أدبيات ومصطلحات خاصة مثل قتال واشتباك وكمين وتفجير وإطلاق وهجوم وغيرها من المفردات المرتبطة حصراً بالحروب والعمليات العسكرية الكبيرة، في حين أن عبارة حدث أمني ترتبط عادة بأيام السلم وبوقائع داخلية وليس بوقائع عسكرية، مع ذلك يلاحظ مواظبة استخدام هذه المفردة من أجل تمييع وقائع المعارك وإخراج الوعي الاسرائيلي وأيضاً وعي الخصم عن التصور الذهني لقتال عنيف جرى أو يجري وخرج منه جيش العدو مهزوماً، فتبدو وكأن الخسائر البشرية ناجمة عن أخطاء أو إهمال أو تعثر ما (مجرد حدث) وليس نتيجة ضراوة المعركة وبسالة الطرف الآخر وفشل العسكريين الصهاينة.
اخفاء المعلومات:
اخفاء المعلومات هو الحصيلة النهائية التي يتوخاها العدو في إدارته لخسائره البشرية وحتى المادية من خلال تكتيكات الرقابة والتدرج في كشف المعلومات والتلاعب بها وانتقاء المفردات وصولاً إلى حجب أمور لا يريد أن يعرف عنها أحد شيئاً، ويبقيها طي الكتمان نظراً لحجم الأثر الذي يمكن أن تتسبب به في الكيان الإسرائيلي وتكون تداعياتها غير محصورة بالمؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية بل بمجمل الوضعية العامة لـ”دولة إسرائيل”.
مثلا يمر خبر مهم جداً على أنه خبر عادي وهو إصابة قائد المنطقة الشمالية في جيش العدو في حادث سيارة كان يستقلها مع قائد المنطقة الوسطى أثناء جولة لهما في المناطق الحدودية المتاخمة لجنوب لبنان. تكتفي وسائل الإعلام بهذا الحدث علماً أن شخصين بهذه الأهمية يجولان في منطقة عمليات خطيرة جداً ضمن موكب كبير ومدرع وليس في سيارة مدنية. كما يمكن للمتلقي أن يتخيل وهو يقرأ هذا الخبر المفرغ من كل الدلالات الأمنية المرتبطة بتواجده في منطقة اشتباك واستهداف يومي مكثف من قبل مقاتلي حزب الله.
خاتمة وتوصيات:
يُستنتج مما تقدم أن الجيش الاسرائيلي لا يقول كل شيء، ويحاول قدر المستطاع التكتم على خسائره أو بالحد الأدنى التخفيف منها، ويستخدم لذلك مجموعة بروتوكولات وإجراءات إدارية وإعلامية أبرزها التدرج في الاعتراف بعدد القتلى والجرحى، وتوزيع الأرقام على فترات زمنية متفاوتة، ويلفق احداثاً يوزع فيها ما تبقى من قتلى عليها، كما يفرض حيزاً خاصاً للاهتمام بالمفردات التي يستخدمها أو يعممها على وسائل الإعلام لاستخدامها وذلك لتفريغ إنجازات الخصم من قوتها الفعلية واحتواء الآثار النفسية على الجمهور الإسرائيلي وعلى القوات العسكرية.
وتستدعي هذه المسألة من الصحفيين ووسائل الإعلام والجمهور التشكيك بالأرقام الحقيقية للخسائر البشرية وحتى المادية الصادرة عن مصادر الجيش الاسرائيلي الرسمية، واستخدام المعلومات المتاحة من وسائل الإعلام ومنصات المستوطنين والمصادر الاخبارية الخارجية في سياق تغطية أي خبر متعلق بخسائر جيش العدو متى توافرت، وإدراج هذه المصادر ضمن أي تقرير إخباري أو مادة إخبارية او تحليلية، خصوصاً عندما تكون متفاوتة في الأرقام لمزيد من التشكيك بدقة ومصداقية الرواية الإسرائيلية الخاضعة دائماً للرقيب العسكري.
كما ينبغي الانتباه الشديد إلى المفردات والمصطلحات التي يستخدمها جيش العدو ومصادره الإعلامية بما فيها بياناته المكتوبة أو تصريحات المتحدث العسكري أو إذاعة جيش العدو، وحتى وسائل الإعلام الإسرائيلية وتفكيكها وتحليلها واستخدام البدائل من المفردات اللغوية الأكثر تعبيراً عن حقيقة ما جرى، والأكثر تأثيراً وفعالية على الجمهور، وإعمال القراءة النقدية السلبية لأي نص أو خبر أو تصريح بهذا الشأن لتحاشي الوقوع في الكمائن الإعلامية والتي لدى الإدارة العسكرية وفريقها خبرة كبيرة في نصبها وإيقاع الإعلاميين ووسائل الإعلام فيها بما يمكن أن يحوّلهم الى أداة طوعية – عن غير قصد منهم- ينفذون برامجها في الحرب النفسية والدعاية الإسرائيلية.