إن الضربة الاستباقية الجريئة التي وجهها اليمن ضد القوات البحرية الأميركية باستخدام أساليب استخباراتية متطورة تُظهر مركزيته الجديدة في محور المقاومة، مع قدرته الفريدة على توفير مظلة ردع لتحالفه بأكمله.
تكرس صنعاء حضورها القوي في المواجهة القائمة في المنطقة. وتنتقل نحو مراحل متقدمة من تبيان القدرة وتثبيت دورها كقوة لا يمكن تخطيها، إن ضمن المواجهة القائمة أو حتى الحضور المستقبلي.
عمليات عسكرية لا تتوقف، بحرا تجاه السفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي، أو واشنطن ولندن، أو من خلال العمليات الصاروخية وبواسطة الطيران المسير الذي يستهدف العمق الإسرائيلي، أو حتى استهداف حاملات الطائرات والمدمرات الأميركية التي ترابض في البحرين الأحمر والعربي وشمال المحيط الهندي، وتنفذ أو تدير عمليات جوية ضد الأراضي اليمنية بهدف إحباط العمليات اليمنية والتأثير في قرار صنعاء في إسناد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
في كل مرحلة، تفاجئ صنعاء الأصدقاء والأعداء، وآخر مفاجآتها معرفتها بتحضير واشنطن لضربة جوية واسعة ضد أهداف يمنية، فعملت على إحباطها، وهو ما أعلن عنه صراحة زعيم أنصار الله عبد الملك الحوثي في خطاب له يوم الخميس 14-11-2024، من خلال استهداف حاملة الطائرات الأميركية “أبراهام” في البحر العربي، ومدمرتين أميركيتين في البحر الأحمر.
عملية إحباط الضربة الجوية
كما هو واضح، في بيان المتحدث العسكري اليمني الذي أذيع في 12-11-2024، فإن القوات المسلحة اليمنية، وعلى مدى ثماني ساعات من ليل 11-11 و 12-11، وجهت ضربات صاروخية استخدمت فيها صواريخ بالستية ومجنحة، وأنواع مختلفة من الطائرات المسيرة، اتجاه حاملة الطائرات الأميركية “أبراهام” التي تنطلق منها الطائرات الأميركية للإغارة داخل اليمن، ومدمرتين كانتا ترابضان في البحر الأحمر.
ميزة العملية ونوعيتها أنها تأتي كضربة استباقية لإحباط عملية جوية واسعة كانت تحضر لها القوات الأميركية، وستطال أهدافا واسعة داخل الأراضي اليمنية، وهو ما لم يخفه العميد يحيى سريع وكذلك الحوثي في خطاب الخميس الذي يستبق تظاهرات يوم الجمعة.
وعلى وقع العملية، وجه الحوثي باستهداف أي حاملة طائرات في البحر، وهو تحذير تزامن مع إعادة القوات المسلحة اليمنية التحذير من عسكرة البحر، والذي لا مصلحة فيه لواشنطن أو حتى دول المنطقة، خصوصا في منطقة حيوية تضم أحد أهم الممرات البحرية الحيوية في العالم.
البنتاغون يقر بالهجوم
بعد ساعات قليلة من إعلان القوات المسلحة اليمنية عن العملية وتفاصيلها، أقر “البنتاغون” بوقوعها، وقال المتحدث باسمه “بات رايدر” إن “الحوثيين أطلقوا صواريخ ومسيّرات باتجاه مدمّرتين أميركيتين في أثناء عبورهما مضيق باب المندب الاثنين”، معلنا عن تمكن المدمرتين من “التصدي للهجوم”. وأوضح أن الهجوم “استخدمت خلاله ثماني طائرات من دون طيار، وخمسة صواريخ باليستية مضادة للسفن، وثلاثة صواريخ كروز مضادة للسفن، وتمّ التعامل معها بنجاح”.
فيما، عملت الآلة الإعلامية الأميركية، وعبر تسريبات، على نفي رصد أي هجوم تعرضت له حاملة الطائرات “أبراهام لينكولن” في البحر العربي، وهو ما تدحضه صنعاء بتأكيد الحوثي أن حاملة الطائرات ابتعدت لمئات الأميال بعد الهجوم مباشرة، مقدما شرحا لعملية تحركها سابقا والمسارات التي كانت تسلكها عادة.
رسائل الهجوم الاستباقي
سبق للقوات المسلحة اليمنية أن وجهت ضربات نحو مدمرات أميركية، وكذلك حاملة الطائرات الأميركية “أيزنهاور” التي استهدفت على مرتين في شمال منطقة البحر الأحمر، لكن العملية الحالية، وفي السياق التي أتت فيه، وتوصيفها على أنها ضربة استباقية حملت جملة من الرسائل والدلالات في الوقت نفسه:
– بينت عن قدرات جمع استخباري ومعلوماتي يمني يتعلق بنوايا عدوانية أميركية وبريطانية.
– بمجرد الحديث عن عملية استباقية، فهذا يعني إحاطة بمخططات عسكرية، ما يعني قدرة صنعاء على اتخاذ تدابير على الأرض والمناورة تجاه أي هجوم وإحباط أهدافه.
– إن القوات المسلحة اليمنية ماضية في تطوير قدراتها التسليحية والمعلوماتية والاستخبارية، وهو ما يعد أحد أوجه التحدي بوجه الأميركيين.
– العملية بحد ذاتها، كما عمليات سابقة، تنذر من يحمل نوايا عدوانية في الإقليم، خصوصا أن ملف الحرب على اليمن لم يغلق بعد.
– معرفة صنعاء بما يحضر له الأميركيون، يعطي مصداقية أكبر لما أعلنته عن توجيه أميركي لدول “العدوان على اليمن” لتحريك جبهات داخلية في محاولة للتأثير في توجه صنعاء في إسناد الشعب الفلسطيني واللبناني وتموضعها ضمن قوى ودول محور المقاومة، ومحاولة إعادتها إلى الداخل اليمني وإغراقها في مشاكل داخلية.
– تعد العملية نقلة نوعية في سياق الاشتباك القائم، ولا يمكن فصل وقائعها عن حسابات المستقبل الذي تخشاه واشنطن بحيث أنها لا تريد الوصول إلى مرحلة لعقد تفاهمات مع صنعاء حول البحر، ما يعد إقرارا بحضور يمني لا يمكن تخطيه، ويفقدها تفوقا بحريا لطالما سعت للحفاظ عليه.
– تؤكد العملية، معطوفة على سابقاتها، بعجز أميركي عن حل الوضع القائم عسكريا، ما يفرض عليها تحريك دبلوماسيتها مجددا، مع العلم أن صنعاء تؤكد أن الحل يبدأ من وقف العدوان على غزة ولبنان معا.
العميد شمسان لـ The Cradle: نجحنا استخبارياً
وفي تصريح لـ The Cradle، يجزم العميد مجيب شمسان بأن الضربة الاستباقية ضد حاملة الطائرات الأميركية أوصلت جملة رسائل للأميركيين أبرزها أن “محاولة الاعتداء وفرض النفوذ، وأن تَضرب ولا تُضرب هو زمن ولى، وأن قدرات وإمكانات صنعاء لم تعد تتعلق بالدفاع عن نفسها، بل إلى حركة العدو العسكرية خصوصا في البحر”.
ومن جملة الرسائل، بحسب شمسان، أن “صنعاء لديها شجاعة الموقف واتخاذ القرار، بل والاستعداد للذهاب إلى أبعد نقطة في المواجهة مهما بلغت التداعيات. ويرى الخبير العسكري اليمني أن محاولة ترهيب اليمنيين وإخضاعهم وعزلهم من خلال تحريك حاملات الطائرات بهدف ردعهم قد أسقط.
ولا يحصر العميد شمسان نتائج العملية وتأثيرها بالأميركيين فقط، بل يعتبر أن “بعض تداعياتها يطال أدوات واشنطن في المنطقة، خصوصا الذين كانت تحركهم لتحقيق أهدافها سواء على مستوى العدوان على اليمن أو لأهداف أخرى، نتيجة تزعزع حالة الثقة”.
وإذ يؤكد شمسان أن لدى صنعاء مخزونها الإستراتيجي ووسائطها الحكومية المتنوعة التي تمكنها من تحقيق أهداف أي عملية عسكرية، يجزم، في المقابل، أنها تعمل على نحو متواصل على تطوير قدراتها.
ويلفت شمسان إلى أن “من ينفذ عملية لمدة استمرت لثمان ساعات في البحر، لديه القدرة الكبرى على تنفيذ عمليات أوسع”، محذرا الأميركيين من الدخول “بمغامرة جديدة مع القوات المسلحة اليمنية لأن نتائجها لن تشبه ما سبق، بل ستتعداه تأثيرا وقوة”. ويشير، في هذا الصدد، إلى أن “صنعاء لا ترمي أوراقها دفعة واحدة، بل تنطلق بشكل متدرج وما وصلت إليه الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة يمكن أن تصل إليه الصواريخ الفرط صوتية مع تأثير مختلف يتعدى التحذير وإجهاض عمليات العدو إلى إصابات مباشرة وخطيرة على حاملة الطائرات”، لافتا إلى أن “الأميركي فهم تلك الرسالة جيدا، وبناء عليه عمل على سحب حاملة طائراته إلى أميال بعيدة”.
وردا على سؤال حول تطور العمل الاستخباري لدى القوات المسلحة اليمنية، يؤكد العميد مجيب شمسان أن “العمل الاستخباري هو نقطة النجاح ورافعة العمليات العسكرية كون المعلومة أساس المعركة وتقدير الموقف وصناعة القرار”، من هنا يرى شمسان أن ذلك دفع صنعاء نحو “الوصول إلى مستوى متقدم في الجمع والمسح الاستخباري إلى حد بعيد، وهنا كانت علامة الاستفهام الكبرى لدى الأميركيين الذين حاولوا إخفاء موقع حاملة الطائرات لفترة طويلة”.
ويؤكد في ختام حديثه أن نتائج المعركة اليوم تبين تسجيل صنعاء نجاحات استخبارية بمستويات عالية في مقابل فشل استخباري أميركي تبينه عدم القدرة على الوصول من خلال الجمع الاستخباري والمعلوماتي إلى تكوين بنك أهداف حول التموضعات العسكرية اليمنية، ولأن جل ما يستهدفه هو تجمعات مدنية لطالما قصفت طوال سنوات العدوان على اليمن.
جملة متغيرات تشهدها المنطقة، منذ ما بعد عملية “طوفان الأقصى”، لعل أبرزها هي المفاجأة اليمنية، وما بين أولى العمليات الصاروخية في 18-10-2023، وعملية 11-11-2024، ثمة حضور يمني فاعل، لا تقف حساباته عند المرحلة ليتخطاها نحو الحضور المستقبلي، إذ إن القاعدة التي يمكن الحديث عن ترسيخها أن الأمن في المنطقة في جزء كبير منه بات مرتبطا بالأمن في اليمن، وهو ما يفرض على الدول المناوئة لقوى ودول محور المقاومة، وعلى رأسها واشنطن، تغييرا في مقارباتها، إذ إن تخطي اليمن بات من الماضي، ووفق ما ترى صنعاء، فإن تخطيها دفن مع بدء ثورة الرابع عشر من أيلول/سبتمبر عام 2014، عند بتر اليد التي سيطرت على القرار اليمني على مدى عقود من الزمن.
إن الدور الذي لعبه اليمن في دعم القضية الفلسطينية يعني أيضاً أن “إسرائيل” وحلفاءها لا يستطيعون أن يمحوا الحطام المدمر الذي خلفته تلك الحروب عبر “وقف إطلاق النار” لأن ذلك لن يحل “مشكلتهم اليمنية”. وعلى الرغم مما يحدث في المنطقة، فإن اليمن، الدولة الاستراتيجية سوف تحمل مفاتيح العديد من القرارات الإقليمية وقرارات المقاومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خليل نصر الله