ترددت كثيراً على ألسنة المسؤولين الصهاينة مقولة “جيشنا هو أكثر الجيوش التزاماً بالمعايير الأخلاقية في الحرب”. وهي مقولة يفنّدها الواقع الذي يشهد على أن هذا الجيش مجرد قطيع من العصابات فضحتها ممارسات عدوانه على غزة التي تعد حلقة في تاريخه الملطّخ بالإجرام.
تتفق روايات الأسرى ممن أفرج عنهم أخيراً مع آخرين عايشوا بدايات الثورة الفلسطينية، بأن سجون الاحتلال الإسرائيلي تشهد أنواعاً من التعذيب هي الأكثر فظاعة بشاعة وسادية، بشكلٍ لا يتصوره عقل، لكن شهادات أسرى ما بعد الـ7 من أكتوبر، تختلف تماماً عما عايشه الأسرى قبل بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
فما بين الوحشية والإنسانية.. هكذا يبدو المشهد عند مقارنة شهادة الأسيرة الإسرائيلية “ليئات أتزيلي”؛ شاهدة على ظروف احتجازها ومعاملتها الحسنة من المقاومة في غزة، وبين الشهادات المروعة من المعتقلين الفلسطينيين المفرج عنهم من سجون الاحتلال.
شهادة ترويها الأسيرة الإسرائيلية السابقة “ليئات أتزيلي”
عبر صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، جاءت شهادة “أتزيلي” لتلقف إفك الاحتلال ودعايته المضللة عن عنف مزعوم تعرض له أسرى الاحتلال في غزة. تقول: “تلقيت معاملة حسنة وقدم لي الطعام الذي طلبته، كنت أتحرك بحرية في البيت الذي احتجزت فيه”.. هذا ما قالته الأسيرة الإسرائيلية، التي أفرج عنها في نوفمبر العام الماضي، كجزء من هدنة استمرت أسبوع.
وتضيف أنها في الثامن من أكتوبر نقلتْ إلى شقة، وهناك التقت بالعمال التايلانديين، والتقت بأسيرة أخرى وهي “آيلانا غريتزويسكي”، مشيرة إلى أن بقائهما معا أضفى جوّاً من الارتياح جعلهما تتشاركان الحديث والمشاعر بينهما، بل وحتى مع عناصر المقاومة التي كانت تحرسهما مما زرع نوعاً من الثقة بينهم.
وعن خوفها من كونها امرأة محتجزة لدى رجال، قالت: إنها كانت مرتابة جداً في البداية وتخشى من حدوث شيء، أو أن تتعرض لاعتداء جنسي، لكن بعد ذلك تأكدت أن كل شيء كان على ما يرام، وأنهم كانوا ملتزمين بالحدود”.
وتشير الأسيرة السابقة “أتزيلي” إلى إن حراسها اندهشوا من كونها نباتية، وسألوها “إذن، ماذا تأكلين؟” فأجابت أنها تحب “البيتزا” كثيراً فذهب أحدهم بدراجته وأحضر “بيتزا” من “كريسبي بيتزا” في “خان يونس”، بعد ذلك طلبت الفواكه والخضراوات وأحضروها، وتقول: “لقد عاملونا بإنسانية بطريقة جعلت من الممكن لنا أن نجتاز تلك الفترة على ما يرام، في المجمل”.
فصول من الوحشية والسادية
وأمام تلك الصورة التي تعكس أرقى صور الإنسانية، في المقابل كانت مشاهد الأسرى المفرج عنهم تحكي فصولاً من الوحشية والسادية لا يمكن تخيلها.. وجوه شاحبة وشعر رأس ولحى طويلة، وملابس رثة، وجروح وندوب في أنحاء متفرقة من الجسد، بعد أن حولت قوات الاحتلال سجونها ومراكز التوقيف إلى مسالخ للتعذيب السادي والانتقام والعقاب من الأبرياء لمحاولة الانتصار عليهم من انتقام مما حدث في 7 أكتوبر.
يقول أحد أسرى غزة المفرج عنهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إن نحو 30 جندياً تناوبوا على ضربه خلال وقت قصير من اعتقاله في ديسمبر الماضي. ووثق المركز الفلسطيني للإعلام شهادة المحرر “زين الدين”، والذي اكتفى بالتعريف عن اسمه الأول، مبيناً أنه أمضى 25 يوماً في سجون الاحتلال دون أن يعرف المكان الذي احتجز فيه.
ويروي الشاب أنه تعرض لأنوع مختلفة من التعذيب والحرمان، كالشبح المستمر طوال أسبوع والضرب على مختلف أماكن جسدنا، والحرمان من قضاء الحاجة أو الحصول على الماء. ويقول: “طلبت ذات مرة من أحد الجنود الماء. سألني الجندي عن حاجتي للماء حقاً، فأخبرته بأنني أشعر بالعطش، فطلب مني فتح فمي وبصق بداخله”.
خسر “زين الدين” 20 كجم من وزنه في السجن وبصحة متردية وبعظام مكسرة، مبيناً أن الأسرى يحرمون من تناول الطعام لفترات طويلة. وأضاف: “يعطوننا طيلة اليوم قطعة من الخبز، مع قطعة صغيرة من الجبن، بالكاد تكفي طفل صغير، إضافة لحرماننا من النوم ومن الاستحمام”.
ويصف الشاب الأيام التي قضاها في المعتقل بأنها “جنهم”، مشدداً أن كل ما يمكن تخيله من أساليب تعذيب تعرض لها رفقة الأسرى، من ضرب همجي وسب وشتم، وإجبار على ترديد مسبات للأمهات والأعراض، وتعمد بعض السجانين شتم ديننا والنبي محمد”.
ويلخص “زين الدين” شهادته عن سجون الاحتلال بأن “الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، لهول ما يتعرض له الأسرى من بشاعات وانتهاكات وظلم كبير لا تطيقه الجبال”.
حفلات التعذيب والترويح عن النفس
ووفق شهادات نشرتها هيئة شؤون الأسرى، فإن معظم أسرى قطاع غزة، تعرضوا للإغماء، عدة مرات خلال التعذيب، بينما بات شائعاً في السجون ما يسمى بـ “حفلات التعذيب”، حيث يجمع سجانو الاحتلال الأسرى في ساحة معينة، ويمارسون بحقهم تعذيبًا ساديًا ووحشيًا مروعًا.
ثلاثة من الأسرى زارتهم الهيئة ونقلت عنهم محاميها شهادات مروعة، جاء فيها: “نتعرض لفاشية حقيقية، تعرية من الملابس، وضرب وتعذيب وتنكيل، وتقييد الأيدي والأرجل، وتعصيب العينين”. ويضيف الأسرى الثلاثة أنهم حولوا إلى فرائس لهذه الوحوش المسعورة، التي تتلذذ بجوعنا وعطشنا وصراخنا، ومرضنا، لدرجة أننا لسنا متخيلين أننا على قيد الحياة.
وتتابع الهيئة سرد شهادة الأسرى: “رحلة الموت تبدأ من لحظة الاعتقال، مرورًا بالنقل في العربات والشاحنات العسكرية، وصولاً إلى السجون التي تمنينا الموت قبل أن نصلها، لما رأيناه من حقد وجنون، من جنود في بدايات أعمارهم، ينكلون بنا، ويعذبونا بشكل لا يوصف”.
ويضيف الأسرى الثلاثة: “منذ اعتقالنا، نقضي معظم وقتنا جالسين على أقدامنا، أو منبطحين على بطوننا، واستخدمت الكلاب في ترهيبنا، والاعتداء علينا، لا نبالغ إن قلنا أن معظم أسرى غزة فقدوا الوعي مرات عدة بفعل التعذيب الممنهج”.
تجويع وتعذيب وحشي
وتطابقت شهادات أسرى من غزة أفرجت عنهم سلطات الاحتلال قبل أيام، مع محررين آخرين أكدوا تعرضهم للتجويع، وأنهم لم يشبعوا منذ 7 أكتوبر الماضي، “فما كان يقدم لهم سوى وجبات سيئة وبملاعق معدودة”. وأوضحوا أن الأسرى يحرمون من الماء لمدة 23 ساعة، وخلال ساعة واحدة عليهم قضاء كل احتياجاتهم من الماء شربًا ووضوء ونظافة.
ويشير الأسرى إلى استخدام جنود الاحتلال أساليب متعددة للشبح، وبوضعيات مختلفة، ولساعات طويلة، أشدها قساوة أسلوب شبح “الموزة”، وتقييد أيدي الأسرى بأرجهم من الخلف وهم جالسون على الكراسي، وإجبارهم على الوقوف لفترات طويلة وقضاء حاجتهم وقت الشبح.
ووثقت تقارير حقوقية عديدة لمؤسسات نادي الأسير، وهيئة شؤون الأسرى، تعرض الأسرى لإهمال طبي كبير وحرمان من الرعاية الطبية تسبب بانتشار الأمراض الجلدية، وإطلاق الكلاب البوليسية الجائعة على الأسرى لنهشهم.
وبينت التقارير أن نتائج التعذيب الوحشي تسبب في استشهاد عشرات الأسرى، وبتر أعضاء وأطراف آخرين، وفقدان بعضهم الذاكرة، مشيرة إلى أن الأسرى الذين أفرج عنهم خرجوا بأجساد منهكة ونقصان مرعب في الوزن قد يصل 40 كيلو جرام في 6 أشهر.
“أهلا بكم في جنهم”
“أهلا بكم في جنهم”، هو عنوان تقرير موسع نشرته منظمة “بتسليم” الحقوقية الإسرائيلية، وهي الجملة التي استقبل بها أحد الجنود مجموعة من أسرى غزة، مؤكدة أن تحول السجون إلى شبكات للتعذيب الممنهج.
ويسرد التقرير بشكل مفصل أدوات التعذيب التي يستخدمها الاحتلال في سجونه، مثل: غاز الفلفل، وقنابل الصوت، الهراوات الخشبية والحديدية، ومسدسات صعق الكهرباء، الكلاب المتوحشة، والضرب، واللكم، والركل، والشبح، وتعصيب الأعين لساعات وأيام وأسابيع طويلة.
كما يشمل التعذيب تقييد الأيدي والأرجل على مدار الساعة ولأسابيع طويلة، وشدها بشكل يؤدي إلى تلف الأعضاء وبترها، وإجبار الأسرى على طأطأة الرأس في وضعية القرفصاء والنوم على البطون لفترات طويلة جدًا.
وأورد تقرير “بتسليم” أدوات أخرى للتعذيب، منها: “الضرب الشديد بالهراوات، والأحذية العسكرية، وكوابل الكهرباء على مختلف أنحاء الجسد، وضرب الأسرى على المناطق الحساسة”.
ووثقت المؤسسة الحقوقية تعرض أسرى لأساليب تعذيب مروع كسحب العضو الذكري والخصيتين، والضرب بالمطرقة على الظهر والخصيتين، إلى جانب الاعتداءات الجنسية بوضع عصي أو أدوات حادة داخل الدبر، أو حتى من الكلاب البوليسية”.
وتفيد معطيات نادي الأسير الفلسطيني باستشهاد 23 أسيرًا من غزة عرفت هوياتهم تحت التعذيب في معسكر “سديه تيمان”، مؤكدة إخفاء الاحتلال هويات العشرات من معتقلي غزة الذين استشهدوا في سجونه ومعسكراته.
تعذيب واعتداءات جنسية
ووثقت مجلة (+972) الإسرائيلية عدة حالات اغتصاب واعتداءات جنسية بحق أسرى فلسطينيين من قطاع غزة في سجن “سدي تيمان” الإسرائيلي الذي وصفته بأنه أكثر فظاعة من سجني “غوانتانامو” و “أبو غريب” الأمريكيين.
وبحسب المجلة، فقد احتجزت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من أربعة آلاف فلسطيني في القاعدة العسكرية في النقب منذ السابع من أكتوبر، وقد تم الإفراج عن بعضهم فيما بعد، ولكن أغلبهم ما زالوا رهن الاعتقال الإسرائيلي.
والأسبوع الماضي، أكدت صحيفة “هآرتس” أن المحكمة العليا الإسرائيلية أمرت السلطات بتوضيح ظروف اعتقال أسرى قطاع غزة في معتقل “سدي تيمان”، ونقلت الصحيفة عن محامية إسرائيلية تأكيدها أن احتجاز المعتقلين في “سدي تيمان” من شأنه أن يرقى إلى جريمة حرب، مضيفة أن احتجاز المعتقلين فيه “لا يمكن أن يستمر دقيقة أخرى”.