النظام الاقتصادي العالمي الذي كان يركز على أولوية الدولار يتفكك ببطء، ما يؤدي إلى تفاقم خطر عدم الاستقرار إلى حد كبير حيث تتوالى الأخبار من هنا وهناك عن دول بدأت بفك ارتباطها بالدولار والاتجاه للتجارة بالعملات الأخرى.
قصة بداية الهيمنة
في يوليو 1944، شارك ممثلو 44 دولة في العالم، في مؤتمر بعنوان “بريتون وودز”، والذي عقد في فندق ماونت واشنطن الواقع في ولاية هامبشاير بالولايات المتحدة الأمريكية، بهدف واضح هو تحقيق استقرار الظروف الاقتصادية والسياسية للعالم، أنشأ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في هذا المؤتمر، كما قبل الأعضاء الدولار كعملة دولية بسعر ثابت قدره 35 دولارًا للأونصة من الذهب، وكتبوا نظامًا نقديًا جديدًا للاقتصاد العالمي، والذي أصبح يعرف باسم نظام تبادل الذهب بريتون وودز. استمر هذا النظام حتى عام 1971 م.
لمدة 27 عامًا، لعبت حكومة الولايات المتحدة، مع إدارة البنك المركزي للبلاد، الاحتياطي الفيدرالي، دورًا رئيسيًا في إدارة الاقتصاد العالمي، وإعادة بناء اليابان وأوروبا بعد الحرب العالمية، واستخدام تسهيلات البنك الدولي و صندوق النقد الدولي. من ناحية أخرى، اعترفت هذه الدول بهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي وعززته.
في عام 1967م، ظهرت أولى آثار الأزمة في نظام “بريتون وودز” النقدي بعد إعادة البناء الاقتصادي لليابان وأوروبا الغربية، أنشأت الولايات المتحدة منافسًا للاقتصاد الأمريكي على المسرح الدولي. في الوقت نفسه، فرض استمرار الحرب المكلفة للولايات المتحدة في فيتنام تكلفة باهظة على اقتصاد هذا البلد. تسببت هذه العوامل، إلى جانب بعض الحالات الأخرى، في اهتزاز مكانة الدولار في أذهان العالم، حتى أن عددًا من الدول طلبت من البنك المركزي الأمريكي تحويل دولاراتها إلى ذهب بناءً على قواعد “بريتون وودز”.
استمرت هذه العملية التي جعلت العالم يصبح دائناً رئيسياً وأمريكا مدينًا رئيسيًا لعدة سنوات. في عام 1971، وصلت إلى مرحلة حرجة عندما طلبت إنجلترا تحويل 3 مليارات دولار من احتياطياتها من العملات إلى ذهب. نتيجة لهذه الأزمة اضطرت إدارة نيكسون إلى تعليق العلاقة الثابتة البالغة 35 دولارًا للأونصة من الذهب وتعويم الدولار في أغسطس 1971.
تسبب انتهاء نظام “بريتون وودز” في حدوث تضخم حاد في أوائل السبعينيات وهبوط حاد في قيمة الدولار. وقد تسبب هذا في قيام العديد من الدول الأعضاء في أوبك بتسعيرها على أساس سلة من العملات المختلفة بدلاً من بيع نفطها بالدولار من أجل منع انخفاض القوة الشرائية لدخل مبيعاتها النفطية. أدى انخفاض الطلب على الدولار وضعفه إلى وضع الدولار على وشك الانزلاق في أزمة عميقة. تعاون المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة كأكبر منتج للنفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، والذي حدث بعد اتفاقات إدارة نيكسون وراء الكواليس مع آل سعود، أنقذ الدولار من الأزمة.
اتفقت المملكة العربية السعودية على الاستمرار في تسعير وبيع النفط بالدولار إلى جانب الزيادة في أسعار النفط بمقدار أربعة أضعاف، وهو ما يعتبره بعض المنظرين خطوة ذكية صممتها ونفذتها الولايات المتحدة، ما أدى مرة أخرى إلى زيادة الطلب على الدولار و وضع الدولار كعملة دولية ثابتة. هذه الفترة، التي تعرف بنظام “البترودولار” ، تقوم على استخدام النفوذ السياسي من قبل الولايات المتحدة لإجبار الدول المنتجة للنفط، وخاصة أوبك، على استخدام الدولارات في تسعير وبيع نفطها والحفاظ على المركز الأول للدولار.
بناءً على هذا النظام، أولاً، تم توقيع عقد من قبل “هنري كيسنجر” وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، بين المملكة العربية السعودية وحكومة الولايات المتحدة، مع إنشاء اللجنة المشتركة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة للتعاون الاقتصادي، هذا التفويض السخي أعطي للسعوديين! لقد تم استخدام الدولارات الفائضة لشراء سندات الخزانة الحكومية الأمريكية. من ناحية أخرى، تم تكليف بنوك لندن بمهمة إقراض الدولارات الفائضة التي كانت متداولة في الاتحاد الأوروبي إلى الدول المستوردة للنفط حتى يكون لديها الدولارات اللازمة لشراء النفط وبهذه الطريقة، نجح الدعم الهادف لحكومة آل سعود للولايات المتحدة وإقامة نظام “بترودولار” في تأجيل تراجع الدولار قرابة ثلاثة عقود.
العالم أحادي القطب بعد الحرب الباردة يقترب من نهايته
هل هي بداية انهيار الدولار ؟!
هناك قضيتان صغيرتان لكنهما مهمتان للغاية في الأشهر القليلة الماضية كانتا إشارات مبكرة على أن النظام الاقتصادي العالمي الذي يركز على أولوية الدولار يتفكك ببطء، ما يؤدي إلى تفاقم خطر عدم الاستقرار إلى حد كبير.
أولاً، أعلن وزير المالية السعودي أن المملكة العربية السعودية ليس لديها مانع من بيع نفطها بعملة أخرى غير الدولار. وكانت السعودية قد أرسلت إشارات مماثلة من قبل. ومع ذلك، فإن الاقتراح الأخير جاء بعد زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال حضوره الاجتماع الأول لرؤساء الدول العربية والصين، والذي نظمه ولي عهد المملكة العربية السعودية، محمد بن سلمان وطلب الرئيس الصيني من دول الخليج الفارسي قبول اليوان لتسوية تجارة النفط والغاز مع الصين.
وهذا يعني أن المملكة العربية السعودية وروسيا ، أول وثاني أكبر مصدرين للنفط في العالم ، لم تعد تتطلع إلى تجارة النفط بالدولار وحده.
في السنوات الأخيرة، أقامت المملكة العربية السعودية علاقات أوثق مع الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم. في قمة ديسمبر، كرر الجانبان “دعمهما القوي” لبعضهما البعض ووقعا سلسلة من الاتفاقيات الخاصة بالتجارة والتكنولوجيا. وشمل ذلك مذكرة تفاهم مع شركة هواوي الصينية العملاقة للتكنولوجيا لتوفير الحوسبة السحابية والبنية التحتية عالية التقنية للمدن السعودية في تحد للحظر الأمريكي.
على الجانب الآخر من العالم، أعلنت البرازيل والأرجنتين أنهما ستتطلعان أيضًا إلى استخدام عملة جديدة للتجارة الثنائية، هذه المرة إنشاء عملة جديدة تمامًا، من المحتمل أن يطلق عليها “سور”. في وقت سابق، تم اتخاذ تدابير لإنشاء عملتين مشتركتين للبرازيل والأرجنتين، ولكن بسبب المعارضة القوية للبنوك المركزية في كلا البلدين، كانت هذه العملات تكافح لأسباب سياسية.
الآن مع وجود حكومات يسارية ومستقلة في كلا البلدين، هناك رغبة أكبر في إنشاء عملة جديدة منفصلة عن نظام الدولار. تشير التقارير الأولية إلى أنه تم التخطيط لاستخدام الأداة فقط في التجارة الخارجية وتسوية مدفوعات المعاملات عبر الحدود. يدرك كلا البلدين التعقيدات المحتملة، ولكن من خلال دعوة دول أمريكا الجنوبية الأخرى للانضمام إلى مجموعة مستخدمي تلك العملة، يمكنهم جعل العملة الجديدة تعمل كبديل للدولار بمرور الوقت.
بدأت الاقتصادات الكبرى في التراجع عن النظام العالمي الذي يهيمن عليه الدولار. منذ نهاية الحرب الباردة، نعيش جميعًا في عالم كان فيه الاقتصاد الأمريكي ومعه الدولار في غاية الأهمية.
الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحول
لقد أدت العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على روسيا منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير – شباط 2022 إلى تفكير العديد من الدول في خفض الاعتماد على العملة الأمريكية.
في بداية الحرب كما يذكر الجميع، أجبرت روسيا الدول التي تسمّيها “غير الصديقة” على دفع مستحقات الطاقة من غاز وبترول لها بالروبل الروسي. وفي أحيان أخرى، بدا أن هناك توافقاً بين موسكو وشركائها التجاريين الآخرين لإلغاء الدولار من المبادلات التجارية بشكل كليّ أو جزئي.
وهذا ما حدث في حالة الهند التي تتعامل حالياً مع روسيا بالروبية والروبل، والتي أبرمت صفقة كبيرة مع الكرملين يوم أمس الأربعاء، من أجل زيادة كبيرة في تجارة النفط.
روسيا أيضاً أعلنت مؤخراً أنها ستتخلى عن الدولار كلياً في مبادلاتها التجارية الدولية، لا فقط على صعيد المبادلات التجارية الثنائية، وستستبدل الدولار باليوان الصيني.
وطبقاً لوكالة بلومبرغ، بدأ ما لا يقل عن 12 دولة في أمريكا الجنوبية في تجارب للتخلي عن الدولار.
في يناير – كانون الثاني الماضي، قالت السعودية، المنتج العالمي الأكبر للنفط، إنها منفتحة على فكرة التداول بعملات أخرى غير الدولار الأمريكي، وهي في مفاوضات مع الصين من أجل استبدال الدولار باليوان.
هناك أنباء أيضاً عن احتمال تأسيس تحالف اقتصادي صيني سعودي روسي إيراني، وعن احتمال انضمام طهران والرياض إلى مجموعة بريكس التي تضمّ خمسة أعضاء حالياً. كما تخلت الصين عن التعامل بالدولار مع روسيا وباكستان وعدة دول أخرى.
وكثفت دول مثل بنغلادش وكازاخستان ولاوس مفاوضاتها مع الصين لتعزيز استخدام اليوان الصيني في التعاملات التجارية كما بدأت الهند منذ أشهر قليلة في تأمين آلية دفع ثنائية مع الإمارات العربية المتحدة بالروبية الهندي.
الدافع الرئيسي لهذه الخطط هو العقوبات الغربية ضد موسكو وتحرك الولايات المتحدة وأوروبا لعزل روسيا عن نظام الرسائل المالية العالمي المعروف باسم SWIFT وذلك في أعقاب الحرب في أوكرانيا، وهو ما أثار مخاوف من أن يصبح الدولار أداة سياسية علنية بشكل دائم.
كذلك أدى قرار الولايات المتحدة باستخدام عملتها كسلاح سياسي واقتصادي إلى زايدة الضغط على الاقتصادات الدول الآسيوية التي لا تملك نظام دفع بديل وهو ما سيعرض تلك الدول أو غيرها لخطر الإجبار على الامتثال لأي عقوبات أمريكية محتملة ويؤدي إلى خسارتهم للتجارة مع الشركاء الدوليين.
كيف سيؤثر ذلك على الولايات المتحدة؟
عندما زار شي جين بينغ موسكو سابقاً هذا الشهر والتقى ببوتين، تسرّب مقطع فيديو قصير له خلال وداع بوتين. خلال الثواني المعدودة، قال شي لسيّد الكرملين الذي يسمّيه دائماً “صديقه المقرّب”، “إن العالم يتغيّر كما لم يحصل منذ 100 عام ونحن [أي بكين وموسكو] نقود هذا التغيير”.
ومع أن الكرملين لم يعلّق على ما قاله شي، ذكرت وسائل إعلام أن ما جاء على لسانه لم يكن من المفترض أن يكون مصوّراً وأن يتسرّب. مع ذلك، يرى خبراء أن الفعل كان مقصوداً بهدف إرسال رسائل سياسية.
الأمريكيون من جهتهم يرون في السعي الصيني إلى وضع اليوان على الساحة الدولية كبديل للدولار، تهديداً كبيراً. وتقول مونيكا كرولي، إحدى المساعدات السابقات لوزير الخزانة في الولايات المتحدة، إن تخلي الاقتصادات الناشئة عن الدولار “سيكون كارثياً على الاقتصاد الأمريكي”.
وتضيف كرولي إن الدولار كان أكثر العملات أماناً منذ الحرب العالمية الثانية، وكان مدعوماً بثلاثة أمور:
الذهب [الذي تخلى عنه الرئيس السابق ريتشارد نيكسون]
الاقتصاد الأمريكي القوي
المبادلات النفطية التي كانت كلها بالدولار
ويبدو أن السعودية تلعب دوراً حاسماً بالنسبة إلى كرولي التي ترى أنه إذا انتهت هذه المبادلات بالدولار، فذلك يعني نهاية عصر الدولار الأمريكي.
ومن أجل توخي الدقة، يجب التذكير أن كرولي مقربة من الجمهوريين وأنها عيّنت في منصبها السابق في وزارة الخزانة من قبل دونالد ترامب، وأنها عملت لفترة طويلة في فوكس نيوز المناوئة للرئيس الحالي جو بايدن.
وتنتقد كرولي السياسة الاقتصادية المالية للولايات المتحدة حيث طبعت الولايات المتحدة “الدولارات بطريقة جنونية” وتقول إن البلاد تواجه عاصفة اقتصادية حالياً، يؤججها النزاع في أوكرانيا وأسعار الطاقة والتكتل الجديد الذي تؤسسه الصين شيئاً فشيئاً.
وتضيف كرولي أن السعودية لو وافقت على التخلي عن الدولار في تجارة النفط ستشهد الولايات المتحدة “ارتفاعاً حاداً في التضخم” مضيفة “إذا كنت تعتقد أن التضخم سيء اليوم، عليك فقط أن تنتظر وسترى”.
تداعيات خطيرة على الصعيد الدولي
ليس باستطاعة أمريكا تسديد ديونها لا اليوم ولا بعد ألف سنة، إلا بتغيير معدلات الضرائب وحصول فائض في الميزانية السنوية يتجاوز الفوائد السنوية المستحقة على الديون، وهذا يحتاج إلى رفع نسب الضرائب بنحو 50%، وهذا أمر مستحيل لأنه يتعارض مع مصالح النخبة الحاكمة الفاسدة.
ميزانية كل سنة لا تنفق في يوم واحد، وإنما على طول السنة المعنية، وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية باستطاعتها تحويل أموال الميزانية الحالية من دائرة لأخرى، وتقديم بعض البرامج وتأخير بعضها الآخر؛ إذ تقول وزيرة الخزانة إنه يمكن الاستمرار في المفاوضات بشأن رفع سقف الدين حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو دون التأثير سلبا على سير الأمور.
ولكن الفشل في رفع سقف الدين العام قبل انتهاء هذه المدة من شبه المؤكد سيتسبب في تراجع ثقة الكثير من دول العالم ومؤسسات اعتماد مصداقية العملات، أو ما يسمى تحديد الجدارة الائتمانية لمختلف العملات والدول، بما فيها الدولار وأمريكا.
وبالطبع مع انخفاض مستوى الثقة بالعملة الأمريكية وقدرة أمريكا على سداد التزاماتها فإن من المتوقع أن تؤدي ردود الفعل إلى حصول تخبط كبير في الأسواق العالمية عامة، وتراجع أسعار الأسهم بنسب كبيرة.
وإذا استمرت الأزمة بضعة أيام دون بصيص أمل في التوصل إلى اتفاق بين الحزبين لإنهائها، فإن الأزمة قد يتسع نطاقها ليشمل تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى أقل من الصفر، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، وقيام البنوك برفع معدلات الفائدة على القروض بالنسبة للأشخاص والشركات والدولة.
بداية نهاية الدولار
خفض الجدارة الائتمانية للدولار، المصنف كأكبر عملة احتياط في العالم، من شأنه في الأحوال العادية أن يتسبب في انخفاض قيمة الدولار ودوره كعملة احتياط عالمية، لكن عدم وجود عملة بديلة في الوقت الراهن، وخاصة في ضوء تراجع قيمة اليورو، فإنه من المتوقع أن يجعل التأثير السلبي على قيمة الدولار ودوره قليلا.
وصول الاقتصاد الأمريكي إلى حافة الانهيار، وارتفاع معدلات الفائدة على القروض، وزيادة أعداد العاطلين عن العمل، وانخفاض أسعار الأسهم في أسواق المال هي بعض النتائج المرتقبة في حال حدث ما يرغبه الكثيرون.