لقد أثبت أسلوب أردوغان في الحكم في العقدين الماضيين، أنه يستطيع مصافحة أهم أعدائه بحرارة دفعة واحدة، ووصفهم بأصدقائه المقربين دون أي خجل أو إحراج، حتى لو كان ذلك الشخص هو قاتل خاشقجي، أو محمد بن زايد العدو اللدود للإخوان المسلمين، وكما يدعي الأتراك أنفسهم، أحد الداعمين الرئيسيين للانقلاب الفاشل في عام 2016، أو الجنرال العسكري الذي أطاح بحكومة الإخوان في مصر، أو حتى بنيامين نتنياهو، جزار الفلسطينيين، الذي وصفه أردوغان ذات مرة بأنه “قاتل الأطفال” و”رمز إرهاب الدولة”.
لكن قصة اللقاء بين أردوغان والأسد مختلفة، أو على الأقل تعقيدات هذا اللقاء أكبر بكثير من اجتماعات أردوغان السابقة مع أهم أعدائه. وكرر أردوغان مؤخرًا رغبته في لقاء الأسد، وقال: “لا يوجد خلاف أبدي. لقائي مع الأسد محتمل، لأنه لا توجد منافسة دائمة في السياسة، ونحن نتخذ خطواتنا في هذا المجال.”
في غضون ذلك، أعلن الروس أيضًا أنهم أعدوا كل الشروط لاستضافة الاجتماع بين الرئيسين، وحسب عبد القادر سلوی، كاتب عمود تركي في صحيفة “حريت”، فإن الأمر الآن “مسألة وقت” فقط. لكن هل هو حقاً هكذا؟
على ما يبدو لا؛ لأن الشروط التي وضعها الجانبان لبعضهما البعض، هي عقبة لا يستطيع الطرفان إزالتها. طرحت سوريا شرط إنهاء الاحتلال الكامل للقوات التركية في هذا البلد، والوقف الفوري لجميع الاتصالات والمساعدات والدعم الذي تقدمه أنقرة للإرهابيين. كما طرحت تركيا الشرط الفارغ والمتكرر والذي لا معنى له الآن، والمتمثل في تمسك دمشق بالعملية السياسية.
في غضون ذلك، بالطبع، هناك من يعتقد بتفاؤل أن الجانبين يضعان هذه الشروط لتقوية موقفهما قبل الجلوس على طاولة المفاوضات.
لماذا يعتبر الاجتماع المحتمل أكثر أهميةً لأردوغان؟
يُظهر الوضع الحالي أن إصرار أردوغان وحرصه على عقد هذا الاجتماع، هو أكثر من الحكومة السورية، حتى يمكن وصف الاجتماع بأنه حاجة لأنقرة. تأتي رغبة السلطات التركية في لقاء رئيسي البلدين، وللمفارقة، في خضم استعدادها لبدء جولة عدوان جديدة على الأراضي السورية. فبعد إلقاء اللوم على الميليشيات الكردية السورية في تفجير اسطنبول الشهر الماضي، تستعدّ أنقرة لعملية محتملة أخرى في المناطق الشمالية من سوريا.
ينوي أردوغان اغتنام فرصة الحرب في أوكرانيا وانخراط الروس والغربيين في الصراعات الداخلية بشكل كامل، لينفذ رغبته طويلة المدى في إنشاء منطقة عازلة، أو ما تسمى المنطقة “الآمنة” على خط الحدود مع سوريا. وعلى الرغم من أن هذه الخطة تهدف في الظاهر إلى تشجيع 3.7 ملايين لاجئ سوري على العودة إلى بلادهم، ولکن من المحتمل أن يكون لدى أردوغان أفكار أخرى، وخاصةً فيما يتعلق بالتوسع الإقليمي لتركيا في المستقبل.
ومع ذلك، فإن مشكلة أردوغان الرئيسية الآن هي أنه يرى سياسة الحكومة الحالية بشأن اللاجئين السوريين، على حساب خسارة أصواته. ومنذ اندلاع الاشتباكات العنيفة بين الأتراك ومجتمع اللاجئين السوريين الصيف الماضي، حاول أردوغان إظهار تحول في سياساته.
كشف أردوغان مؤخرًا عن خطة لإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، وذلك في تناقض صارخ مع تصريحاته في آذار(مارس) من هذا العام، والتي انتقد فيها المعارضة لما وصفه بـ “وحشية إصرارهم على إعادة طالبي اللجوء”. وقال أردوغان في رسالة بالفيديو في حفل افتتاح منازل سكنية للسوريين المقيمين في إدلب شمال سوريا، إن نحو 500 ألف سوري عادوا إلى مناطق آمنة في سوريا.
في الواقع، يواجه أردوغان معارضةً متزايدةً بشأن اللاجئين السوريين. في حالة واحدة فقط، أثار نشر فيلم قصير ضد اللاجئين السوريين ضجةً كبيرةً. فيلم اسمه الغزو الصامت. يبدأ الفيلم بعرض تاريخ 3 مايو 2043 على الشاشة. ووسط دهشة کبيرة يفوز حزب سوري في الانتخابات التركية، ويعلن زعيمه اللغة العربية لغةً رسميةً لتركيا.
وفي المشهد التالي، تنتقل الكاميرا إلى شاب يشتکي من عمله كعامل نظافة في مستشفى يديره رجل سوري، حيث لا يسمح له بالتحدث باللغة التركية. ثم يسأل والديه قائلاً: “كيف سمحتم بهذا أن يحدث، رغم أنه تم تحذيركم مرات عديدة من أن السوريين يغزون بصمت؟” في أقل من 24 ساعة بعد نشره في 3 مايو، حصد الفيديو ما يقرب من مليوني مشاهدة ومئات الآلاف من الإعجابات. ووصل الأمر إلى حد اعتقال “كاراكاسو” مخرج الفيلم.
کما يغذي بعض السياسيين هذه المخاوف أيضًا. على سبيل المثال، التحليل القائل بأن 78٪ من السوريين في تركيا لا يريدون العودة إلى ديارهم، وأن معدل خصوبة النساء السوريات هو 5.3، وقريبًا سيكون لتركيا 15 مليون تركي من أصل سوري. لذلك، كان على أردوغان إيجاد طريقة لعودة هؤلاء اللاجئين، لكن لا يمكن تجاهل عقبات العملية الجديدة في سوريا، والتي يمكن أن تتسبب في إغراقه بدلاً من إنقاذه.
بادئ ذي بدء، ستكلف العملية الجديدة وإنشاء البنية التحتية لعودة اللاجئين مليارات الدولارات، الأمر الذي لن تتمكن تركيا من تحمله بسبب الأزمة الاقتصادية.
على الصعيد الأمني والعسكري فقط، تدرب تركيا أكثر من 50 ألف مقاتل سوري، وتدفع لهم الأموال. ويقدر مراد يشيلطاش، المحلل في “سيتا”، وهي مؤسسة فكرية تركية تربطها علاقات وثيقة بأردوغان وحكومته، أن التدخل في سوريا يكلف أنقرة حوالي ملياري دولار سنويًا. من ناحية أخرى، تشير التقديرات إلى أن الميليشيات الكردية السورية(باستثناء قوات حزب العمال الكردستاني)، تضم جيشًا قوامه 100 ألف رجل، وتدير إدارةً مدنيةً ذات حجم مماثل. وقد حذرت هذه القوات من أنها ستنسق مع دمشق لمواجهة أي هجوم تركي.
تتمركز قوات الجيش السوري وحلفائه حاليًا حول منبج وتل رفعت، وينتظرون أوامر بشار الأسد للاشتباك مع الأتراك والإرهابيين تحت قيادتهم. لذلك، فإن ساحة اللعب ليست آمنةً بأي حال من الأحوال لأردوغان، ويمكنها تسريع سقوطه في حال الهزيمة وخسائر فادحة. وفي هذه الظروف، فإن الخيار الأقل تكلفةً هو الحصول على تعاون دمشق.
ما الذي يفكر فيه بشار الأسد؟
لا شك أن الأسد لا يشعر بالحاجة إلى هذا الاجتماع، وبصورة أدق، لا يشعر بالحاجة إلى مساعدة العدو الأهم في السنوات الماضية بقبول الاجتماع مع أردوغان، الذي وعوده ليست موثوقةً مثل صداقاته وعداواته.
تشارك معظم الأحزاب التركية المعارضة لأردوغان مخاوفه من الميليشيات الكردية واللاجئين السوريين، لكنها تنتقد قراره بمواصلة دعم الإرهابيين السوريين. وقالت جميع الأحزاب الرئيسية إنها ستستأنف العلاقات مع دمشق إذا فازت بالسلطة، وهي خطوة يقولون إنها ستكون مقدمةً لإعادة السوريين إلى الوطن. لذلك، فإن صبر الأسد حتى الانتخابات الرئاسية في العام المقبل معقول.
كذلك، يمكن لتهديدات تركيا أن تعيد الأكراد السوريين إلى رشدهم بأن الثقة بأمريكا لا توفر الأمن كما لم تكن كذلك حتى الآن، ويمكن حل القضايا بين الأكراد والحكومة المركزية بشكل أسرع وأسهل. إن الحصول على تراجع كبير من أنقرة في الميدان، هو أقل عامل يمكن أن يقنع الأسد بقبول طلب أردوغان للزيارة، تراجع يمکن أن يکون مساعدة تركيا في إخلاء إدلب من الإرهابيين. وعلى الرغم من أن هذا التراجع يبدو كبيرًا، إلا أنه ليس مستحيلاً على أردوغان الذي شعر بخطر السقوط.
في غضون ذلك، لا يملك الطرف الضعيف قدرة تحديد الشروط وفرضها. وبالتالي، فإن شروط تركيا الفارغة ليست سوى إجراء للحفاظ على الهيبة ومنع المعارضة من سخرية أردوغان ووصفه بالسياسي الفاشل، الذي وصل به الأمر، من أجل الحفاظ على سلطته، إلی اللجوء إلی شخص تحدث ذات يوم عن ضرورة رحيله، وأهدر مليارات الدولارات في هذا الطريق.