إنتصار سوريا .. آية من آيات الله في الآفاق
قد يبدو الحديث عن انتصار سورية سابق لأوانه من وجهة نظر البعض، استنادا إلى مقولة أن الحسم العسكري لا يعني نهاية الأزمة في غياب حل سياسي متوافق عليه من قبل الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في الصراع..
هذا الطرح، وإن كان يبدو صحيحا نسبيا من حيث الظاهر، إلا أن الحقيقة في مكان آخر قد لا يكون سورية بالضرورة، لما للأزمة السورية من ارتباط وثيق مع أزمات أخرى انفجرت في المنطقة ومناطق أخرى من العالم كآسيا مثلا، ما يعني أن الحل السياسي لا يعني الوضع في سورية بقدر ما يهم طبيعة النظام الدولي الجديد الذي تمثل سورية ساحة الصراع المحورية التي أسقطت نظام القطبية الأحادية برغم محاولة امبراطورية روما الجديدة وحلفائها وأدواتها الحفاظ عليه بمنطق القوة حينا ومنطق الخديعة أحيانا..
بدليل، أنه يبين بالعودة إلى نسبة التصويت بالفيتو في مجلس الأمن منذ إنشائه قبل 70 سنة، أن هذا الفيتو استعمل 10 مرات فقط، 5 مرات في قضايا مختلفة منها ما هو مرتبط بـ”إسرائيل”، و5 مرات بشأن سورية، ما يؤكد أن الأزمة السورية تتجاوز جغرافية الوطن والمنطقة إلى الصراع حول المصالح والنفوذ في العالم، بين روسيا والصين من جهة وأمريكا وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية، وهو ما يؤكد أن الصراع أصبح على أشده بين الشرق والغرب.
وبالتالي، فإذا كان تقدير الهزيمة أو الانتصار بالنسبة للساحة السورية حصريا، يستند بالأساس إلى مدى قدرة الخصم على تحقيق الأهداف التي وضعها للحرب، فإننا نستطيع القول اليوم بثقة، ونحن على مشارف انتهاء أم المعرك في حلب، أن سورية انتصرت حين نجحت بمعية حلفائها في إسقاط هدفين رئيسين:
* الأول إسقاط الرئيس بشار الأسد لإعادة صياغة عقيدة الدولة الممانعة وتفكيك الجيش العربي السوري الذي يشكل الدعامة الأساسية للنظام، ما يمكن من فك تحالفها مع محور المقاومة وانتزاعها من إيران ..
* الثاني: تقسيم البلاد إلى كانتونات طائفية ومذهبية ضعيفة لن يكون بمقدورها تشكيل أي خطر على “إسرائيل”.
وبسبب فشل الأعداء في تحقيق أي من هذه الأهداف ودخول روسيا معترك الصراع، رأينا كيف أن الولايات المتحدة غيّرت من استراتيجيتها حين استبدلتها بحرب استنزاف طويلة الأمد لإنهاك الجيش العربي السوري وحزب الله وإيران وروسيا معا، فقط لأنها لا تريد التسليم بالهزيمة لمعرفتها بالأثمان العالية التي ستكلفها على حساب مصالحها ونفوذها في المنطقة والعالم..
غير أن استراتيجية احتواء تركيا التي انتهزتها روسيا وإيران بتقديم بعض التنازلات في الشمال السوري لتمكين أنقرة من ضرب مشروع الكانتون الكردي مقابل سد منافذ تزويد الجماعات الإرهابية بالمقاتلين والمال والسلاح والانخراط في الحرب على “داعش”، أفشل خطة الاستنزاف الأمريكية وأعاد خلط الأوراق بما لا يصب في مصلحتها.
كما وأن استراتيجية “الحصار حتى الاستسلام أو السحق” التي انتهزها حلف المقاومة وروسيا بتخيير المسلحين بين الانسحاب الآمن من مناطق القتال مقابل تسوية وضعية المغرر بهم من السوريين ورحيل الأجانب إلى بلدانهم أو الموت تحت الأنقاض، سرّعت إلى حد كبير من عمليات المصالحة في مناطق عديدة، وأصبح كل من يرفض الامتثال يعتبر إرهابيا يستحق السحق، وهذه حرب تطهير قد تتطلب أشهرا عدة، لكنها لن تمثل تهديدا نوعيا للدولة السورية كما كان عليه الحال من قبل.
أما التسوية السياسية، فتلك قضية أخرى يحدد معالمها من يحسم الحرب لصالحه بعد أن سقط الرهان على مسار التسوية الذي تمخضت عنه اجتماعات جنيف وغيرها من عواصم الغرب والشرق، وأصبح مصير سورية يحدده الشعب السوري وحده دون سواه، ولا دخل للإرهابيين الأجانب ومن يدعمهم بنظام الحكم وشكل الدولة وعقيدتها.. هذا خط أحمر رسمته إنجازات الميدان.
*** / ***
والمسكوت عنه في الأزمة السورية الذي يجب أن يطرح على شكل سؤال جامع يختزل حقيقة الوضع الذي نتكلم عنه اليوم هو:
– من كان يتصور أن سورية ستخرج منتصرة من أبشع وأقذر وأخطر حرب كونية شنّت عليها، وهي الدولة الوطنية التي لا تملك الحد الأدنى من المقومات الضرورية لمواجهتها؟..
كانت كل حسابات العقل والمنطق تقول أن سورية ساقطة لا محالة، وأن عمر النظام أصبح يقاس بالأيام.. وكانت معايير الهزيمة والانتصار تستند إلى تساؤلات موضوعية تقول:
– ماذا بوسع نظام محاصر يعتبره الغرب فاقدا للشرعية أن يفعل أمام “مجتمع دولي” يعمل على إيقاع التوقيت الأمريكي ويحتكر القرار السياسي في مجلس الأمن لصالح “إسرائيل”؟
– ماذا بوسع نظام سوري فقير يعيش شعبه على الزراعة وبعض الصناعات الأولية أن يفعل أمام أشباه الرجال من ملوك وأمراء النفط القادرين على شراء العالم بأموالهم، من خلال استصدار القرارات السياسية التي تخدم أوهامهم، وتمويل الحملات العسكرية لسحق خصومهم؟..
– ماذا بوسع وسائل إعلام محور المقاومة البسيطة والمحدودة أن تفعل أمام إمبراطوريات الإعلام الخليجية والصهيونية العالمية الموجهة التي تناصب سورية العداء وتحرض عليها صباح مساء؟..
– ماذا بوسع جيش نظامي محدود العدد، كلاسيكي العقيدة، قديم السلاح، أن يفعل أمام جيوش التكفيريين القادمين من رياح الأرض الأربع، مدعومين بالمال والتدريب والتوجيه والسلاح النوعي، لتدمير سورية وذبح شعبها وتحويلها إلى إمارات إسلاموية متصارعة لرسم خرائط التقسيم بالدم؟..
– ماذا بوسع خطاب سوري قومي فقد معناه وجدواه ولا يتجاوز صداه بعض من جغرافية الوطن أن يفعل أمام خطاب ديني محرض يجد له في العالم العربي والإسلامي آذانا صاغية وأرض خصبة للإنشار وله قوة سحرية للاستقطاب؟..
*** / ***
والحقيقة، أن ما لم يدركه المتآمرون موقدو الفتنة بالعمق المطلوب، هو أن سورية أرض الرسالات ومهد الحضارات لا يمكن إخضاع مصيرها لمنطق العقل بعد أن اختارها رب العالمين ليجري بها وفيها مشيئته في الخلق كي لا تفسد الأرض، فقيّد لها الملائكة تحرسها لغاية لا يستطيع إدراكها الجهلة من الخونة الأعراب الذين استبدلوا علم السنن الربانية بفقه السنن التلمودية..
يقول الحق سبحانه في كتابه المجيد: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) فصلت: 53.
ومعنى المعنى، أنه كم من فتح يذكره القرآن ومعارك يخبر بها التاريخ تؤكد أن النصر هو من عند الله، وأنه غالب على أمره ينصر من نصره ليظهر دينه على الدين كله، فينتصر الحق ويهزم الباطل.. والمقصود بالكلام هنا في سياقه العام كل من كفر بآيات الله وتباهى بقوته وقدرته على تطويع الأحداث لصالحه في ما لا يرضي الله إلا وهزمه وأذله وترك عبرة للعالمين، وجعل انتصار المؤمنين أصحاب الحق آية ومعجزة ليتأكد للجميع أن الله هو صانع التاريخ وموجه الأحداث ومحقق الانتصارات وأن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فبنصر من الله يرى الناس معجزاته في الأرض ويتبين لهم الحق من الحق في أنفسهم، فيسقط الكذب والزيف والضلال وتتداعى الأحلام والأوهام وتبطل الأسباب التي اعتقد الطغاة المتكبرون أنها ستوصلهم إلى هدفهم وتساعدهم على تحقيق مرادهم ضدا في إرادة الله في الكون والخلق.
وأمام هذه الحقيقة الناصعة الجليّة التي بشر بها تعالى عباده في القرآن وجعلها معجزة تتكرر باستمرار حين وضع لها قوانين محددة وجعلها من سننه التي لا تتبدل ولا تتغير، ووعد من يخالفها ويتحدى إرادة الله بالانتقام بعد الهزيمة وتجرع سم الذل والهوان وجعله يرتكس في روث الفتنة القذرة، ناهيك عن مآله إلى عذاب شديد يوم الوعد..
وأمام الأحاديث الكثيرة التي تتحدث عن فضل الشام وأهل الشام وقدسية الشام أرض الرسالات والحضارات ومهد التاريخ وأرض القيامة، لا يسعنا إلا أن نتساءل باستغراب:
– كيف يمكن لإرادة خوذة حقيرة كأمريكا وحلفها الأطلسي وأدواتها الصهيونية اليهودية والعربية أن تنتصر على إرادة الله وتبطل سننه في الخلق وقوانينه في التاريخ لتنتصر أوهامها برغم كل ما تمتلكه من مقومات القوة، والتي تبدوا للمسحورين الغارقين في ظلام الجهل، أنها قوة لا تقهر؟
– ثم كيف لـ”صحوة إسلامية” يدّعيها المتاجرون بالدين في سوق السياسة من الوهابية والإخونج، أن تنجح في إحياء “الخلافة الإسلامية” ليُباد المسلمون؟.. هل هذا معقول؟..
إن ادعاء الغيرة على الدين والكلام بلسان الله لتضليل المسلمين بلغة الفصاحة والشطارة التي يتقنها الكهنة، لا يمكنها أن تكون بديلا عن صوت الله الذي يصل عبر القرآن إلى قلوب عباده المؤمنين، فيرون بنوره ما لا يراه الجهلة والأغبياء الذين يصدقون أن فقهاء الدم هم على خلق عظيم وأن ما يروجون له من كذب ونفاق هو عين الحق؟..
وقد رأينا كيف هُزمت “ملائكتهم” التي كانوا يقولون أنها تقاتل مع “المجاهدين” على جياد بيضاء.. ورأينا كيف كانت الجماعات الإرهابية التي كانوا يدعمونها تقيم العدل بين الناس بقطع رؤوسهم وأكل قلوبهم وأكبادهم واغتصاب نسائهم ونهب أموالهم لرفع الظلم عنهم، لا تفرق في ذلك بين سني وشيعي ومسيحي أو غيره.. فهل هذا هو العدل؟..
لقد أراد هؤلاء الكهنة الأمّيين إقامة مجتمع إسلامي يتحولون فيه إلى أصنام يعبدها الناس بالخوف والرعب لإلغاء عقولهم كمقدمة لقيادتهم كقطيع نحو المصير المظلم المحتوم، بسيف “شريعة إسلامية” غاب عنها صوت الله الرحمن الرحيم حين استبدلوه بنذير رب متوحش لا يرحم، عاشق للظلم والقهر والدم.. أليس هذا تطاول على الله وتشويه لصورته وإسلامه الذي ارتضاه دينا للعالمين؟..
إن الفرق بين رب هؤلاء القتلة البغاة الظلمة ورب الناس اللطيف العليم الخبير المقتدر، هو أن الأول لا يعدو أن يكون مجرد ذكرى لصنم ميّت استحضروه من زمن الجاهلية الأولى على شاكلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ليصنعوا للناس دينا على مقاسهم، في ما الثاني إله حي يعيش في قلوب الناس ويُجري مشيئته فيهم بالعدل والرحمة والمحبة بعيدا عن أهواء الطغاة..
وهذا هو الفرق بين “إسلام” القبور العائد اليوم من عالم الكهنة الموتى الذي يلغي حرية الإنسان وإرادته ويعطل مسؤوليته.. وإسلام السماء الذي جعله الله دينا ثوريا للأحياء، صالحا لكل مكان وزمان حين منحهم الحرية والإرادة، وحمّلهم المسؤولية كاملة غير منقوصة عن مصيرهم وشؤون دنياهم، وأخضعهم للمسائلة والمحاسبة على ما كسبت أيديهم في التجربة الأرضية خيرا كان أم شرا.
*** / ***
وها هي سورية تنتصر اليوم ليتأكد لمن لا يزال لديه ذرة من شك أن هذا النصر ما كان له أن يكون لولا رعاية السماء، وأن من ناصر سورية كان على حق يبصر بنور ربه، ومن تآمر عليها كان على باطل يعمه في ظلمات فوقها ظلمات فوقها ظلمات..
وإذا كان من درس يجب استخلاصه اليوم من الحالة السورية التي سيقف التاريخ عاجزا عن فهمها بالعمق المطلوب، فهو أن الأنظمة العربية وقيادات الإسلام السياسي الذين تآمروا مع أمريكا و”السعودية” و”إسرائيل” لتبرير الخطيئة ضد سورية، هم أبعد أن يكونوا على هدى من ربهم وأبعد عن أن يمثلوا الإسلام المحمدي الصحيح، وأنهم ارتضوا بيع ضميرهم ودينهم وآخرتهم مقابل دولارات الزيت، وأن الشعوب العربية التي انقادت وراء خطابهم، إلا من رحم الله، هي عبارة عن قطعان من الخراف الضالة تقودها الكلاب المسعورة بسوط الشريعة المُزوّرة.
ولو كان لديهم ذرة من عقل وبعض من إيمان صادق لاستمعوا إلى كلام سماحة السيد في بداية الأزمة حين قال، إن ما يحدث في سورية ليست أزمة داخلية، ولا صراع بين الشعب والسلطة، الأزمة السورية أكبر من ذلك وأكبر مما يتصور الكثيرون، ولا علاقة لها بالديمقراطية وحقوق الإنسان وما شاكل، ولو كانت مسألة حقوق لحلت لأن الرئيس السوري قبل بالإصلاح ودعا للحوار وأعرب عن استعداده لحل كافة النقاط الخلافية مع المعارضة في إطار الاحتكام إلى القواعد الديمقراطية التي تعطي الشعب حق القرار، وأن الحرب في سورية لن تنتهي بإعطاء الحقوق هنا أو هناك، فلا تنزلقوا إلى هذا المستنقع ولا تكون طرفا في الصراع، وعلى الجماعات المسلحة أن تعي أن مصيرها سيكون نفس مصير من استغلتهم أمريكا في حرب أفغانستان من قبل..
لكن لا حياة لمن تنادي، والمهم في الأمر أن سماحته ألقى الحجة على الجميع قبل أن يقرر خوض الحرب ضد التكفيريين الذين يسعون لإعادة سورية ولبنان والعراق والوطن العربي إلى عصر الجاهلية الأولى لتسود أمريكا وتنعم “إسرائيل” بالأمن والسلام، فقال قولته التاريخية المشهورة.. لن نسمح للتكفيريين ولا لأمريكا ولا لـ”إسرائيل” بإسقاط سورية مهما كلفنا الأمر من تضحيات، وتوعد بالنزول إلى أرض الشرف ليحارب الشر بنفسه إن اقتضى الأمر..
وكما كان يعدنا سماحته دائما بالانتصار، وعدنا هذه المرة أيضا بالانتصار، فتحقق الوعد الذي أعاد الثقة لمحبي سورية ومحور المقاومة، وأشعل في قلوبهم الإيمان بعدالة القضية ووقوف السماء مع المجاهدين الأبرار.. ومن لا يستطيع رؤية انتصار سورية اليوم فهو أعمى البصر والبصيرة، ولا خير يرجى منه في الدنيا، ولا خلاص له في الآخرة، لأنه يكذّب بآية من آيات الله العظمى التي يقف الله عليها شهيدا، وكفى بربك عليهم شهيدا.
وقريبا بإذن الله سنرى الفتن تعصف بربوعهم ليحل المسخ بأعداء الحق، فتطمئن قلوب قوم مؤمنين بالحق، مدافعين عنه حتى آخر نفس، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم ولا يمنعهم عنه شيء في الوجود حتى لو تحامل عليهم العالم أجمع.
فشكرا لله الواحد القهار الذي هزم جيوش الظلام ونصر سورية، وشكرا لسماحة السيد، وشكرا للرئيس بشار الأسد، وشكرا لإيران، وشكرا لروسيا، وشكرا للمجاهدين الأبطال، والرحمة للشهداء الأبرار، والشفاء للجرحى.
ودامت سورية منارة للمقاومة في المنطقة يحرسها عمود النور فوق جبل قاسيون، في انتظار يوم الله الأكبر الذي سيقتلع فيه الصهاينة من فلسطين وعملائهم الأعراب من المنطقة وعلى رأسهم قرن الشيطان الذي تمثله مهلكة ‘آل سعود’ اليهود.
بقلم أحمد الشرقاوي