“خاص”
عدالة البردوني والحسين
الفقيد الراحل عبدالله البردوني تناول حادثة كربلاء الحسين وذكرى عاشوراء الحسين وبالتسلسل الزمني من قبل ومن بعد حتى عصر البردوني كعدالة انسانية وكحاله ثورية ضد الظالمين وكيف تجلت دماء الحسين وصحبه قسمات وردية متفتحه عبر ثقافة العصور شعراً واقاصيص ونثراً وادباً وروايات وتاريخ ومعرفة وتدوين حتى كتب طه حسين والعقاد والشرقاوي واحمد شوقي ومحمد الامين وغادة بعلبكي دراما ومسرحيات وملاحم بالشعر والنثر مروراً بالواقدي وابن خلدون والكميت الاسدي وابن يزيد بن مفرغ الحميري ودعبل الخزاعي وابن الرومي وابي العلاء المعري وابن الفرج الاصفهاني والقزويني والشريف الرضي.
وبنفس الوقت اوضح البردوني كيف انعكست حادثة استشهاد سبط الرسول الكريم وبالاً وسخطاً على نظام بني اميه حكام وقادة قتلة، ثم اسقط عدالة القضية الانسانية للحسين على عدالة القضية الانسانية لفلسطين المُغتصبة وربطهماً معاً ومعاً بالحسين وفلسطين، تتشكل المعابر في هذا الزمان للوصول الى مرافئ الحق الانساني وتلك هي نبوءه الفقيد البردوني والتي نرى ملامحها تتشكل اليوم وبقوة اكثر مما مضى وستتجلى قريباً وربما اقرب مما نتوقع ببشارات انتصار مُبين بعون القوي العزيز.
واختزل البردوني كل ذلك في مقال تاريخي هام ومهم تحت عنوان (وردية يوم عاشوراء .. على قسمات الأدب) الذي نشرته صحيفة “26 سبتمبر” في عددها (356 ) الصادر بتاريخ 15 محرم 1410هـ الموافق 17 / 8 /1989م ولاهميته يعيد موقع المشهد اليمني الاول نشره وبحلة مُتجدده وبوهج لاينطفئ.
انسانية الحسين وفلسطين
في مقدمة المقال ربط البردوني بين حادثة استشهاد الحسين وقضية اغتصاب فلسطين والعامل المشترك بينهما العدالة الانسانية ضد الظالمين بني أمية والمُفسدين بالارض.
حيث كتب البردوني وقال: “قبل تجلي هذه القسمات الوردية عبر العصور, يحسن التوقف عند سببيتها لمكاشفة النتيجة, في العاشر من محرم سنة 60 للهجرة تأججت معركة كربلاء بين الحسين بن علي وصحبه وبين يزيد بن معاوية وأتباعه وجيوشه, وتمخضت المعركة عن استشهاد الحسين بن علي الذي تحول استشهاده إلى قضية انسانية تشبه قضية فلسطين في عصرنا, فإلى الآن ما يزال استشهاد الحسين أسخى مدد الشعر والراوية والمسرحية والدراسات التاريخية .
وفاء لا نكوص
وأضاف البردوني :”الحسين خرج من مكة إلى كربلاء عن دعوة بيعة أجمع عليها أهل العراق وباركها أصحاب الرأي في اليمن والحجاز, ولبى الحسين تلك الدعوة الشعبية غير متهيئ لقتال وغير طامع في الحكم, إلا أن طلب الشعوب أمر لا يرد , وكان الحسين يظن خلو العراق من سلطة يزيد, ولكي يتحقق من جلية الأمر بعث ابن عمه مسلم ابن عقيل بن أبي طالب لاستطلاع الموقف, ولم يصل ابن عقيل إلى العراق إلا بعد أن عين يزيد عبيد الله بن زياد بن أبيه واليا على العراق, فما أن وصلها مسلم بن عقيل حتى وقع في قبضة ابن زياد, ولما علم ابن زياد بتحرك الحسين أمر بقتل مسلم بن عقيل والطوفان برأسه في أنحاء العراق, ولم يكن الحسين على علم بما حدث لرسوله إلا وهو على حدود العراق. هنا وقف الحسين على خطرين: إما قتال قوة تفوق قواه, وإما النكوص عن الدعوة الشعبية.. فاختار التقدم على التخلف لما فيه من مغامرة إلا أنها مشروعة”.
نقاوة ونفعية
وعن دوافع القتلة يقول البردوني: “ذلك لأن القادرين على التحرك كانوا أميل إلى (يزيد) عن دافع وصولي, لأن الوصولية أنجح عند(يزيد) أنجح منها عند (الحسين) لهذا اتقدت الحرب بين الأريحية والانتهازية والنقاوة والنفعية, فلم يختلف الناس على ترجيح (الحسين) وعلى أحقيته بالأمر من (يزيد) الشهير بالاستهتار والانقياد للنفعيين والمتمسحين بلا كفاءة وبلا دراية بأصول الحكم كما تدل صرخة (عبدالله بن عمر ) ” اللهم أنصر الحسين فإنه أقوم لدينك وأرعى لحرمة نبيك “.
الحسين وثقافة العصور
يتابع البردوني وبالسرد الزمني تجليات دماء سيد شباب اهل الجنة الحسين على قسمات الشعر والادب ويقول: ” بهذا صار استشهاد (الحسين) أهم أخبار التاريخ ومبكى الشعر والشاعرية وموضع التفاسير المتعددة في ثقافة هذا العصر, وقبل الوصول إلى تفاسير الثقافة المعاصرة يحسن الإلمام بروايات المؤرخين القدماء كقيمة مرجعية.
فالواقدي يسلسل الأحداث وتطور بعضها من بعض حتى كان استشهاد الحسين بعض امتدادها أو احدى حلقاتها إلا أن هذا التتبع لم يمنع الواقدي من تفضيل الحسين وإبداء شرعية طموحه, لأنه عن طلب من وجوه الأقاليم, وكان الواقدي يكتب تاريخه إلى آخر القرن الثامن الميلادي في ظل حكم المهدي العباسي.
اقبح السوابق للقتلة
يستمر البردوني بسرد ثقافة العصور ويصل الى ابن خلدون بالقول: “أما ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي فقد ألمح إشارة أخلاقية في استشهاد الحسين لم يكن انتصار يزيد وأتباعه على الحسين من ضروب الشجاعة بل كان أبعد عن أخلاق الشجعان وأعراف الحرب, لأن الحسين قاتل بسبعين رجلا من نصفهم من أهله, وقاتل يزيد بأربعة الاف محارب تحت إمرة قادة معدودين كعمر بن سعد بن أبي وقاص والربيع بن زياد والشمر بن ذي الجوشن, وعلى كثرة هؤلاء وقلة أولئك فإن القلة كانت أكثر شهامة,
قال الحسين للذين تعسكروا حوله: أيها الناس لقد ثبت لي الآن مقتل مسلم بن عقيل وتولية ابن زياد على العراق فنحن مقدمون على حرب لا تكافؤ فيها فمن أراد منكم الشهادة فليتبعني ومن شاء من النجاة فليلحق بأهله مباركا بريء الذمة من بيعتي وفي حل من التزامه بطاعتي فذهب أغلب جيش الحسين وقاتل بقلة من أتباعه غير خائف من القلة, أما أعداؤه فقد غرتهم الكثرة فلم يتورعوا عن رشق الأطفال والنساء بالسهام من حول الحسين, بل تجاوزا الحد فمنعوا الحسين وصحبه من ورود الماء الذي هو حق للفريقين, وهذه أقبح سابقة في تاريخ الحروب بالإضافة إلى صد الحسين وصحبه عن الماء ارتكب قادة يزيد بعد مقتل الحسين ما هو أفظع إذ اقتادوا نساء الحسين من زوجات وأخوات وعمات وبنات كأذل سبايا, فقد كان المعهود في تواريخ الحروب صون نساء المغلوب وكلما كانت النساء من بيت أشرف كان إكرامهن على المنتصر أوجب لأن الشجاعة لزيمة الشرف.
طه حسين ومأساة الحسين
البردوني وعبر ثقافة العصور ينتقل بثقافة العصر الى طه حسين مردفاً بالقول: “إذن فقد تحول استشهاد الحسين إلى قضية إنسانية مأسوية شغلت الأذهان وسوف تشغلهم إلى ما شاء الله كما أشار ابن خلدون وأسس على إشارته طه حسين في جزء ( علي وبنوه ) من كتابه (الفتنة الكبرى ) إذ قال: لقد تعاقبت في عصرنا سلطات من كل مذهب فلا الفاشية ولا النازية ولا الرأسمالية الحرة بقادرة على إرضاء الانسان ولا قادرة أن تغطي بأحداثها عظائم الأحداث كحرب صفين وكربلاء التي ما زلات تشغل المعاصرين كما شغلت الأسلاف وسوف تظل مادة كتب وأشعار, فلآثار كربلاء قسمات وضاحة على الأخبار التاريخية المتباينة والمتفقة.
تفتح ورود يوم عاشوراء
يعود البردوني الى ساحة الحدث الى كربلاء دماء الحسين ويشبهه ببستان ورود تفتحت على قسمات الادب شعراً واقاصيص وروايات مروية الى زمنه وحتى اليوم كذلك حيث يقول البردوني : “أما وردية يوم عاشوراء فتفتحت على قسمات الشعر والأقاصيص والروايات إلى اليوم , ورن أول نص شعري على صليل سيوف كربلاء , ألم يقل عمر بن سعد بن ابي وقاص وهو أهم القادة ضد الحسين :
أفكر في أمري وأني لحائر – أفكر في أمري على خطرين
أأترك مُلْكَ الرّيِّ والرّيُّ منيتي – أم أرجع مأثوماً بقتل الحسين
وهنا الناقد والاديب البردوني يقف على حالة القاتل ابن سعد ويقول: “لقد أنطوى هذان البيتان الضعيفان على أغوار تاريخ ذلك الحدث, لأن عمر بن سعد لم يقاتل الحسين بمقتضى أمر ولا بداعي جهاد وإنما بموجب وعد من يزيد بتولية ابن سعد اقليم الري أغنى أقاليم فارس, ورغم هذا الإغراء فإن ابن سعد تذبذب بين قبول المنصب وبين وصمة قتل الحسين حتى نصحه ابن اخته قائلا : يابن سعد ابن ابي وقاص إن قاتلت الحسين ملكت أمر الري وإن اجتنبت قتاله قاتله غيرك بما وعدت به أو أقل منه ولن ينجى الحسين من اطراحك السيف دونه .”
ينبوع كربلاء المزدوج على الحسين والقتلة
تحدث البرودني عن احداث مابعد كربلاء وكيف كانت بؤس وشقاء ووبالاً على النظام والقتلة وبنفس الوقت كيف رفعت عاشوراء الشهادة من شأن الحسين الى مصاف اعظم القضايا الانسانية حيث قال:”إذن فقد كان قتلة الحسين من الأجراء كما كان وراءهم من النفعيين , وهذا ما رفع استشهاد الحسين مصاف أعظم القضايا الانسانية, وما أجج كوامن الشعر النقي الذي توالت ابكار إجاداته, وقبل الوصول إلى الشعر الكربلائي تجدر الإشارة إلى الأحداث التي تفجرت من ينبوع كربلاء كمعركة المختار بن عبيد الله وعبدالملك تحت لواء ثأر الحسين الذي حمله المختار الثقفي وقاد ألوفا تسموا بالتوابين, لأنهم اتقدوا بشعور الذنب لتغيبهم عن الحسين, فكفروا عن ذنبوهم بالخروج على ورثة قتلته, أما الذين قتلوه أو ساقوا إليه القتلة فلم يهنأوا طويلا بخدعة النصر, إذ مات يزيد بن معاوية بعد عام ونصف من مقتل الحسين, وزهد ابنه معاوية ابن يزيد عن الخلافة بعد ولايته بثلاثة أسابيع,
وبتقاعد معاوية بن يزيد أنطوى العهد السفياني, وأبتدأ العصر المرواني بمروان بن الحكم مدة أربعة أعوام لم تتجاوز سلطته فيها تخوم الشام , وبعد موت مروان قام بعده ابنه عبدالملك مدة عشرين عاما متقدة بالحروب والانتفاضات والتذمر الشعبي العنيف , وبعد تغلب عبدالملك على عبدالله بن الزبير بعد قتل أخيه (مصعب) في العراق تفجرت الاحتجاجات الشعرية والخطابية.”
افضلية آل علي واحقيتهم
بعد الاحداث الدموية للحاكم الاموي عبد الملك بن مروان وتغلبه على معارضيه وقصف الكعبة المشرفة بالمنجنيق وتثبيت الحكم الاموي بالدماء ووهدم الكعبة المشرفة تحول الجمهور والعامة الى الشعر والادب كمعارضة للحكم الظالم والقول نعم لالافضل الشريف ولا الظالم الطاغي للقول باأفضلية آل علي على بني امية فقال البردوني: “إلا أن أدب تلك الفترة بشقيه الخطابي والشعري على أفضلية آل علي وأحقيتهم بالأمر بدون إشارة إلى دموية كربلاء بمعزل عن سياق الأحداث كما في بائية الكميت بن زيد الأسدي :
طَرِبتُ وما شَوقاً إلى الـبِيضِ أَطرَبُ
ولاَ لَعِباً مِنّي أذُو الشَّيبِ يَلعَبُ
ولا السَّارحَاتُ البَارِحَاتُ عَشِيَّةً
أمَرَّ سَلِيمُ القَرنِ أم مَرَّ أَعضَبُ
بَنِي هَاشِمٍ رَهطِ النَّبِيِّ فإنَّنِي
بِهِم ولَهُم أَرضَى مِرَاراً وأغضَبُ
فَيَا مُوقداً نَاراً لغَيرِكَ ضَوءُها
وَيَا حَاطِباً في غيرِ حَبلِكَ تَحطِبُ.
دوحة الثقافة الكربلائية
يتابع البردوني سرد ثقافة العصور عن كربلاء فيقول : ” هذه القصيدة وأمثالها كثير في شعر الكميت لم تنغمس بوردية يوم عاشوراء, لأن فظاعة كربلاء لم يوم ذاك من الحدثية إلى الواقع التاريخي والتصور الفني, وبعد قرن من يوم عاشوراء أغصنت دوحة الثقافة بعيون الشعر وأشجى الأقاصيص, وكان السيد ابن يزيد بن مفرغ الحميري طليعة الشعر العاشوري, لأن والده يزيد بن مفرغ الحميري من مفتتحي النضال اليمني ضد آل سفيان وآل مروان معا, حتى دفع حياته ضريبة شجاعته على يد عبيد الله بن زياد مدير معركة كربلاء ضد الحسين .
فورث يزيد بن مفرغ ابنه السيد الحميري جرأة الشاعرية وشرف التعاطف , فأبدع عدد من القصائد التي أعادت تاريخية يوم عاشوراء في أجلى صياغة كما في هذا النص يخاطب الحسين وينادي يوم عاشوراء :
ضمئت وجدت بأزكى دم
فأدميت دمعي في المقلتين
فما أمطرت كربلاء ديمة
كما أمطرتها دماء الحسين
فيا يوم عاشور لا لذ ماء
لحاس ولا راق حسن لعين
ولا انام باد ولا حاضر
وثارك في عنقه أي دين”.
من تراجز السيوف الى تناشد الاقلام
يعلق البردوني على أبيات الشاعر الحميري بقوله: ” هذا النص يشير إلى تحول الأحداث إلى مادة شعرية وإلى ينابيع معرفية وإلى تطور لغة الشعر ومفاهيم الشاعر ,لأن تلك الفترة حملت مفهوم الانتقال من التسليم إلى التعليم ومن تقبل المسلمات كما هي إلى معرفة تقبلها, بتعبير آخر انتقلت الأحداث من الرواية إلى المعرفة, لأن مثقفي تلك الفترة أرادوا أن يعرفوا الدين الذي يؤمنون به والتاريخ الذي جاءوا منه والأحداث التي انبجست فيه والمرويات التي صدرت عنها ,
فتعددت مذاهب الفقهاء وتباعدت وتقاربت أحكامهم المستنبطة من الكتابين , بعد أن كانت في طي الآيات والأحاديث , كما تعددت الكتب في تفاسير القرآن وأسباب نزول كل آية وسر إعجاز لغة القرآن هل سببه لغوي بلاغي أم ديني لإتيانه من عند الله أم لإخباره بالغيب , كذلك التاريخ أنتقل من الروايات الشفوية إلى التدوين , كما انتقل الشعر من الفن السماعي إلى الفن الكتابي السماعي ,لأنه فاق في تاريخية الأحداث فن التاريخ.
وهذا من الأطوار التي عرفتها الشعوب كلها, فقد انتقلت القيادة الروحية في اليونان من الشعر إلى الفلسفة ومن الفلسفة إلى تعدد مذاهبها, ومن مذاهبها المتعددة إلى العصور المدرسية التي حللت وحرمت وعللت التحليل والتحريم, كذلك التاريخ العربي انتقل من الرواية إلى الرأي بفضل التدوين, وانتقلت الأحداث الدموية من تراجز السيوف إلى تناشد أقلام وأنغام.
جرائم كربلائية في غير كربلاء
الشعر ديوان العرب وتاريخهم وابقىٰ حادثة كربلاء خالدة متقدة وشعلة متوهجة على مدى العصور وبقوميات مختلفة ينهل ويستمد منها الثائرين القوة المعنوية في مقاومة الظالمين انها حالة سرمدية لماذا ؟ يجيب البردوني ويقول :
” لهذا تبدى يوم عاشوراء بعد قرن من حدوثه إلى رنو شعري وقصصي , فاذا كان السيد الحميري يجرد يوم عاشوراء كشخص منادى , فإن مجايلة دعبل الخزاعي يتناوله من منظور آخر هو منظور الثأر للحسين بعد ان بادو قتلته وخلفاءهم كما في هذا النص :
رَأسُ اِبنِ بِنتِ مُحَمَّدٍ وَوَصِيِّهِ
يا لِلرِجالِ عَلى قَناةٍ يُرفَعُ
وَالمُسلِمونَ بِمَنظَرٍ وَبِمَسمَعٍ
لا جازِعٌ مِن ذا وَلا مُتَخَشِّعُ
فدعبل هنا يزري بكيفية قتل الحسين لا قتلته , لأنه يريد أن يزري بالقتلة كمخلوقات حشرية , فلماذا نقلوا رأس الحسين على رأس رمح وطافوا به الأمصار ؟ أليس التلذذ بأعضاء الموتى من طبائع الكلاب ؟! ولكن لماذا ثأر الخزاعي والحميري للحسين بعد انطواء عصر من مقتله وبعد انقراض خلفاء قتلته ؟!!
إنهما ينددان بحكام عصرهما الذين يرتكبون جرائم كربلائية في غير كربلاء , ذلك لأن إدانة الجور والسقوط السياسي يمنع تكرار الأحداث المزرية التي تقضم الشعب من أطرافه وتأكل الحكم من صميم قلبه .”
كربلاء والعصر العباسي
البردوني اوضح كيف امتدت دماء الحسين الثورية الى العصر العباسي حيث كتب وقال: ” لهذا كان عهد قتلة الحسين وخلفاؤهم مدة تسعين عاما , وهذا عمر انسان واحد من متوسطي الأعمار , لهذا كانت رشقات الحميري والخزاعي تقع على نحر أبي جعفر المنصور وابنه المهدي وحفيده الرشيد , لأنهم وصلوا إلى الحكم باسم ثأر الحسين وعلي , ثم تحولوا إلى أعداء ذرية الحسين , وهذا ما يدل عليه تنويه ابن الرومي في القرن التاسع الميلادي , أي بعد الخزاعي والحميري بحقبة من الزمن :
أبعدَ المكنَّى بالحسين شهيدكم
تُضيء مصابيحُ السماء فَتُسْرَجُ
لنا وعلينا لا عليه ولا له
تُسَحْسِحُ أسرابُ الدموع وتَنْشِجُ
وكنَّا نرجِّيه لكشف عَماية
بأمثاله أمثالُها تتبلَّجُ
إذا كان الخزاعي والحميري ينزعان من تشيع يمني , فإن ابن الرومي كان ينتمي إلى أصل رومي وإلى مذهباً اعتزالي , فليس تمجيده للحسين إلا تمجيدا للعدالة الانسانية والموقف الشعبي , فماذا كان يرجو ابن الرومي من الحسين بعد استشهاده بمائتي عام ونيف ؟! لقد كان يرجو ابن الرومي انتصار الحسين كبداية صحيحة لتتابع الحكم الشريف والنظام الشعبي العادل , لأن صحة البداية سبب في صحة النهاية , فمنظور ابن الرومي يرنو إلى الأصل الذي يؤسس صحة المفهوم السياسي , وسوف يليه على هذا جزئيا ابا العلاء المعري في نونيته الشهيرة :
وبلادٍ وردَتها ذنَب السِّرحان
بين المهاةِ والسِّرحان
وعيونُ الركاب ترمق عينًا
حولها محجرٌ بلا أجفانِ
وعلى الدهر مِن دماء الشهيدَيــن
عليٍّ ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرانِ
وفي أُولياته شفَقانِ
فالمعري هنا ينظر إلى الشهداء أحي من الأحياء , لأنهم ينبضون كالأرض الربيعية في كل حين , لأنهم يمتطون ظهر الدهر الذي يدوس كل شيء, فهم شفق في أول الليل وفجر في آخره, وهم على هذا التوهج بعد موتهم لأنهم كانوا أجمل ما في الحياة قبل استشهادهم, لم يلمح المعري إلى يوم عاشوراء وإنما إلى ورديته في آخر اليوم وأوله ,أو في مستهل الليل وغرة مطلع النهار ,وهذه الإشارة إلى تلك الأوقات كناية عن التتابع والتجدد بلا انقطاع . ”
مُتجدد ياكربلاء!
“أما الشاعر الذي أستكثر وأجاد من ترداد يوم عاشور فهو الشريف الرضي معاصر المعري في آخر القرن العاشر وأوائل الحادي عشر الميلادي , ويكفي هذا المقطع من جياده الكثيرة :
وَرُبَّ قائِلَةٍ وَالهَمُّ يُتحِفُني
بِناظِرٍ مِن نِطافِ الدَمعِ مَمطورِ
خَفِّض عَليكَ فِلِلأَحزانِ آوِنَةٌ
وَما المُقيمُ عَلى حُزنٍ بِمَعذورِ
فَقُلتُ هَيهاتَ فاتَ السَمعُ لائِمَه
لا يُفهَمُ الحُزنُ إِلّا يَومَ عاشورِ
يَومٌ حَدا الظُعنَ فيهِ لِاِبنِ فاطِمَةٍ
سِنانُ مُطَّرِدِ الكَعبَينِ مَطرورِ
كَأَنَّ بيضَ المَواضي وَهيَ تَنهَبُهُ
نارٌ تَحَكَّمُ في جِسمٍ مِنَ النورِ
الفقيد البردوني يوضح العناصر البلاغية في ابيات الشعر بقوله: ” فهذه أبهى صورة للحسين وهو يستشهد وللحزن وهو يحترق بسرية في القلب وبخضور الشاعرية , التي تحول الميت من أشلاء إلى أصدع فجر , لأن ذلك الشهيد جسم من النور تحول إلى صباح شعري تتألق فيه الأحاسيس البشرية التائقة إلى خلود العظمة في الانسان وخلود الانسانية في اغداق الطبيعة الرفافة الفواحة .”
شهيد القضية الشعبية
اشار البردوني الى ان قضية استشهاد الحسين تحولت الى قضية شعبية متألقه حيث كتب وقال: ” لقد تحول استشهاد الحسين إلى أعراس شعرية لأنه شهيد قضية شعبية , لهذا أجاد الشعر صياغته كما أجاد صياغته شعر الأجيال , فبعد الشريف الرضي توالى تألق استشهاد الحسين على امتداد مسيرة الشعر , من آخر القرن السابع الميلادي إلى هذا القرن , فما خلى ومض ( الحسين ) من شعر أية فترة أو من سخونة أية مناسبة وطنية ,إلا أنه تلون وتعدد في أشكاله وهيئات قوالبه , فهو إما واقع شعري أو إيما لغوي أو عنصر بلاغي , لأن الحسين ظل ريحاني الحضور حتى في المناسبات الوطنية المعاصرة , كما نرى في قصيدة شوقي ( يوم الشهداء ) :
في مِهرَجانِ الحَقِّ أَو يَومَ الدَمِ
مُهَجٌ مِنَ الشُهَداءِ لَم تَتَكَلَّمِ
يَبدو عَلى (هاتورَ) نورُ دِمائِها
كَدَمِ الحُسَينِ عَلى هِلالِ مُحَرَّمِ”
اشراق مُتجدد التدفق
ينتقل البردوني من الادب القديم الى المعاصر نثر ودراما ومسرحية ومواكبة استشهاد الحسين الثائر باقلام عمالقة العصر الحديث كشعلة متوهجة للثوار لاتنطفئ حيث سطر وقال: ” إذا كان استشهاد الحسين نسغ الشاعرية ومحور الأخبار التاريخية القديمة , فإن اشراقه متجدد التدفق في شوامخ النثر الفني القديم والمعاصر من أمثال كتاب ( مقاتل الطالبيين ) لأبي الفرج الأصفهاني في القرن الـ 10 م , ومثل كتاب ( قضاء الدين لدم الحسين ) للقزويني في القرن الحادي عشر الميلادي أما النثر المعاصر فلم يقف عند حد عظمة استشهاد الحسين ولا عند وردية يوم عاشوراء ولا عند مأسوية كربلاء , وإنما تنوعت مناظيره في هذا الاستشهاد وأسبابه الاقتصادية والسياسية ,
فكان الحسين في كتاب محمد الأمين (ملحمة الغدير) أجود الصور القلمية وأبدع ما تختزن اللغة ,أما كتاب (الحسين أبو الشهداء) لعباس العقاد فهو أول ملحمة نثرية في الأدب العربي كله , لأن العقاد في هذه الملحمة شاعر محلق في رداء باحث ومؤرخ مبرهن تحت قميص مصور بتعبير القلب وسرية اللغة , فلا يمكن الحاق كتاب العقاد عن الحسين بسائر كتبه ودواوينه , لأنه متفرد على كل مؤلفاته , ففيه أصالة الشعر وعناصر المسرحية وتصاعد الدراما البطولية, فهو ملحمة بكل المقاييس ومقارنة تاريخية بأصح المعايير , ولعل كتاب العقاد عن الحسين شكل أساسيات من المسرحيات الشعرية والنثرية مثل: الحسين ثائرا لعبدالرحمن الشرقاوي, ورأس الحسين لغادة البعلبكي, إلى جانب مسرحيات وفصول وأقاصيص وقصائد لا يقتدر هذا الحيز على تقصيها , لأن المؤلفات عن الحسين تستدعي مؤلفات ابتغاء المقارنة بين الأساليب الشعرية وبين نظريات المؤرخين وبين المذاهب الفكرية , لأن هذا التباين في التأليف عن (الحسين) لا يهدي إلى تباين في تمجيد (الحسين) وتلوين عناصر صورته وإعلائها إلى مرمى طموح الأبصار .”
فلسطين امتداد للحسين
الفقيد البردوني وبعدما سرد تاريخ العدالة الانسانية لاستشهاد الحسين اسقط ذلك على انسانية قضيةفلسطين المُحتلة وربطهما معاً للوصول الى معابر الوصول وتلك هي نبوءة مُبكرة للبردوني وهانحن نرى اليوم وبكل الحواس كيف تنازل معظم النظام السياسي العربي والاسلامي عن قضية فلسطين عن انسانية قضية فلسطين عن اسلامية فلسطين عن عروبة فلسطين بل تحالفوا مع غاصب فلسطين بل هم واقلامهم بذم الحسين ومدح بني امية والتاريخ قال كلمته بطغاة الماضي و سيقول كلمته بحكام الحاضر والانظمة والحكام هم حالة مُتغيره وللزوال بينما القضايا الانسانية ثابتة لاتتغير ويخلدها التاريخ والجغرافيا كقضايا مُحركه للاحرار ويتمسك بها الشرفاء والنبلاء لمقاومة الظالمين بل معيار للتمييز بين الحق والباطل وهانحن نرى اليوم وبكل الحواس كيف يتمسك انصار الحسين بعدالة القضية الفلسطينية وبالمقابل كيف فرطت انظمة خيانة التطبيع واقلامهم بالقضية الفلسطينية بل تخندقوا مع الظالمين الغاصبين فلسطين المُحتلة كما تخندق اسلافهم مع بني امية الغاصبين القتلة المجرمين واليوم هانحن نرى معابر الوصول تتشكل لتحقيق العدالة الانسانية للحسين وفلسطين
ومعاً وقد يتجلى النصر والانتصار المُبين في هذا الزمان القريب وربما اقرب ممانتوقع بالانتصار الخالد لعدالة القضية الانسانية للحسين وفلسطين معاً حيث كتب البردوني وقال: ” فليس من العجيب أن يشغل يوم عاشوراء ثقافة عصور , لأن أعظم القضايا شغل العظماء ومطمح تجديد الثقافات , فالقضية الفلسطينية التي لم تتجاوز الواحد والأربعين سنة استوقدت كوامن الأصالة الشعرية والخلق الفني , وسوف تظل هذه القضية أعظم قضايا الملايين من الناس وأعظم محاور الرقي الثقافي عشرات القرون , وهذه المقارنة بين استشهاد الحسين واغتصاب فلسطين مبررة الوجهة والوجوه , فبعد مقتل الحسين بقرن وقرون وبعد تعاقب السلطات من عدة بيوت وأجناس , ظل استشهاد الحسين جياشا في صدور الأنقياء من الناس وفي احساس المتفوقين من الشعراء والكتاب , كذلك قضية فلسطين فإنها اليوم مختلفة الصورة عنها قبل عشرة أعوام , فقد قبلتها أو وافقت عليها بعض الزعامات وتكاد أن تهضمها زعامات ومؤسسات أخرى ,
لكن هذه القضية الاغتصابية سوف تظل مركزية الثقافة الشعبية ,لأن الزعامات متعاقبة ومتغايرة , أما الحس الإنساني بقداسة كل قضية عظمى , فانه يملك ديمومة التطور ولا يملك أن يلين للفناء , فكما كتب عن استشهاد الحسين الرومي والفارسي والعربي والتركماني , تهافت حول قضية فلسطين القلم السوفيتي واليوناني والفرنسي والانجليزي والعربي والتركي والهندي والصيني بل قاتل الى جانب الفلسطيني الياباني والأمريكي والتركي والكردي , فهذه القضية العظمى لا تزول عن خارطة الفن الشعوري والعقلي إلا بزوال الاغتصاب الذي ستبقى ذكراه مدد التنديد , وليس هذا احد المستحيلات , فلكل الشعوب الى جانب كل حق مهضوم وضد كل اغتصاب سواء وقع على جبل طارق أو جزر الفوكلاند أو على جرينادا أو على رأس الحسين أو على رأس الثورة
الفلسطينية , لأن الشعوب أخوة حق ولأن الثقافة الانسانية لا تصالح كالكواليس ولا تقف عند ممكنات السياسة , لأنها حركة لها ديمومة التواصل وانسانية القوة وقوة الانسانية , فكل يوم يشبه عاشوراء فهو ينتمي إليه , وكل
فن قولي جدد حياة عاشوراء فهو ينتمي إلى نظائر عاشوراء , لأن المأسوية أقوى بواعث الأسى الانساني الذي يرتضع الحنين لكي يقوى على مصاولة معابر الوصول ”
نعم ايها البردوني اليمني الاصيل
نعم ايها الاعمىٰ البصير
نعم ايها الفقيد الحي فينا وبعد 33 ثلاثة وثلاثين عاماً من مقالتك هاهى معابر الوصول تتشكل وستتجلى قريباً بالعدالة لفلسطين والحسين معاً ولو كره المنافقين والظالمين .
المشهد اليمني الاول
عرض واستشراف
المحرر السياسي
السابع من محرم ١٤٤٤هجرية
10 اغسطس 2022م