التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا في أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ سنوات، وفي أعقاب حرب أوكرانيا، تراجعت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى لها منذ السنوات التي تلت انهيار الكتلة الشرقية، حيث يبدو أن خطر انجرار القوتين إلى حافة المواجهة المباشرة ليس بعيدًا عن التوقعات.
هاجمت القوات الجوية الروسية يومي الأربعاء والخميس الماضيين أهدافاً داخل القاعدة العسكرية الأمريكية في التنف قرب معبر التنف على الحدود مع العراق وغير بعيد عن الحدود الأردنية، وحسب ما ورد فقد حذَّر الجيش الروسي القوات الأمريكية قبل شن الضربة الجوية.
وقد تم إرسال هذه الرسالة التحذيرية عبر الخط الساخن للتنسيق الطارئ الذي تم إنشاؤه منذ سنوات، لتجنب خطر اندلاع صراع عسكري بين قوات البلدين في سوريا.
ووفقاً للجيش الأمريكي، بعد ذلك بوقت قصير، هاجم الروس مواقع ميليشيا حليفة لواشنطن في التنف، بطائرتين من طراز سوخوي 35 وطائرة سوخوي 24، دون وقوع إصابات. والقوات التي تم قصفها هي على ما يبدو عناصر كردية تعمل مع الأمريكيين، وتتلقی منهم الدعم والتدريب.
وأفادت وسائل الإعلام، الخميس الماضي، بأن طائرات مسيرة مجهولة استهدفت ليلة الأربعاء مقرات لعناصر إرهابية لـ “مغاوير الثورة” داخل قاعدة “التنف” الأمريكية شرق سوريا، والتي تعدّ من أهم مراكز قوات الاحتلال الأمريكي في هذه المنطقة.
تقوم الولايات المتحدة منذ أشهر بتدريب الإرهابيين المعروفين بمغاوير الثورة في قاعدة التنف، بحجة تدريب الميليشيات المحلية لمحاربة عودة ظهور داعش، وحسب وزير الداخلية العراقي السابق قاسم الزبيدي في تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي، فإن تحرك واشنطن هذا يهدف إلى مواجهة محور المقاومة في سوريا والعراق.
کما وقعت حادثة أخرى ليلة الهجوم الروسي قرب التنف. في تلك الليلة، داهمت القوات الأمريكية منزلاً في شمال شرق سوريا يُشتبه في أنه يؤوي هاني أحمد الكردي، وهو مسؤول في داعش قيل إنه الوالي السابق للرقة، العاصمة السابقة لخلافة داعش، وطبعاً حسب التقارير الإعلامية فإن هذه المهمة قد فشلت.
ومع ذلك، بعد وقت قصير من الحادث، قامت طائرتان مقاتلتان روسيتان من طراز سوخوي 34 بدوريات في المنطقة، ربما لجمع معلومات حول الأنشطة الأمريكية. وحسب المتحدث باسم الجيش الأمريكي، فإن مقاتلات إف -16 حلقت بعد ذلك، ما أجبر الطائرات الروسية على مغادرة مكان الحادث.
وقال إريك كوريلا قائد القيادة المركزية الأمريكية(سنتكوم): “نسعى لتجنب سوء التقدير أو أي عمل قد يؤدي إلى مواجهة غير ضرورية. هذه كانت ولا تزال مهمتنا”. وأضاف “في الوقت نفسه، فإن سلوك روسيا الأخير هو بالتأكيد استفزازي ومتصاعد”.
تجري سلسلة الأحداث هذه في سوريا في وقت متوتر في العلاقات الأمريكية الروسية، وعلی خلفية حرب أوكرانيا.
وبينما يحاول الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، إحباط أهداف موسكو العسكرية في أوكرانيا، من خلال جميع أنواع الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية والدعائية والثقافية والرياضية، لتستمر هذه الحرب دون إنجاز وبتكلفة كبيرة على الكرملين، يبدو أن أحد المجالات الرئيسية لرد فعل بوتين ضد الغرب هو تسليط الضوء على إمكانية وقوع مواجهة عسكرية إذا كانت روسيا ترغب في الانتقام، لممارسة الضغط علی الوجود العسكري الأمريكي غير القانوني على الأراضي السورية.
لقد نشر الجيش الأمريكي قرابة ألف جندي في سوريا بذريعة محاربة داعش، لكن مصادر محلية ومسؤولين في الحكومة السورية اتهموا القوات الأمريكية مرارًا بالتورط في نهب النفط في شمال شرق سوريا.
زيادة التحركات الروسية من شمال إلى شمال شرق سوريا.. اختلال ميزان القوى
في أواخر فبراير، عندما شن الجيش الروسي عمليةً عسكريةً خاصةً في أوكرانيا، بدأ المحللون الإقليميون ووسائل الإعلام في التكهن حول كيفية تأثير هذه الحرب على الوجود العسكري لموسكو في سوريا.
التكهنات لم تدم طويلاً، وتحدثت وسائل الإعلام عن بدء انسحاب وحدات المشاة والطيران والهندسة الروسية من مختلف أنحاء سوريا. ونتيجةً لهذا التطور، تحدثت وسائل الإعلام والمحللون الغربيون والعرب عن إمكانية تقليص الوجود العسكري الروسي في سوريا.
لكن التطورات الأخيرة على الأرض تروي قصةً مختلفةً تمامًا. فبالإضافة إلى تعزيز قواتها في شمال سوريا ردًا على التهديدات التركية بجولة جديدة من العمليات العسكرية عبر الحدود، أجرت موسكو مناورات جوية مشتركة واسعة النطاق مع دمشق فوق هذه المناطق، وهي ترسل مساعدات إنسانية لأهالي السويداء والحسكة.
بشكل عام، تُظهر هذه الأنشطة أن روسيا، رغم تقليص وجودها في سوريا، عازمة على زيادة نشاط قواتها في مناطق شمال سوريا.
وحسب تقارير إعلامية سورية، نشرت موسكو في أواخر أيار/مايو قوات وست طائرات هليكوبتر هجومية من طراز “كا-52″(التمساح)، وطائرتين قاذفتين من طراز Su-34 في مطار القامشلي. كما تم إرسال أرتال عسكرية روسية إلى مدينتي منبج وتل رفعت في عشرات الآليات.
والأهم من ذلك، أن روسيا كثفت نشاطها الجوي على الحدود السورية التركية، وكذلك على الخطوط الأمامية في محافظتي الحسكة وحلب. والغرض من هذه الأنشطة هو ضمان عدم إمكانية شن هجوم تركي جديد دون الضوء الأخضر من موسكو.
إعتبارًا من سبتمبر 2015، تم نشر حوالي 63 ألف عسكري روسي في سوريا. وفي حين أن عدد القوات المتمركزة حاليًا في سوريا ربما يكون أقل بكثير، لکن المهم هو أن موسكو لا تحتاج في الواقع إلى الاحتفاظ بأعداد كبيرة من القوات والمعدات بسبب الانخفاض الكبير في الصراع وساحات القتال النشطة.
وفي الوقت نفسه، فإن المقياس الأكثر دقةً لنفوذ روسيا في سوريا هو قدرتها على مواجهة تحركات المنافسين في شمال سوريا، وكان للحرب في أوكرانيا تأثير ضئيل على هذه المهمة.
لا شك أن تزايد التحركات الروسية في مناطق شمال سوريا، ولا سيما منع جولة جديدة من العمليات العسكرية التركية وتعطيل النشاط الحر للقوات الأمريكية في المنطقة، تزامناً مع الوساطة في المفاوضات بين الحكومة المركزية والأكراد، سيعزز موقف موسكو السياسي إلی جانب زيادة تحركاتها العسكرية في معادلات شمال سوريا.