– تدرك موسكو منذ بداية الأزمة المتصلة بطلب ضمانات أمنية واضحة من الرئيس الأمريكي وشركائه في حلف الناتو بعدم ضمّ دول الجوار الروسي إلى الحلف أنها ذاهبة الى الحرب، وتدرك أنها خلال سنوات السباق لاستعادة مكانتها الدولية قد نجحت بكسب حرب الأنابيب في مجال السباق العسكري، بواسطة نشر شبكات الـ أس 400 وبناء قوات عسكرية حديثة متفوقة للقتال النظامي التقليدي، والسباق على أنابيب الطاقة، عبر إمساكها بمورد الطاقة الرئيسي لأوروبا وبنقطة الثقل في توازن توريد الطاقة وسوقي العرض والطلب في النفط والغاز، وان دونها والربح المفترض في سباق أنابيب المال والإعلام التي يمسك بها الأميركيون وحلفاؤهم، عقود وليس مجرد سنوات.
فالنظام المصرفي العالمي وشبكات الإعلام والمعلومات، تحت القبضة الأميركية بالكامل، وأن الأميركي لن يتركها تحقق التوازن في هذا المجال لترتضي منازلة محتومة الفوز لروسيا وحليفتها الصين، التي سيقوم على عاتقها تحقيق التفوق في سباق أنابيب المال والمعلومات والاتصال، ولذلك كانت التوقعات الروسية بإعداد أميركي لحرب وشيكة، والاعتقاد الجازم بأن أوكرانيا ستكون ساحة النزال الوشيكة.
– خلال عامين كانت واشنطن وموسكو تقتربان من لحظة المواجهة، ويعتقد العسكريون الروس أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والانخراط الأميركي في مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، كانا من جهة تعبيراً عن مأزق واشنطن العالقة في منتصف الطريق الشائك في الملفين، لكنهما كانا من جهة موازية، تخففا من الأثقال استعداداً للمواجهة في أوكرانيا،
حيث الدولة التي تشكل ثاني أكبر دولة بعد روسيا بين دول الاتحاد السوفياتي السابق، مساحة وعدد سكان وقدرات عسكرية وتطور تقني، وحيث النظرية الأميركية التقليدية التي صاغها مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي عام 1980، أن روسيا بدون أوكرانيا مجرد دولة كبيرة، ومع أوكرانيا هي دولة عظمى، والخطة هي الفشل في حل سلمي لأزمة إقليم دونباس تنتهي باجتياح أوكرانيا لها، بالتزامن مع ضم أوكرانيا لحلف الناتو، ووضع روسيا أمام أمر واقع يشبه ما فعلته روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
– ينظر الأميركيون الى اوكرانيا نظرة تضعها في مصاف ألمانيا أو اليابان عشية الحرب العالمية الثانية، حيث خمسون مليون نسمة من السكان وأكثر من 600 الف كيلو متر مربع مساحة، واقتصاد رشيق بحجم 150 مليار دولار، يحتل موقع استراتيجي في قطاع الحبوب والزيوت وتكرير المشتقات النفطية وممرات أنابيب الغاز الروسية، وصناعة التقنيات المتطورة والحديد والصلب والطائرات، وكتلة صلبة متطرفة قومياً ودينياً وعرقياً تنتمي لأصول قاتلت في الحرب العالمية الثانية ضد الجيش السوفياتي الى جانب المانيا بقيادة أدولف هتلر، ودفع الجيش الأحمر آلاف الجنود لاستعادتها،
ويمثل النازيون الجدد فيها قوة لها امتدادات أوروبية وازنة في العديد من دول الجوار وصولاً إلى ألمانيا، وفي تصويت على مشروع قرار تقدّمت به روسيا تشرين الأول عام 2021 يدعو لتجريم تمجيد النازية، صوّتت واشنطن وكييف فقط ضد القرار الذي أيده 135 دولة مع روسيا وامتنع 45 عن التصويت، والاهتمام الأميركي بتشكيل أرضية صلبة للعداء لروسيا تستند إلى هذا التطلع النازي الجديد، كان أحد عناصر الرهان على إجبار الحكومات الأوروبية وخصوصاً الألمانية للتحسب لخطورة معارضة الخطة الأميركية.
– الأميركيون وعدوا الأوكرانيين بضمّهم للناتو بعد حسم وضع إقليمي دونباس عسكرياً، وقاموا بتزويدهم بالسلاح والتقارير الاستخبارية استعداداً لذلك، لكن موسكو كانت تتابع، وكان إصرارها على رسالة الضمانات يسير بالتوازي مع استعداداتها للحرب، وكانت المعادلة الأولى المطروحة على طاولة القيادة الروسية، تقوم على انتظار بدء الهجوم على أقاليم دونباس من الجانب الأوكراني.
وفي هذه الحالة قد تكسب موسكو إعلامياً موقعها كمدافع، لكنها قد تخسر عسكرياً، ولأن الكسب الإعلامي مؤقت، بحكم السيطرة الأميركية على انابيب الإعلام، والكسب العسكري ثابت، كانت الأفضلية للسيناريو البديل، تبدأ موسكو العمل العسكري عندما تتيقن من عدم وصول رسالة الضمانات، وتعتبر ذلك جواباً كافياً لنية الحرب، لأن لا شيء يمنع توجيهها إذا كان الحال كما يقول الأميركيون اليوم للأوكرانيين، بعدما بدأت روسيا الحرب وصار الضمّ مستحيلاً فيقولون، لن نضمكم للناتو.
– الفرق بين قدرة المبادرة وتحقيق المفاجأة قد يبدو تفصيلاً، لكنه مهم جداً في الحرب، فحتى لو كانت المبادرة مفاجئة، فهي تبقي صاحبهاً ممسكاً بزمام الأمور، وهكذا حسمت موسكو أمر الحرب، متنازلة سلفاً عن ربح الشوط الأول إعلامياً وقبلت الظهور بمظهر لا ترغبه كدولة تغزو دولة أخرى، مقابل أن تربح الجولة الأولى عسكرياً،
وتمتلك أفضلية النقلة الأولى على رقعة الشطرنج، وسيستمر السباق على هاتين المنصتين، موسكو تتقدّم عسكرياً، وهي واثقة من أنها تنفذ خطتها بحذافيرها، لكنها تتحمل غبار حملة إعلامية قاسية تصورها في حال إخفاق وتتهمها بارتكاب جرائم، بانتظار أن تفتح المنصة المالية، التي قاد الأميركيون فيها بسرعة حملة شرسة بهدف كش ملك من أول اللعبة،
بتجميد أصول البنك المركزي وأصول البنوك الكبرى والشركات العملاقة ورجال الأعمال الكبار، والرهان الأميركي كان على تجفيف الوقود الأهم من الآلة الروسية وهو المال، وحجب دعم النخبة الحاكمة للرئيس الروسي، لكن فلاديمير بوتين بدا أنه كان مستعداً، فلاعب الشطرنج يعرف معنى لعبة تسمّى بالتبييت في حال الشعور بخطر كش ملك، هي ضربة وقائيّة يتبادل عبرها البهلول والقلعة مكانيهما، لتتولى القلعة حماية الملك.
– القلعة هي الجيش من جهة، والمجتمع من جهة موازية، والجيش يواصل التقدّم وسيواصل وبقوّة ووفقاً للخطة المرسومة ولا يستطيع تعطيل مهمته أحد، أما المجتمع فهو ليس الأغنياء فيه وحدهم، فهؤلاء الذين استهدفتهم العقوبات، وعدوا بأن أملاك الشركات الغربية ورجال الأعمال الغربيين سيتم ضمها الى وصاية قضائية لتعويضهم منها مقابل خسائرهم،
لكن قاعدة المجتمع التي تسأل عن الوقود والخبز واللحوم وأسعارها، فقد تمّ تحييدها عن أي تأثير سلبي للحرب، بل ان الاستهلاكيات الروسية شهدت تخفيضات تشجيعية للمواطنين للشراء، من أجل تحريك عجلة الاستهلاك، ويعتقد الاقتصاديون الروس أن تجميد صلة روسيا بالأسواق العالمية عبر تعليق العمل بالبورصة، وتقديم حوافز لبيع الروبل مقابل الذهب ورفع الفائدة على الروبل،
نجحت بتحديد الخسائر في القدرة الشرائية، مع وجود احتياطيات تحت السيطرة تزيد عن 55% من إجمالي الاحتياطيات النقدية، تقدر بـ350 مليار دولار، اتاحت التحكم بالأسواق وضمنت القدرة لسنوات لتأمين الحاجات الأساسية المستوردة وهي محدودة، بينما بقي التدفق اليومي لعائدات بيع الغاز والنفط، سيولة اضافية كبيرة، تكفي الاشارة الى انه يوم أول أمس الخميس وحده قاربت مبيعات روسيا من الغاز والنفط مليار دولار مقابل 300 مليون في اليوم العادي، والسبب ارتفاع الطلب الى الضعف من جهة، وارتفاع الأسعار بين 50% للنفط و150% للغاز.
من جهة موازية، وبالمقابل دخل الغرب في سباق مجنون لحرب الأسعار في أسواق الأساسيات، وهي الغذاء والنفط، فسوق القمح والذرة والزيوت روسيّة وأوكرانيّة، وقد توقفت عملياً عن التصدير، وسوق النفط والغاز هي بنسبة 50% بالنسبة لأوروبا و25% بالنسبة لأميركا روسية، لجهة حجم التأثير في الأسعار، فزاد إنفاق الأسرة العادية الأوروبية خلال أسبوع مع ارتفاع الأسعار 40% وزاد الإنفاق بالنسبة للأسرة الأميركية بنسبة 30%، والآتي أعظم.
– كل يوم يمر من الحرب ستصبح المكاسب الغربية في الحرب الإعلامية والمالية كميّة، بينما المكاسب الروسية في الحرب العسكرية والاجتماعية نوعيّة، وسيظهر أن القلعة التي يمثلها الجيش والمجتمع قامت بحماية الملك، بينما على المقلب الآخر سيكون على الملك أن ينتظر كش ملك، من الجيش أو من المجتمع، لأن القلعة مجمّدة والبهلول يقود اللعبة!
ناصر قنديل