مثل هكذا الفوز حدث يحصل كثير وكل يوم تقريبا يفوز منتخب على منتخب، وفريق على فريق، فما بال فوز اليمن على السعودية يمكن أن تكون له دلالات ومعاني؟
ولماذا لا يبقى الفوز اليمني سطحيا؟ ولماذا على من يحلله أن ينظر إليه كحدث غير عادي؟ ولماذا عليه أن يسبر أغواره ولماذا عليه في التعليق على حدث رياضي كهذا أن يستحضر التاريخ والجغرافيا والسياسة والماضي والحاضر والمذاهب وكل ما لا يمت إلى الرياضة بصلة؟
لم ينشأ المنتخب كباقي منتخبات العالم
واحدة من فقرات الإجابة هي أن هذا المنتخب اليمني الصغير المتوج لم ينشأ أفراده كما نشأ أطفال العالم، فهؤلاء الصبية جاءوا من رحم المعاناة من أعمقها لجة وظلاما، جاءوا من أوساط شعب يتعرض لأكبر عملية طحن وقتل وتجويع وكسر إرادة عرفتها البشرية طوال تاريخها من عصور الإنسان الزاحف مرورا بالإنسان المنتصب وصولا إلى إنسان الهومو.
هذا المنتخب لم يأتي من قاعات أكاديمية برشلونة ولم يمر خلال فترة نموه برياض الأطفال ولم يتعود أن يحصل صباحاً على كوب حليب صحي تقدمه له معلمة في مدرسة، فضلاً عن أن يجد هذا الكوب في منزله الذي يرى فيه والده ووالدته يضويان ويغزوهما الشيب هما وخوفا وألما ووجعا فيبدوان كهلين وهما في ربيع عمريهما، إذ أنهما يحملان من الهموم والديون ما تنوء بحمله جبال زاجروس وأطلس وهيجة العبد، ولا تثريب عليهما فهما إن تمكنا من توفير وجبة غداء لأطفالهما اليوم فلن يجداها غدا، وأن توفر لهما الدقيق لم يجدا الغاز أو الماء ولربما تعذر عليهما العثور على الملح.
بسطاء لايجدون قوتهم
كيف لأطفال جاءوا من هذه البيئة الذي طحنها العدوان و غاراته ومؤامراته ومرتزقته أن يفوزوا على منتخب — جاء لاعبيه من غني مترف — يتغذى اللاعب منهم تحت إشراف خبراء تغذية ويحصلون على وجبات لم تكن لتخطر على بال نظراؤهم اليمنيين حتى في أحلامهم؟ لكن هذا قد حصل وفاز أولئك الصبية وعلى منتخب السعودية، التي يراها معظم اليمنيون — على الأقل في السنوات الأخيرة —أنها تلك الجارة القريبة لكنها البعيدة المستعلية المترفة التي تملك الكثير من الأموال فلا تجد ما تستثمرها فيه إلا بإطلاق عواصف الحزم والأمل على الجار الفقير القريب الذي يواجه وحيدا الجوع والوجع والجهل والتشظي والذي غدا على قناعة أن تلك الجارة هي السبب الأكبر في كل الشقاء والبؤس الذي يعانيه، رغم أنها تستطيع أن تقتطع جزء يسير من أموالها — التي تصرفها في حبك الدسائس والمؤامرات وحفلات القطيعة ضد جيرانها ومن يعتبرون أشقائها—فتوفر منه كوب حليب لكل طفل يمني ولكل صباح أو على الأقل تتوقف عن إيذائه.
ليست كأي دولة
لعلنا ندرك أن الفوز للمنتخب اليمني الصغير ليس كأي فوز وعلى منتخب ليس كأي منتخب بل يمثل دولة ليست كأي دولة بالنسبة لليمنيين فهم يربطون أسمها بكل قطرة دم وحرقة جوع ولهفة عطش وزفرة ألم وتنهيدة هم حدثت لهم وتحدث منذ أن كانوا في أرحام أمهاتهم إلى أن صاروا صبية يستطيعون هزيمتها وإلى أن يكونوا شبابا أقوياء فيعملون في تنميتها أو تشغلهم كمرتزقة يقاتلون بالوكالة عنها وحتى يصبحون شيوخا لم تعد لهم أي أمنية الإ الحج إليها ومن بعده الموت فتمنعهم من الحج وتسمح لهم بالموت فيموتون.
أليس الفوز على السعودية وإن كان رمزيا لدى العالم لكنه مهم ومهم لدى اليمنيون لأنه على السعودية والسعودية تحديدا ولهذا كانت له دلالات ومعاني.
لا يعني ماسبق أننا نتنازل ونتخلى عن إستحقاقاتنا المحلية ولا عن صراعنا الوجودي لإستعادة دولتنا لكننا نؤجل كل ذلك للتفكر في اللحظة العابرة وإلى أن يعود لنا ما سلب منا سنظل جزء من هذا الحيز الجغرافي حاملين لهويته.