رسائل الرياض إلى واشنطن وكيان العدو الصهيوني

494
واشنطن
واشنطن

يقدم العالم المليء بـ «المفاجآت» مادة دسمة جديدة، فبعد أن كانت وسائل الإعلام والمحللون السياسيون قد تأقلموا مع الخطاب العدائي بين السعودية وإيران، يطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قنبلة من العيار الثقيل، ويتمنى علاقاتٍ طيبة مع «الجارة إيران» التي ردت خارجيتها بتصريحات مشابهة اتجاه الرياض.

إن كانت التصريحات الإيجابية السعودية– الإيرانية حول العلاقات بين البلدين غير متوقعة، نظراً لحالة العداء المعلنة بينهم، فهي أصبحت واقعاً اليوم، وبات من المجدي فهم السبب وراء هذا التحول، والمقدمات التي أوصلتنا إليه.

حالة المواجهة القائمة بين إيران والسعودية شكلت نقطة استقطاب أساسية في المنطقة، وجرى على أساس حالة العداء والتناقض في السياسة الخارجية لكلا البلدين، قسم المنطقة بين معسكرين متحاربين، وزادت الأحداث المتسارعة في العقد الماضي الشرخ القائم، والذي أنتج– بإقرار جميع الأطراف– حالة من الاستنزاف في المنطقة، وأخرت بحث الملفات العالقة مما عقّد الوضع في وأوصلنا على شفا حربٍ طاحنة.

هل كانت تصريحات بن سلمان مفاجئة؟

تداولت مصادر سياسية وإعلامية من أسابيع مضت، تلميحات عن لقاءات سرية سعودية- إيرانية، وعلى الرغم من عدم وجود تأكيدات رسمية أو نفي هذه المعلومات في أحيانٍ أخرى، إلا أن الأنباء استمرت بالتواتر، حتى أعلن العراق بشكل رسمي عن أنه طرفٌ في وساطة إيرانية- سعودية وأعلن الرئيس العراقي برهم صالح، أن بلاده استضافت عدداً من اللقاءات بين البلدين في الفترة الماضية. ليقوم لاحقاً بن سلمان بتأكيد هذه الأنباء بعد أن أطلق تصريحات لوسائل إعلامٍ سعودية غيّر فيها من نبرة الرياض اتجاه طهران بشكلٍ جذري، وأكد أن «إيران دولة جارة»، وأشار إلى نية الرياض في بناء علاقات «طيبة ومميزة مع إيران»، مضيفاً أن المملكة تريد «إيران مزدهرة» وأن للسعودية وإيران مصالح متبادلة في كلا البدلين وهذا ما قد «يدفع العالم والمنطقة للازدهار». واتضحت في وقتٍ لاحق معلومات إضافية حول هذه المباحثات، ليتبين أنها تجري منذ زمن حسب ما أكدته مصادر متنوعة، وأنها ضمت مدير الاستخبارات السعودية، خالد الحميدان، ونائب سكرتير المجلس الأعلى للأمن الإيراني، سعيد عرافاني.

مباحثات بطيف تأثير واسع

كما هو معروف، كان لطبيعة العلاقات المتوترة بين إيران والسعودية أثرٌ كبير على مجمل الملفات في المنطقة، بل إن عدداً من هذه الملفات يرتبط بشكل مباشر بحالة العداء القائمة، ويبدو هذا واضحاً في حرب اليمن والأزمة السورية واللبنانية، وترتفع سخونة المواجهة في مياه الخليج واحتمالات اتساع رقعة المواجهة وانتقالها من حرب الوكالة إلى حرب مباشرة، وبتالي لا نحتاج جهداً كبيراً لإثبات أن تقارباً بين السعودية وإيران وفتح باب الحلول السياسية والدبلوماسية لمعالجة المخاوف المتبادلة بين الطرفين إنما يشكّل مفتاحاً أساسياً لخفض التوتر في المنطقة ولا يبدو أن أحداً يشكك في الأثر الإيجابي لهذا النوع من التقارب.

لكن جملة من الأمور التي يجري تداولها تحاول عبر مقدمات خاطئة تفسير ما يحدث، وعلى هذا الأساس يتم بناء سيناريو مشوه لما يجري مما ينتج في نهاية المطاف تصورات مشوهة عن مستقبل المنطقة إذا ما نجحت هذه المفاوضات في مهمة خفض التوتر بين البلدين.

أسباب التقارب: نقد الفرضية

ما الذي دفع بن سلمان لتغيير موقفه من إيران؟ هذا السؤال الذي يحاول الجميع الإجابة عنه، ومن المثير للانتباه أن رأياً يلقى رواجاً وتتبناه عدد من الدوريات الأمريكية والغربية، والذي يقول الرواية التالية:
«الولايات المتحدة الأمريكية باتت ترى في وجودها في منطقة الشرق الأوسط تكلفة باهظة دون مردود مناسب، وترى أن بقاء قواتها في هذه المنطقة لم يعد كافياً لردع الخصوم، وتحديداً الصين في شرق آسيا، مما يستوجب إيجاد حل سريع للملفات العالقة في المنطقة، فتعود على أساس هذا السيناريو الولايات المتحدة لصفقة النووي الإيراني من جهة، وتلغي سبب بقاء قواتها في منطقة الخليج عبر إيجاد أرضية للتفاهم السعودي الإيراني» وعلى هذا الأساس يرى أصحاب هذه النظرية أن تغيير نبرة بن سلمان اتجاه إيران هو سلوك جديد يتماشى مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة للمنطقة. لكن إعادة تفكيك هذه الفرضية تثبت أنها شديدة البعد عن الحقيقة! فصحيح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل التكاليف الباهظة لوجودها في المنطقة لكن هذا لم يعنِ في يومٍ من الأيام تغييراً في الأهداف الإستراتيجية التي وضعتها واشنطن، بل إن النتائج التي حققتها القوات الأمريكية شديدة الوضوح، ويمكن تلخيصها بالفوضى، وإيجاد ذلك المناخ المولد للأزمات، لذلك ومنذ أن باتت واشنطن مضطرة لإعادة تموضعها العسكري، عملت على إشعال المنطقة كي لا يختلف الوضع بعد أن تجلي قواعدها من هنا، وإن كنا لا نرى ضرورة لإثبات ذلك نظراً لوجود آلاف الدلائل عليه إلا أنه من الضروري عرض مثالين على ذلك بشكلٍ سريع:
«صفقة القرن»: ما الذي يعنيه أن تطرح واشنطن خطة جديدة لإيجاد «السلام في الشرق الأوسط» تقوم على إسقاط كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتشكّل في مضمونها مادة لا يمكن قبولها من كل دول المنطقة؟ فما عرف باسم «صفقة القرن» كان يضمن لواشنطن إشعال الملف عبر استفزاز كل الأطراف دولياً وإقليمياً وعبر إطلاق يد الكيان الصهيوني في المنطقة مما يشكّل تهديداً وجودياً لكل دول الطوق، أي: ترك المنطقة في حالة من الغليان التي تضمن بقاء احتمال الصدام قائماً مع كل ما يحمله من آثارٍ واسعة على المنطقة وحالة من عدم الاستقرار الطويلة.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: منذ الإعلان الرسمي عن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان سعت واشنطن إلى إتمام هذه المهمة بالشكل الذي يضمن تفجير الأوضاع هناك حتى مع غياب القوات الأمريكية، فدفعت واشنطن عبر تأجيل انسحابها حركة طالبان لأن تعتبر أن اتفاق الدوحة أصبح لاغياً مما دفع الأمور في أفغانستان نحو مزيد من التصعيد قد يصل إلى انفجار يصعب ضبطه.
ما سبق يؤكد أن ما رغبت به واشنطن هو العكس تماماً، وهو أن تبقي على حالة من الاستنزاف في العلاقات بين الخليج العربي وإيران لأطول فترة ممكنة، ولعبت اتفاقيات التطبيع المشؤومة للعلاقات بين الكيان الصهيوني ودول الخليج الدور الكبير في توتير هذه العلاقة. أي: إن واشنطن كانت تسعى على أرض الواقع إلى نتيجة مناقضة تماماً لما يجري اليوم.

واشنطن
واشنطن

ما الذي سمح بهذا التقارب إذاً؟

لا يستطيع البعض تصور أن يجري حدثٌ وازنٌ في المنطقة دون رعاية واشنطن! لذلك يجري لي ذراع الواقع حتى يظهر أن دوراً أمريكياً تجري ممارسته، وأن حلفاء واشنطن التاريخيين لن ينفضوا عنها. فواشنطن وحدها من يمسك خيوط كل شيء! لكن مقالاً نشر في مجلة «الفورين بولسي» بعنوان «لماذا يريد بن سلمان فجأة التفاوض مع إيران؟» تشير الكاتبة إلى أن واشنطن لعبت دوراً بكل تأكيد في هذه العملية لكن لا عبر جهود دبلوماسية جديدة! بل «العكس تماماً» فالمقال يؤكد أن «إشارات واشنطن المتكررة حول انفصالها عن الشرق الأوسط» هو ما يبرر هذه التطورات. وهنا زبدة الكلام، فكل دول المنطقة تبحث اليوم في خياراتها، وترى السعودية كغيرها ضرورة لإعادة مراجعة سياستها الخارجية بما ينسجم مع مصالحها، فدول الخليج كانت تتلقى دعماً عسكرياً مباشراً من واشنطن، لكن الأخيرة لم تعد قادرة على ذلك، وهنا تحدياً يبدو أن بن سلمان الذي يتعرض لضغوط شديدة من واشنطن، يقرأ التحولات الجارية في المنطقة، ويرى أن المبادرات الروسية والصينية لتطبيع العلاقات مع إيران تسمح له بإنجاز تحولٍ إستراتيجي ينقل السعودية إلى خندقٍ مختلف.