المشهد اليمني الأول/
مر عامان على مقتل الصحفي السعودي الشهير جمال خاشقجي، كاتب العمود في الواشنطن بوست، الذي تم ذبحه وتقطيعه داخل القنصلية السعودية في إسطنبول على يد فرقة من عملاء النظام السعودي في 02 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
طوال تلك الفترة، بقيت حقيقتان على حالهما: لم تتحقق العدالة في محاكمة قاتليه، ومحمد بن سلمان -ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة- استمر في حملات قمعه الوحشية التي جعلت نظامه هو الأكثر قسوة والأكثر إجراماً في تاريخ البلاد الحديث.
أعقبت عملية مقتل جمال خاشقجي رد فعل دولي قوي، جعل من محمد بن سلمان شخصاً منبوذاً على مستوى العالم، ومع ذلك، لم يغير ولي العهد من سلوكه، بل استمر في طغيانه بصورة أكبر.
الأكثر من ذلك
أنه في ذروة الانتقاد الدولي لتلك الجريمة الشنعاء، أرسل محمد بن سلمان بعد أيام من الجريمة فريقاً من قتلة آخرين إلى كندا في محاولة فاشلة لقتل مسؤول المخابرات السابق، سعد الجبري، بحسب دعوى قضائية رفعها الجبري في الولايات المتحدة في أغسطس/آب المنصرم اتهم فيها بن سلمان بالتخطيط لقتله.
ووفقاً لتصريحات الجبري، فإن النظام السعودي اعتقل اثنين من أبنائه وأحد أشقائه في مارس/آذار من العام الجاري، واحتجزهم كرهائن -حتى الآن- في محاولة أخرى لإجبار الجبري على العودة إلى المملكة.
استمر بن سلمان في حبس الأمراء ورجال الأعمال والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، دون توجيه اتهامات مباشرة إليهم، فقط يعتقلهم لأنه يعتبرهم مصدر تهديد كبير لعرشه.
لم يتم إطلاق سراح أكثر من عشرين من الناشطين في مجال حقوق المرأة ممن تم اعتقالهم في عام 2018؛ وفي الأغلب يظلون رهن الاعتقال المنزلي، والبقية لا يزالون في السجن يظلون في السجن دون إدانتهم بجريمة، في المقابل، لم تتم معاقبة كبير مساعدي محمد بن سلمان الذي دبر مقتل خاشقجي وأشرف على عمليات اعتقال النساء وتعذيبهن، سعود القحطاني.
بل لم يتعرض بن سلمان لأي مساءلة قانونية رغم التقارير الدولية كتقارير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتحقيقات الأمم المتحدة التي تشير إلى تورطه في تلك الجرائم، هذا بالإضافة إلى الدعم اللامتناهي الذي يتلقاه من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي دافع عن بن سلمان في جريمة قتل خاشقجي، ثم تفاخر أمام الصحفيين قائلاً ذات مرة بأنه “أنقذ مؤخرته”.
إن السلوك الاستبدادي لولي العهد هو الذي أجبر خاشقجي، البالغ من العمر 58 عاماً، إلى مغادرة بلاده إلى الولايات المتحدة بعد حياة مهنية وافرة أمضاها كصحفي بارز في الصحف السعودية الرئيسية وكمتحدث في السفارات السعودية في لندن وواشنطن.
لم يكن خاشقجي يعتبر نفسه معارضاً سياسياً للنظام، بل كان يرى نفسه مدافعاً عن الحقوق الأساسية، ومطالباً بعمل إصلاحات سلمية داخل النظام والمملكة، كحرية الرأي والتعبير، وإعطاء المرأة مزيداً من الحقوق.
في بداية عهد بن سلمان، رحب خاشقجي بالتحرر الاجتماعي الذي أدخله محمد بن سلمان، مثل افتتاح دور السينما والسماح للمرأة بقيادة السيارات، لكن هذا لم يمنعه من انتقاد اضطهاد الأشخاص الذين طالبوا بتلك التغييرات، وتساءل في إحدى مقالاته في الواشنطن بوست: لماذا يجب على السعوديين “الاختيار بين دور السينما وحقوقنا كمواطنين في التحدث علانية، سواء لدعم أو انتقاد تصرفات حكومتنا؟”.
وكتب في إحدى المرات: “لقد طُلب منا التخلي عن أي أمل في الحرية السياسية، والتزام الصمت بشأن الاعتقالات وقرارات المنع من السفر، التي لم تطال المعارضين وحسب، ولكن شملت عائلاتهم أيضاً”.
وأضاف “النظام يريد منا أن نشيد بقوة بالإصلاحات الاجتماعية ونثني على ولي العهد مع تجنب أي إشارة إلى السعوديين الرواد الذين تجرأوا على طرح هذه القضايا منذ عقود”.
كان بإمكان ولي العهد أن يمنح مصداقية لمبادرته التحديثية، “رؤية السعودية 2030″، من خلال احتضان كتاب مثل خاشقجي ونشطاء مثل لجين الهذلول، التي طالبت بحق المرأة في القيادة، وكنتيجة لذلك تم وضعها في السجن، إلا أن بن قام في الواقع بتحفيز المستثمرين الأجانب بالانسحاب من المشاركة في تنفيذ رؤيته التي تعتمد على سلوكه المتهور والوحشية المروعة في التعامل مع المواطنين.
في المقابل، لم يبذل بن سلمان الجهد المطلوب لتحسين صورته وسمعة المملكة التي شوهها سجل النظام السيء ضد حقوق الإنسان، بل كانت محاولات تحسين الصورة ضعيفة بشكل مثير للشفقة.
في الشهر الماضي، على سبيل المثال، قضت محكمة سعودية بتخفيف الحكم على ثمانية من المتورطين في قتل خاشقجي من الإعدام إلى السجن لمدد تتراوح بين سبعة إلى 20 عامًا بتهمة قتل خاشقجي، وهو ما وصفته محققة الأمم المتحدة أغنيس كالامارد بأنها “محاكاة ساخرة للعدالة”.
عقدت المحاكمة سراً، ولم يتم حتى ذكر أسماء المدانين، وإلى يومنا هذا لم توضح السلطات السعودية ما حدث لأشلاء خاشقجي بعد أن تم تقطيعه بمنشار عظام، كما لم تقدم رفاته لأسرته.
المفارقة هنا، أن محمد بن سلمان لا يزال يأمل في أن يتم “إعادة تأهيله” من قبل قادة العالم المشاركين في قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتي على الأرجح سيتم عقدها بصورة افتراضية بسبب جائحة كوفيد-19 المتفشي في العالم.
إذا عُقدت القمة بصورة طبيعية، حتى عبر الإنترنت، فيجب أن يتغير اسمها من “قمة العشرين” إلى قمة “الإفلات من العقاب”، حيث سيسمح لمحمد بن سلمان بالظهور كقائد عالمي في وضع جيد إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والكندي جاستن ترودو إلى جانب آخرين، وسيتأكد حينها أنه لا رقيب عليه، وأنه حر طليق لديه الدعم الكافي لارتكاب مزيد من الانتهاكات من قتل الصحفيين، وتعذيب المزيد من النشطاء والناشطات.
كان القادة الديمقراطيون يتحدثون عن الحاجة إلى دعم القيم الليبرالية التي تتعرض لهجوم من الصين وروسيا والأنظمة الاستبدادية الأخرى، وإذا أرادوا حقاً تطبيق هذه القيم، عليهم على الأقل اشتراط مشاركتهم في قمة مجموعة العشرين بإطلاق سراح كافة سجناء السياسيين، وتقديم قتلة خاشقجي لمحاكمة عادلة، يتم فيها الانتصاف لحقوقه التي لا تزال تهدر منذ عامين من مقتله.