المشهد اليمني الأول/
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نتحدث اليوم على ضوء سورةٍ من السور القرآنية المهمة، هي سورة الناس، والموضوع الرئيسي لسورة الناس هو التنبيه إلى خطورة الوساوس والموسوسين، وإلى طريق النجاة من شر ذلك، هذا الموضوع قد يبدو عند الكثير من الناس موضوعاً عادياً، وموضوعاً من المواضيع الهامشية، لا يلتفت إليه بمستوى ما يمثله من خطورةٍ ومن أهمية، ولكن من خلال التأمل في هذه السورة المباركة وما فيها من الآيات، ينتبه الإنسان إلى أهمية هذه المسألة، وإلى ضرورة أن يتعامل مع هذا الموضوع بجد، وانتباه كبير، ويقظة عالية.
يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم:
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}
يتوجه الخطاب في هذه السورة المباركة إلى مَنْ؟ إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، ثم إلى كل شخصٍ إلى كل فردٍ من أبناء هذه الأمة من المسلمين، {قُلْ}، عندما وجِّه الخطاب إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- فهذا بحد ذاته تنبيهٌ كبيرٌ لنا جميعاً، أنَّ الكل مستهدف بهذا الخطر وبهذا الشر، الكل بلا استثناء، الوساوس هي شرٌ قابلٌ للانتقال بين كل أبناء المجتمع، وبين مختلف فئات المجتمع، بين الرجال والنساء، بين العلماء، والمثقفين، والأكاديميين، والتربويين، والخطباء… وبين كل فئات المجتمع، وبين عامة الناس، الكل مستهدفٌ بهذا الخطر؛ ولذلك لا بدَّ من الانتباه لدى الجميع، لا بدَّ أن تدرك أنك أياً كنت في أي موقع، بأي صفة، لو كنت تعتبر نفسك إنساناً مثقفاً، أو إنساناً عالماً، أو إنساناً مؤمناً، تقياً، متديناً، أو إنساناً واعياً، أو…إلخ. وبأيِّ صفةٍ أنت في موقع من مواقع المسؤولية، أنت قائد، أنت عسكري، أنت أمني، أنت مسؤول، أنت مشرف، أنت… بأي صفةٍ وفي أي موقعٍ أنت، أنت مستهدف وأنت معرضٌ لهذا الخطر، ومعرضٌ لهذا الشر؛ ولذلك يجب أن نلتفت جميعاً- الكل- إلى هذا الخطر وإلى هذا الشر للحيطة والانتباه،
ثانياً: أتت صيغة الاستعاذة على نحوٍ مميزٍ لا مثيل له في القرآن تجاه الاستعاذة التي تكررت في القرآن الكريم، الاستعاذة من الشيطان أتت في القرآن الكريم: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[المؤمنون: من الآية97]، الاستعاذة بالله من أمور أخرى، {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة: من الآية67]، في دعاء موسى -عليه السلام-، في استغاثة مريم: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}[مريم: من الآية18]، تكررت الاستعاذة في القرآن الكريم، ولكنها أتت هنا على نحوٍ عجيب، تعبِّر عن التجاء كبير إلى الله -سبحانه وتعالى-، من حيث أنه الرب، ومن حيث أنه الملك، ومن حيث أنه الإله، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ}، استعاذة بهذه الصيغة العجيبة التي تدل على أهمية وخطورة هذا الشر إلى نحوٍ كبير، إلى حدٍ رهيب، فنحن نلتجئ إلى الله -سبحانه وتعالى-، ونستجير به، نلتجئ إليه ليدفع عنا هذا الشر، ليدفع عنا هذا الخطر، نلتجئ إليه -جلَّ شأنه- باعتباره الرب، والرب يعني: أنه الخالق الرازق المالك، مجموع هذه الصفات الثلاث، فهو -جلَّ شأنه- الذي يرجى من حيث أنه ربنا المربي لنا، المنعم علينا، المالك لنا، الخالق لنا، هو الذي نرجوه ونلتجئ إليه من هذا الجانب وبهذا الاعتبار ليدفع عنا هذا الشر، وهو من يمتلك القدرة، وهو الرب الخالق المالك الرازق من له القدرة على أن يصرف عنا هذا الشر، وأن يدفع عنا هذا الخطر.
ونحن نلتجئ إليه -سبحانه وتعالى- من حيث أنه الملك {مَلِكِ النَّاسِ}، في الآية المباركة، هو ملك السماوات والأرض، الملك في كل هذا العالم وكل هذا الكون، من له الأمر والنهي والتصرف، وهو المقتدر المدبر لشؤون هذا الخلق، فهو من يملك القدرة على أن يدفع عنا هذا الخطر، وهذا الشر، ونحن نلتجئ إليه من حيث أنه الإله إلهنا، إله الناس -جلَّ شأنه-، {إِلَهِ النَّاسِ}، فهو -جلَّ شأنه- الذي يأله إليه كل مكروب، ويفزع إليه ويلوذ به كل مغموم، وهو -جلَّ شأنه- من يعتبر الالتجاء إليه عبادةً له، وقربةً إليه، ووسيلةً لنيل حمايته، لنيل رحمته، لنيل فضله، لأن يمنَّ علينا ويرحمنا ويدفع عنا هذا الخطر، فهي قربة إلى الله ووسيلة مؤمل منها ويرجى من خلالها رحمة الله -سبحانه وتعالى-، ودفعه عنا لهذا الشر ولهذا الخطر.
فهذه الاستعاذة وهذا الالتجاء الذي ينبغي أن يكون بوعي، وأن يكون من أعماق قلوبنا، من واقع الشعور بالحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى-، الحاجة الكبيرة لدفع هذا الخطر الكبير، وهذا الشر الكبير، هذه مسألة مهمة جداً، وهذا الالتجاء الذي ينبغي أن ينطلق من شعور بالعبودية لله، وشعور بالحاجة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ومن واقع الشعور بهذه العلاقة فيما بيننا وبين الله، هذه العلاقة من حيث أننا عبيده وهو ربنا، ومن حيث أننا في مملكته وهو ملكنا، ومن حيث أننا أيضاً في موقع العبودية له وهو إلهنا، من واقع هذه العلاقة عندما نلتجئ ونحن نحمل هذا الشعور الذي يعي طبيعة هذه العلاقة في كل هذه الجوانب الثلاث: من حيث أنه الرب، أنه الملك، أنه الإله.
ثم أيضاً الالتجاء العملي، مع الالتجاء بالدعاء، الالتجاء بالاستجارة والاستعاذة من أعماق القلب بوعيٍ وشعور بأهمية هذه المسألة، بوعيٍ وشعور بطبيعة هذه العلاقة مع الله -سبحانه وتعالى-، الالتجاء العملي الذي هو الارتباط بمصادر الهداية الإلهية، الارتباط بهدى الله -سبحانه وتعالى-؛ حتى تكون أفكارنا، وحتى تكون نظرتنا إلى الأمور من واقع ما قُدِّم إلينا من هدى الله -سبحانه وتعالى-، بما يساعدنا على سلامة التفكير، وهذه من أهم الأمور التي يحتاج إليها الإنسان؛ لأن سلامة التفكير سيترتب عليها سلامة التأثيرات والدوافع النفسية، ثم سلامة التصرف والفعل، إذا ضمنا سلامة التفكير، وضمنا سلامة ما يدور في أذهاننا، وما نفكِّر به، وكان شيئاً سليماً وصحيحاً وإيجابياً؛ ستكون تفاعلاتنا النفسية الداخلية إيجابية، وما يترتب على ذلك في واقعنا العملي في تصرفاتنا وأعمالنا ومواقفنا… إلى غير ذلك سيكون أيضاً إيجابياً وسليماً وصحيحاً، فهذا يدلُّنا على أهمية أن نعي مفهوم الالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى- بشقيه: بالتضرع من الوجدان، بالخشوع، بالالتجاء، بالدعاء، وأيضاً على المستوى العملي من خلال الارتباط بمصادر الهداية الإلهية، التي نستقي منها هدى الله -سبحانه وتعالى-، ونستفيد منها- كما قلت- سلامة التفكير، هذه مسألة مهمة.
{قُلْ أَعُوذُ}، هذا هو الالتجاء، {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، الالتجاء، هذا الالتجاء الكبير إلى الله -سبحانه وتعالى-، كما تحدثنا على ضوء ما يفيده قوله تعالى: {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ}، الاستعاذة به والاستجارة به {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، الوساوس شرها كبيرٌ على الناس، وضرها كبيرٌ على الناس، الباطل يأتينا عن طريق وساوس، المفاهيم الظلامية تأتينا عن طريق وساوس وموسوسين ، تأتينا أيضاً الأوهام التي تؤثِّر علينا في علاقاتنا عن طريق وساوس، ما يؤثِّر الناس حتى في علاقتهم، ما يزرع الشحناء فيما بينهم، والعداوة فيما بينهم، ما يؤثِّر على الإنسان في كثيرٍ من الأمور، منبع التأثيرات السيئة على الإنسان تكون من الوساوس والموسوسين، هذا المصدر الأساسي لها؛ ولذلك تمثل هذه المسألة خطورة كبيرة على الإنسان، وتكون خطورتها أيضاً فاعلة ومؤثِّرة بشكلٍ مباشر على الإنسان إذا لم يكن متنبهاً، ولا متيقظاً، ولا متذكِّراً، إذا كان غافلاً، إذا كان لا يعير هذه المسألة أي اهتمام، فالخطر يتعاظم ويكبر على الإنسان.
الوساوس تأتي إلى الإنسان بشكل خواطر، وأفكار، وهواجس، وقد تأتي إليك من الجِنَّة كما قال، أو من الناس، سنأتي إلى الحديث بالتفصيل على ضوء قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ}، وعلى ضوء قوله تعالى: {وَالنَّاسِ}، الوساوس تأتي بشكل خواطر، بشكل أفكار، على حسب التعبير المحلي [تطانين]، قد تصل إليك هذه [التطانين] من الجِنَّة أو من الناس، سمعت من شخص كلام، تفاعلت بهذا الكلام، ثم قمت على ضوء ما سمعته منه بالتفكير فيه، وتبدأ الخواطر حول ذلك الكلام التي تدور في نفسك وفي ذهنك، وأنت تفكر فيها، وتتأثر بها، وتتفاعل معها، وعادةً ما تكون الوساوس ملامسةً للدوافع في نفس الإنسان، يعني: تلامس جوانب حسَّاسة في الإنسان، قد تلامس هذه الوساوس فيك جانب الرغبة: جوانب ترغب بها، وقد تلامس هذه الوساوس المخاوف في نفسك، تأتي لتلامس في نفسك جانب المخاوف، فترفع سقف المخاوف، ويكون لذلك تأثيرات عملية، قد تأتي لتلامس في نفسك مشاعر الغضب؛ فتذكي فيك نيران الغضب، وتشعلها، وتؤججها، حتى تدفعك إلى تبني مواقف معينة، أو تصرفات معينة، أو سلوكيات معينة.
الوساوس تشكِّل خطورة كبيرة على الإنسان أنها قد تكون في غلاف معين، هي خفيّة، لا ينظر الإنسان إليها أحياناً، ولا يحتملها أنها فكرةً سلبية، قد يرى فيها فكرةً إيجابية، قد يظن في تلك الخاطرة أنها فهمٌ واستنباطٌ عبقري، وأنه إنسان فهمان استطاع أن ينتبه، وأن يدرك أن الموضوع هو كذا وكذا، وأن ذلك الشخص أراد كذا وكذا، وأن ذلك الموضوع يدل على كذا وكذا… بحسب مجالات الحياة، هي تأتي الوساوس لتدخل إلى كل شؤون حياة الناس، إلى كل مجالات الحياة، فتكون فكرة مزيفة لها قالب إيجابي، لها غطاء محبب إلى الإنسان، ومن ثم يتفاعل معها الإنسان، ويتأثر بها الإنسان، بل قد يفرح بها، البعض قد يفرح ببعض الوساوس، ويظنها استنتاجاً- كما قلنا- عبقرياً وعميقاً، وأنه من شطارته، من ذكائه، من فهمه، انتبه وعرف المقصود؛ وبالتالي يبني على ذلك مواقف، كم يحصل من هذا القبيل في العلاقة فيما بين الناس، يدخل سوء الظن على مستوى الأسرة: ما بين الزوج وزوجته، ما بين الأب وأبنائه، ما بين الأخ وأخيه، على مستوى الأصدقاء، على مستوى الأمة المؤمنة، كم تدخل هذه الوساوس حتى في الموقع القيادي، ما بين القادة، ما بين الذين هم في مواقع المسؤولية، كم تلعب الوساوس فيما بينهم من دورٍ سلبي، وتأثيرٍ سيء على علاقتهم، على تعاونهم، على تفاهمهم، وتترك تأثيرها السيء، وتفعل فعلتها الشنيعة جداً، التي تؤثر عليهم حتى في العمل الصالح، تعيقهم.
كم للوساوس من تأثيرات على الناس في مواقفهم العامة، الكثير من الناس يتأثر بهذه الوساوس فيقتنع بباطل، ويقف موقف باطل، يخذل الحق، تتشوش عنده الفكرة تجاه كثيرٍ من القضايا المهمة؛ فينطلق الانطلاقة الخاطئة، أو يخذل الحق، كم لها من تأثيرات واسعة في شؤون حياة الناس، كم لها من ضحايا، كم أزَّمت من مشاكل، كم حوَّلت الكثير من النزاعات البسيطة على أبسط القضايا فيما بين أبناء المجتمع، تحوِّلها إلى مشكلة كبيرة جداً، مشكلة خلاف: خلاف على قطعة أرض، خلاف على معاملة في بيعٍ وشراء، خلاف على كلام معين: كلمة، زادت كلمة، كم تركت من تأثيرات سلبية سفكت فيها الدماء، قطعت فيها الصِّلات والعلاقات، قطعت فيها الرحامة والقرابات، كم لها من تأثيرات سيئة جداً في واقع الناس، على مستوى المواقف: مواقف الحق ومواقف الباطل، البعض من الناس قد يتجه في موقف الباطل متأثراً بالوساوس، والبعض قد يقعد عن موقف الحق متأثراً بالوساوس.
الوساوس تأتي أحياناً لصد الإنسان عن الحق، عن الحق كموقف، عن الحق كثقافة، عن الحق كفكر، كعقيدة، عن الحق كسلوك، عن الحق كعمل، وأحياناً لصدك ابتداءً من البداية عن ذلك، وأحياناً قد تأتي فيما بعد، قد تسير في طريق الحق، وهذا يحدث للكثير، قد تسير في طريق الحق، ويكون لك رصيدٌ وافرٌ من العمل، وتكون لك المواقف البارزة والمشهورة، وقد لا تكون، تسير بشكل طبيعي، إلى أن مرحلةٍ معينة تواجه مشاكل معينة، قضايا معينة، ظروف معينة، فتأتي الوساوس في تلك الحالة، فتترك تأثيرها السيء على نفسك لدرجة أن تجمِّدك، أن توقفك عن مواصلة المسير، عن مواصلة العمل مهما كانت أهمية هذا العمل، مهما كان عظيماً، ومهما كان قربةً إلى الله -سبحانه وتعالى-، ومهما كان موقعه على مستوى المسؤولية، قد يكون من أهم المسؤوليات التي حمَّلنا الله إياها، والتي تقع على عاتقنا، لا فكاك لنا منها يوم القيامة إلَّا بالقيام بها، فتقعد، وتتخاذل، وتجمد، وتتنصل عن المسؤولية، ثم تغرق في كل تفكيرك، في كل نظرتك، في كل اهتماماتك النفسية، في إطار تلك الوساوس، تتعاظم تلك الوساوس وتكبر، وتبقى في الكثير من الأوقات وفي الكثير من الأحيان، في أوقات فراغك، في جلستك، قبل نومك… في أوقات كثيرة، وأنت تتفاعل مع هذه الوساوس، تعيدها في ذهنك وتتفاعل معها، فإذا بها تكبر وتتوسع، والوساوس من البلاءات القابلة للتوسع والتعاظم، تنمو ويأتي المزيد والمزيد من الأوهام، والمزيد والمزيد من سوء الظن، تسوء نظرتك إلى إخوتك المؤمنين، أو إلى إخوتك في القرابة، أو إلى محيطك الاجتماعي، أو إلى ذلك الطرف الذي وقعت لك معه مشكلة، وحدثت لك معه مشكلة معينة، تكبر المشكلة بأكثر من حجمها أضعافاً وأضعافاً وأضعافاً، يكبر عندك التفاعل، يكبر عندك الموقف، ليكاد البعض أن يغرق في وسوسته، لم يعد له أي اهتمام آخر، ولا أي التفات إلى أمور أخرى، يبدأ يحلل من جديد، يستنتج عن كثيرٍ من المواقف ويعطيها التفسيرات المقلوبة، والتفسيرات الخاطئة، الكثير من الكلمات، الكثير من التصرفات، ثم يدخل في حسابات مغلوطة وخاطئة وهكذا.
والوساوس تفعل فعلتها عندما أحياناً تأتي في ظرف حسَّاس لدى الإنسان، إمَّا وهو في حالة غضب؛ فتذكي نيران الغضب، وتشعلها، وتؤججها، وتكبر المشكلة في نفس الإنسان، إمَّا وهو في حالة خوف؛ وتؤثِّر وترفع عنده مستوى المخاوف، مستوى القلق، مستوى الاضطراب، مستوى التفاعل مع قضيةٍ ما، فيعظم خوفه ذلك، ويزداد قلقه وتوتره وانشداده إلى مستويات كبيرة جداً، قد تلامس الرغبات، قد تأتي الوساوس لتلامس فيك الرغبات، رغبات معينة، شهوات معينة، فتحرك فيك هذه الرغبة، وتثيرها فيك أكثر وأكثر، فتكبر رغبتك، وقد تكون رغبة نحو ما هو معصية، نحو فعلةٍ تمثِّل جريمةً، أو تمثِّل ذنباً، تعظم هذه الرغبة تعظم حتى تنقاد إليها وأنت منجذب بشدة، هكذا تأتي الوساوس من جوانب كثيرة جداً، ولهذا تمثِّل هي التأثير على الإنسان؛ لأنها تدخل من موقع التفكير لتلامس المشاعر والانفعالات الداخلية في الإنسان، لتولد العمل، لتنتج العمل، لتنتج التصرف، ليترتب عليها الموقف، تأتي خطورتها البالغة من هذا الجانب.
قد يكون البعض من الناس في الحالة التي هو في حالة وسوسة، يتصور أنه في حالة تفكير إيجابية، وأنه يستند في ذلك التفكير إلى معطيات معينة، ولكن الأمر مختلفٌ عن ذلك، المسألة وسوسة، الوساوس قد تأتي أيضاً بخيالات وأماني للإنسان، تبلغ به المراتب العليا في الأمور، وتخرج به عن الواقع، وتخرج به عن الأمور الواقعية، وعن الأمور العملية، فيستغرق الكثير من وقته، ولا سيما في بلدنا مع القات، القات مناسب للوساوس، يطنن ويضيع أوقاتاً كثيرة بعيداً عن التفكير السليم، عن التفكير العملي، وقد يكون البعض وهو في موقع مسؤولية يصرف كثيراً من تفكيره وكثيراً من وقته في أشياء خيالية، أشياء غير عملية، غير واقعية، ولربما مع الضغط النفسي ومع الظروف الحياتية والعملية يتحول الإنسان غير واقعي، وهذا أيضاً في غير الجوانب العامة والمسؤوليات العامة، حتى على مستوى الواقع الأسري، على مستوى الواقع الشخصي، على مستوى الهموم المعيشية، يتخيل الإنسان ويدخل في خيالات خارج الواقع، لن تصل به إلى نتيجة عملية، وهي خيالات ليست واقعية، ولكن لها تأثير سلبي على الإنسان، من حيث استغراق الوقت، من حيث الاختلال في طبيعة التفكير، ومن حيث أنك تخسر سلامة التفكير، ومن حيث أيضاً الانشداد إلى الأماني غير الواقعية، على حساب الاهتمامات العملية، وقد تورث الكسل، قد تورث الإنسان الكسل أو الإحباط، لمّا يتعلق بأمور غير واقعية ويصعب تحقيقها في الواقع، هكذا تأتي الوساوس في أشكال كثيرة جداً.
قد تأتي الوساوس أيضاً كصدمة نفسية للإنسان، يعني قد يكون الإنسان مثلاً في تمسكه بالحق وطريق الحق، في استقامته على طاعة الله -سبحانه وتعالى- على نحوٍ جيد، وبتوفيقٍ من الله وبالتجائه إلى الله -سبحانه وتعالى-، فتأتي الوساوس التي تهدف إلى إقلاقه، إلى إحزانه، إلى إتعابه نفسياً، لاحظوا عندما قال الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[المجادلة: من الآية10]، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، قصة نبي الله أيوب الذي شكى في آخر المطاف إلى الله -سبحانه وتعالى- قائلاً: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص: من الآية41]، حالة من هذا القبيل الذي قد تكون عملية استهداف نفسي، استهداف نفسك بالأحزان الشديدة، مثلاً قد يكون لدى الإنسان ابن شهيد، ابنه استشهد، أو هي أمٌ استشهد ابنها، أو أخٌ استشهد أخوه، فقد تأتي إثارة الأشجان والأحزان إلى مستوى غير طبيعي، يخرج عن مستوى الاحتساب، عن مستوى القربة إلى الله -سبحانه وتعالى-، الأمل في فضل الله، عن الحد الطبيعي، فتكون الحالة نفسها إلى المستوى غير الطبيعي الذي يؤثر على الإنسان، يؤثر على نفسه، يؤثر على صحته، يؤثر على تفكيره، يؤثر على عمله، يؤثر على صبره.
قد تكون اهتمامات الإنسان العملية أحياناً، البعض مثلاً اهتمامه بأن يؤدي وضوءه بشكلٍ صحيح، ويؤدي صلاته بشكلٍ تام، أو يعمل عملاً معيناً بشكلٍ صحيح، تأتي الوساوس التي تشوش عليه وتقلقه عن مدى نجاحه في ذلك، فيأتي الشك، ويأتي القلق، ويأتي الاضطراب، لربما أنا ما أتممت هذا العمل بشكلٍ صحيح، لربما عليَّ إعادته من جديد، وهكذا مرةً بعد مرة، فيثير لدى الإنسان الاضطراب في العمل الذي هو عملٌ صالح، والذي هو من أعمال القرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، يحوّل في نهاية المطاف ذلك العمل إلى عمل صعب، وإلى عمل شاق، وإلى عمل مشوب بهذه الحالة من الاضطراب والقلق والتوتر.
قد يستهدف فيك الرجاء، الوساوس قد تستهدف فيك جانب الرجاء، والرجاء هو جانبٌ إيمانيٌ يجب أن يتعادل مع الخوف، علينا أن نخاف الله، وعلينا أن نرجو الله، فتأتي هذه الوساوس إلى البعض، لربما أنا غير مقبول مهما عملت، لربما أنا لا يجديني شيء ولا ينفعني شيء، لربما أنا هالك على كل حال، لربما هذه المحن والمتاعب التي تحدث لي في حياتي مؤشر على أني مسلوب التوفيق، وهكذا حتى يعيش الإنسان في نفسه سوء الظن بالله -سبحانه وتعالى-، ويشعر بالإحباط أمام الأعمال الصالحة، ولا يستشعر حسن الظن بالله -سبحانه وتعالى- الذي يجب أن يتوازن مع الخوف، يجب علينا أن نخاف، وأن نرجو الله -سبحانه وتعالى-.
وهكذا يعتبر مجال الوساوس واسعاً، وتأثيراتها كبيرة، بدءاً من الأفكار والمفاهيم الظلامية في شؤون الدين، في نظرتنا للحياة، تجاه المواقف، فيما يتعلق بالمواقف كم يأتي من تثبيط، وعن طريق الوساوس، وهكذا مجال خطير جداً، وعادةً ما تحمل طابعاً أو قالباً مقبولاً لدى الإنسان، فهي تأتي خفيةً، مغطاةً بقوالب أخرى وأغطية أخرى.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس: الآية4]، (الْخَنَّاسِ)؛ لأنه يأتي متخفياً، قد تأتي لك فكرة بقالب معين، وقد يكون هذا الوسواس كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {مِنَ الْجِنَّةِ}، نقرأ قبلها قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس: الآية5]؛ لأن منطقة التأثير في الإنسان هي هنا في صدره، هذه المنطقة التي هي منطقة التأثير، منطقة الدوافع، منطقة الرغبات، منطقة المخاوف، منطقة الانفعالات، منطقة الغضب، فتأتي عملية الوسوسة لتأثَّر عليها، لتحركك في الواقع العملي في الاتجاه الخاطئ، ولتؤثر عليك في الواقع العملي في الاتجاه الخاطئ، فهي المنطقة التي يؤثر فيها الوسواس، وهي المنطقة التي نحتاج إلى العناية بها من خلال هدى الله -سبحانه وتعالى-، {مِنَ الْجِنَّةِ}، قد يكون الموسوس من الجنة، من شياطين الجن، وطبعاً هو عملهم الرئيسي، العمل الأساسي والرئيسي لشياطين الجن هو الوسوسة، هم لا يملكون التأثير علينا بأي وسيلةٍ أخرى، لا يملكون أن يجبرونا على فعل عملٍ معين، على فعلٍ ما، أو تصرفٍ ما، أو موقفٍ ما، أو أن يمنعونا من عملٍ ما؛ إنما يؤثرون بواسطة الوسوسة، قد تكون مستغرقاً حسب تصورك في التفكير، وأنت على فراشك جالس، أو مضطجع حتى، في أي حالٍ من أحوال الإنسان، في تلك اللحظة التي تعتبر نفسك فيها مستغرقاً في التفكير، وأنت تتفاعل، أنت منشد إلى قضية معينة، أو موضوع معين، أو أنت تعيش ظروفاً معينة، شياطين الجن هم يرصدون الواقع البشري، يعني قد يدرك شيطان الجن، أنك في تلك اللحظة لديك مشكلة معينة، وأنها تمثِّل مدخلاً له ليوسوس لك فيها، أو يراك متجهاً إلى عملٍ معين، عملٍ مهم، يأتي ليحاول أن يصدك عنه، أو أن يشوش عليك أدائك فيه، وهكذا هم يرصدون الواقع البشري، وهم يدركون استغلال الظروف والفرص الحساسة، مثلاً يأتي إليك وأنت في حالة انفعال وغضب وتفكر في تلك الحالة، ويأتي ليوسوس لك، تفهم الأمور بفهمٍ مبالغٍ فيه، أو بفهمٍ مختلف، تندفع إلى مواقف وتصرفات زائدة، باطلة، تشط فيها، تشطط عن الحق.
الجِنَّة هم قد يأتي وأنت لا تشعر به، وحتى قد تكون أنت تظن أنك تفكر وأن كل تلك الهواجس التي تطلع في بالك إنما هي من بنات أفكارك، إنما هي من أفكارك أنت، وتتفاعل مع ذلك، تتفاعل مع ذلك، ومشكلة البعض أيضاً أنهم ينقطعون عن الارتباط بمصادر الهداية، يعني: لا يستمع إلى هدى الله، لا يلتجئ في أي موضوع أو قضية معينة إلى هدى الله، ويجلس يعتمد على التطانين، على هذه الوساوس، يجلس يوسوس، ويظن نفسه أنه يفكر تفكيراً سليماً، والحالة الأكيدة أنه يوسوس وسوسةً سيئة، وليست عملية تفكيرٍ سليم؛ ولأنه يظن نفسه فهمان، شاطر، ذكي، يعتبر أنه لم يعد بحاجة إلى أحد، إنما سيعتمد على تلك الوسوسة التي يظنها تفكيراً سليماً، وهؤلاء يتأثرون سلباً، والبعض قد يكون في موقع مسؤولية، والبعض قد يكون في عمل مهم، ولكن لانقطاعه عن الالتجاء إلى الله، لعدم انتباهه لخطورة الوساوس، لعدم ارتباطه بمصادر الهداية، يتأثر بالوساوس، يبني عليها المواقف الخاطئة، مواقف يتحمل بها الأوزار والذنوب، مسألة خطيرة جداً.
قد يندفع الإنسان إلى معصية من المعاصي كان يظن أنه لوحده، وأنه انطلق بقرار شخصي، صحيح القرار كقرار هو قرارك أنت، لكنك خضعت لتأثيرٍ شيطاني، كان إلى جانبك جنيٌ من شياطين الجن، وقد أوصل إليك ووسوس لك بتلك الهواجس التي حركت فيك الرغبات، أو الانفعالات، أو الغضب… أياً كان ما حركه فيك فانطلقت على أساسه ومتأثراً به.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس: الآية6]، (وَالنَّاسِ) بهذه العبارة العامة والناس، قد يكون هذا واحداً من الناس، يعني: ليست المسألة فئة محصورة معينة، قد يكون هو قرينك، قد يكون هو زميلك، قد يكون هو صاحبك الذي تعتمد عليه، ووسوس لك ولو في قضية معينة، أو حادثة معينة، قد يكون هو تلقى وسوسة ووسوس لك بها، فأتت الوسوسة بشكل غير مباشر، يعني: من خلال الزميل، من خلال القرين، من خلال الصديق الحميم العزيز، الذي تثق به، تتأثر بما يقوله، تتفاعل معه، تقبل منه، وتصلك عبره فتتفاعل.
قد يكون هو شخص إعلامي، اليوم الوسواس الخناس هناك قنوات فضائية، هناك مواقع التواصل الاجتماعي، هناك الذي سيوسوس لك من خلال رسائل الجوال، أو يوسوس لكي أنتِ إذا كانت امرأة عن طريق الجوال.
وساوس تأتي بوسائل وأساليب كثيرة، تحرك الدوافع السلبية في الإنسان: دوافع الشر، دوافع المعصية، دوافع الفساد، دوافع الانحراف، تصد الإنسان عن عمل الحق، عن فعل الخير، عن العمل الصالح، عن العمل المهم، تثبط الإنسان عن مسؤولية من أهم المسؤوليات… إلخ. تؤثر تأثيرها السيء على الإنسان، قد يكون هذا الموسوس بصفة محترمة، بصفة عالم وهو من علماء السوء، ممن يصدك عن سبيل الله، قد يكون خطيباً على منبر المسجد، ولكنه من خطباء الضلال، من خطباء السوء الذي يلبِّس ويضلل ويلبس الحق بالباطل، ويصدك عن طريق الحق، قد يكون بصفة أخرى، قائداً، قد يكون بصفة مسؤول… قد يكون بأي صفة من الصفات، ولذلك أنت تستجير بالله من كل الموسوسين من الناس، أياً كان من كل الناس.
كيف نحرص على أن نفرز ونميز ما بين الوساوس وما بين الأفكار الصحيحة؟ هذه من أهم المسائل، أولاً الله يعلمنا أن نلتجئ إليه هذا الالتجاء الكبير، ثانياً الالتجاء العملي الذي أشرنا إليه وهو الارتباط بمصادر الهداية، إذا عاد الإنسان إلى القرآن الكريم وما يأمر به الله في القرآن الكريم، وما يرشد إليه في القرآن الكريم في كل الأمور، في كل القضايا، وفرض ووطَّن نفسه وفرض عليها أن تقتنع بذلك، أن تقتنع بذلك، وأن تشطب ما عدا ذلك، وألَّا تلتفت إلى ما عدا ذلك، فهذا سيفيد الإنسان، هذا سيمثل الحل المهم للإنسان، قد لا تكون عندك المعرفة الكافية بهدى الله -سبحانه وتعالى-، ممكن أن يهديك الله إلى الهداة من عبادة، فتستفيد منهم، وتستفيد مما يذكرونك به من خلال هدى الله -سبحانه وتعالى-، فيفيدك ذلك.
هذه المسألة تعتبر من أهم المسائل، والتي تشكِّل الغفلة عنها خطراً كبيراً على الإنسان، وهذه السورة هي من أهم السور في القرآن الكريم، وهي نعمة عظيمة أنعم الله بها علينا، وهي ترشدنا، تدلنا على كيف نحتمي من هذا الخطر الكبير الذي له تأثيراته الواسعة والمتنوعة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأنا يجيرنا ويعيذنا من {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس: 4-6]، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛