المشهد اليمني الأول/
إن التطورات الأخيرة في إدلب وتقدم الجيش السوري في هذه المدينة، والتي أدت إلى تحرير نصفها، جديرة بالملاحظة من حيث أنها خطوة كبيرة نحو النصر الكامل على المحتلين، من خلال القضاء على تحركات الإرهابيين.
يُعزى سبب هذه التوترات في المنطقة إلى حد كبير إلى سوء فهم تركيا لاتفاقيات وتفاهمات أستانا وسوتشي. وكان الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” قد هدد في وقت سابق بالقيام بعمل عسكري، إذا لم تنسحب القوات السورية من إدلب بحلول نهاية فبراير(بعد أقل من أسبوع)، لأن وضع إرهابيي “أحرار الشام” و”جبهة النصرة” هش للغاية وآيل للزوال.
هذه الجماعات التي تقودها تركيا جاءت لتغيير المعادلات والإطاحة بالحكومة السورية، ولكن في الوضع الحالي، فإنها تواجه الفشل، وتحاول أنقرة منع ذلك.
وفقًا لبنود الاجتماعات المتعددة في “أستانا”، كان من المفترض أن تتوسط تركيا لدی الجماعات الإرهابية والحكومة السورية، وأن تتفاوض معهم أنه في حال ألقوا أسلحتهم، فسيشملهم العفو العام ولديهم فرصة للمساهمة في المستقبل السياسي للبلاد.
ولکن أنقرة ليس فقط لم تلتزم بهذا الوعد، بل نکثت وعودها أيضاً من خلال التهديدات العسكرية، وعرّضت حياة ملايين المدنيين في المدينة للخطر، الذين يستخدمهم الإرهابيون كدروع بشرية.
هذا في حين أنه عندما كان الجيش السوري مستعداً لدخول إدلب، وتجهيز آلياته العسكرية لإكمال مهمة القضاء علی الإرهابيين، طلب الرئيس التركي بحضور الرئيسين الإيراني والروسي، مهلةً للتفاوض مع هذه الجماعات، وأكد أن الحوار معهم لتسليم أسلحتهم أفضل من مهاجمة المدينة وقتل الناس العاديين وزيادة الدمار.
وبالطبع، بمرور الوقت أصبح من الواضح أن هذه السياسة كانت بمثابة فخ لشراء الوقت، لأن سوريا لا يمكن أن تتسامح مع وجود الإرهابيين في أرضها إلى الأبد، وخرق الاتفاقيات بالطريقة الأردوغانية.
تركيا وبدلاً من الوفاء بالتزاماتها بموجب أستانة، عززت حتى وجودها العسكري في إدلب وريفها، وهو تأكيد واضح على الاحتلال، في حين أن بعض المناطق المحيطة بإدلب حيث يتمركز الجيش التركي هي مناطق استراتيجية، وتطل على محافظات حماة واللاذقية وغرب حلب.
وفي مثل هذه الأجواء، لا يمكن للجيش السوري بطبيعة الحال أن يتسامح مع الإرهابيين وداعميهم. لأنه من واجب القوات المسلحة السورية تحرير المناطق المحتلة في بلدها من أي عدوان. حتى أن تركيا أقامت نقاط مراقبة في إدلب، وتقوم بإنشاء قاعدة عسكرية فيها، مما ينتهك السلامة الإقليمية لسوريا.
من ناحية أخرى، لم يؤد وجود الجيش التركي ودعم الإرهابيين، إلا إلى الاشتباكات وقتل عدد من الجنود الأتراك.
يبدو أن تجاهل أردوغان للاتفاقيات الدولية بشأن احتلال بلد ما والهجوم العسكري والدعائي ضده، وكذلك تهديداته بأنه سيعلن الحرب إذا سقطت قطرة دم واحدة من القوات التركية الموجودة في سوريا، هو بسبب الضوء الأخضر الذي تلقته من الولايات المتحدة.
فمن ناحية، يريد أردوغان شراء طائرات “إف 35” الأمريکية، وراغب في الحصول علی منظومة الدفاع الجوي الروسي “إس 400” من ناحية أخری، وهو يعتقد أنه لهذا السبب يمكن أن يفعل في سوريا أي شيء يقرره.
ومع ذلك، تظهر نتيجة التطورات أن تركيا لن تنجح في هذه اللعبة المزدوجة، حيث أثبتت روسيا أنها لن تتراجع عن دعم سوريا، وهي غير راغبة في إسخاط دمشق على حساب إرضاء أنقرة.
من جهة أخرى، نرى أن أمريكا تواصل دورها التدخلي في سوريا. وتفيد التقارير بأن البنتاغون قد نشر 150 شاحنة أسلحة في محافظة “الحسکة” في شمال شرق سوريا، هذا في حين أن تركيا قد خصصت جزءاً كبيراً من المساعدات التسليحية إلى جبهة النصرة. وبالنظر إلى هذا الأمر، من الواضح أن الغرب يلعب دوره التقليدي في إضعاف روسيا والسعي إلى خلق المواجهة بين أنقرة وموسكو.
يأمل الأمريكيون من خلال تشجيع تركيا علی مواجهة الجيش السوري، في إنجاز سياستهم المعادية لروسيا، لأنهم غاضبون من نجاحات الجيش السوري وتقدمه، تماماً كما انتقدت روسيا عدم امتثال تركيا لاتفاق سوتشي.
التوترات اللفظية بين تركيا وروسيا بشأن تطورات إدلب تزايدت، إلی درجة أن “ديمتري بيسكوف” المتحدث باسم الكرملين أکد أن أنقرة لم تلتزم باتفاق سوتشي بشأن سوريا، وصرح أن الإرهابيين المتمركزين في إدلب استلموا أسلحةً خطيرةً. هذا في حين أننا شهدنا هجمات صهيونية على سوريا خلال الأيام القليلة الماضية أيضاً.
من ناحية أخرى، دعا “ينس ستولتنبرغ” الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) و”جوزيف بوريل” مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، دمشق ودون إدانة دخول الجيش التركي غير القانوني إلى سوريا، أن توقف تقدم جيشها علی أرضها، وإنهاء الهجوم على إدلب فوراً!
في الأيام الأولى للحرب السورية، أيدت الدول الأوروبية جميعها هجوم الإرهابيين البرابرة علی هذا البلد، والآن عندما يرون هزيمتهم النکراء يطالبون رسميًا عدم مواجهة الجيش السوري لهم.
والسؤال المطروح الآن هو، إذا كان إرهابيو سوريا ينفذون عملياتهم في أمريكا وأوروبا ويقومون بالتفجير والعمليات الانتحارية كل يوم في القارة الخضراء، فهل کانوا حينها يطلبون من قواتهم الأمنية عدم مواجهتهم؟!
من خلال هذه الإجراءات غير المنطقية، أصبحت تركيا بالفعل أداةً في أيدي أمريكا وأوروبا، وحوَّلت العصر الذهبي لعلاقاتها مع سوريا والذي کان فرصةً لا مثيل لها لتحسين العلاقات في جميع المجالات، إلی عصر مظلم وتهديد مستمر.
أردوغان، وعلى الرغم من النصائح الأخوية لإيران وروسيا، يتهرب من تعهداته، ويسيء تفسير الاتفاقات لصالحه، غير مدرك أنه سيخسر هذه اللعبة بالتأكيد وبشکل کامل. فمن غير المعقول تماماً أن يطالب البلد الذي هاجمه الإرهابيون واحتلته تركيا والولايات المتحدة، بأن يوقف عملية التطهير.
هذه المطالبة تتعارض مع القوانين الدولية المعيبة وغير المكتملة، ومن مصلحة تركيا الالتزام بالعمليات القانونية والاتفاقيات التي تم التوصل إليها، لأن الحق حليف سوريا سواء من حيث الاقتدار العسكري أم الوجاهة القانونية، ومعارضة هذا الحق المشروع ستقوض موقع تركيا أكثر من أي وقت مضى.