المشهد اليمني الأول/
سيطرت بريطانيا يوم 4 تموز (يوليو) 2019، على ناقلة نفط إيرانية في مياه جبل طارق، قرب اسبانيا، بدعوى خرقها حظرا أوروبيا على تزويد سورية بالبترول.
ويوم 18 من الشهر ذاته أعلنت الولايات المتحدة الأميركية إسقاط طائرة استطلاع إيرانية بدون طيار، وكانت إيران أعلنت قبل نحو شهر اسقاط طائرة شبيهة أميركية، وفي اليوم التالي (19) أعلن تمديد احتجاز الناقلة الإيرانية، مدة شهر، وقامت إيران في ذات اليوم بالسيطرة على سفينة بريطانية، في مياه بحر «عمان»، قرب مضيق هرمز، وتظهر تسجيلات أن جنودا إيرانيين ملثمين قاموا بهذه الخطوة بينما تنطلق صرخة «الله أكبر»، وقدمت إيران تبريرات منها خرق السفينة لبعض قوانين الملاحة بما في ذلك تلويث البحر، فيما تحذر بريطانيا من تبعات الفعل الإيراني.
ترتبط كل هذه التطورات بالتوتر الأميركي الإيراني بشأن الاتفاق النووي الذي تراجعت واشنطن عنه، والذي أبرم العام 2015، للتأكد من عدم قيام طهران بتطوير سلاح نووي، مقابل فكفكة الحصار عليها. هناك ثلاثة معالم وأسئلة أساسية يثيرها هذا التوتر بشأن شكل النظام الدولي الحالي.
الشعبوية: بينما توقف المراقبون أنّ هذا التصعيد الخطير، يأتي مع تصدر بوريس جونسون، استطلاعات الرأي بشأن من يتوقع أن يخلف تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، في قيادة البلاد. وجونسون نسخة انجليزية من ترامب، وهو من قاد حركة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولديه تصريحات معادية للمهاجرين واللاجئين (الأجانب). والمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، علق على الحادث بالمنطق عينه تقريباً، بقوله إن السيطرة الإيرانية على السفينة بقدرات ذاتية تطورت نتيجة قطع الاعتماد على «الأجانب» منذ حرب العراق وإيران في ثمانينيات القرن الفائت. نحن إذن أمام خطاب يجمع «الامبراطورية» العظمى الحالية (الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب)، وبريطانيا بقيادة جونسون، وإيران، يجعل مصطلح «الأجانب» والآخر محور الخطاب الموجه لاستقطاب الشارع والناخبين، بدلا من خطاب المؤسسات الدولية والقانون. وقد انتبهت مجلة فورين أفيرز، الأميركية، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، ونشرت عددا خاصاً، عن صعود الشعبوية (populism) في السياسة الدولية، قبيل فوز ترامب بالرئاسة الأميركية. (نهاية العام 2016).
الحسابات قصيرة المدى: ترتبط بالشعبوية، فكرة الحسابات قصيرة المدى، التي باتت تميز السياسات للدول، بما فيها الكبرى. فبعيدا عن تصاعد الطائفية، والقومية، والعرقية، والأخطار الأمنية بعيدة المدى، ما يهم نظاما كالذي يقوده ترامب وجونسون، هو تحريك الناخبين، أو بيع الأسلحة في الخليج الفارسي بداعي الخطر الإيراني. وطبعا، سياسة إيران أيضاً تتعلق بحسابات قصيرة المدى، خصوصاً من حيث إدارة أزماتها السياسية والاقتصادية. كما أن إرضاء اللوبي الإسرائيلي المهم انتخابيا لترامب يأتي ضمن حساباته، قصيرة المدى، في التعامل مع إيران. والحسابات قصيرة المدى قد يكون لها أيضاً ارتدادات سريعة قصيرة المدى، فمضيق هرمز، حيث التوتر، هو ممر 20 بالمائة من البترول العالمي، وبالتالي رد الفعل السريع للتوتر هناك ارتفاع عالمي لأسعار النفط.
المعلم الثالث للنظام الدولي الحالي، صعود الفواعل ما تحت الدول وامكانيات الحرب اللامتماثلة (asymmetric). فما حدث في حالة السفينة البريطانية، هو تجربة العقيدة الأمنية الإيرانية، التي أشرف على تطويرها، محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني، الذي ترك منصبه في نيسان (إبريل) 2019، بعد خدمة 12 عاماً، كقائد من مهامه تطوير استخدام وسائل تراعي عدم التكافؤ (اللاتماثل) بالقدرات العسكرية الإيرانية مع العالم، فالقوارب الصغيرة التي تتحدى وتناور وقد تصطدم بالأساطيل الأميركية الضخمة جزء من هذه العقيدة، تماماً كما أن اعتماد الأحزاب والجماعات المسلحة في دول مختلفة جزء من هذه العقيدة، وبدخول الولايات المتحدة وبريطانيا في خطوات حجز سفينة هنا، واسقاط طائرة استطلاع هناك، يكون هناك تراجع عن الحذر الاستراتيجي في استخدام القوة العسكرية، وفتح المجال للمواجهات الصغيرة غير التقليدية.
رغم تصريحات أميركية، وبريطانية، وإيرانية، بعدم الرغبة بمواجهة عسكرية مفتوحة وحرب، ورغم أن الجميع قد يتجه للتفاوض الآن، فإن وصفة «الشعبوية، والحسابات قصيرة المدى، والحرب اللامتماثلة»، كلها سياسة حافة هاوية، قد لا يتم السيطرة عليها. خصوصاً وأن العلاقات الدولية عموما تمر في مناطق أخرى بأزمات، مثل الحرب التجارية الأميركية الصينية، والتهميش المتزايد للقانون والمنظمات الدولية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. أحمد جميل عزم