المشهد اليمني الأول/
مَن مِنَّا لا يعرفُ هذا الفارسَ المثقفَ الأَبْيَني الدرجاجي الهوى واليماني الهُوية الذي ملأ صيتُه الدنيا سِجالاً فكرياً تنظيمياً رائعاً منذُ مطلع الستينيات من القرن العشرين حينما كان قائداً فدائياً مقاتلاً في طلائع الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل من قبل الاستعمار البريطاني الغاصب، وتوارى مُكرهاً قُرابةَ 17 عاماً ونيف؛ بسَببِ مباشر من ظلم وجحود رفاقه في تلك الفترة الممتدة من بدء اعتقاله ورفاقه في يونيو 1978م، وحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وبقي في دائرة الظل حتى منتصف التسعينيات حينما تحمل أعباء جمع شتات الحزب الاشتراكي اليمني بعد هروب قياداته للخارج أثناء حرب تثبيت الوحدة اليمنية في صيف 1994م.
اتسم نضالُ الرفيق عُبَاد مُقبِل طيلةَ عمله القيادي البارز في قيادة التنظيم السياسي للجبهة القومية بثبات الموقف الصارم تجاه نشاطه الإداري التنظيمي، وكان يُعرف لدى المقربين في محيطه العملي والعائلي بـ(الساعة التنظيمية) لشدة انضباطه التنظيمي الحديدي الذي اكتسبه وتشربه جرعةً جرعة من عمله الحزبي السري إبان الكفاح المسلح ضد الوجود الأجنبي في جنوب الوطن، وكان شديد الملاحظة والدقة في عرض القضايا الحزبية الإدارية التنظيمية؛ كَـونه رئيسَ السكرتارية العامة بالمكتب السياسي للتنظيم السياسي للجبهة القومية القائد والموجِّه لجميع أجهزة الدولة التنفيذية والإدارية والجماهيرية في جنوب اليمن آنذاك.
كان عضواً نشطاً ديناميكياً في القيادة السياسية وكان يكتب تقريباً مقالاً أُسبوعياً مطولاً في إحدى الصحف المحلية آنذاك، إما في صحيفة الثوري الأسبوعية وهي لسان حال اللجنة المركزية لتنظيم الجبهة القومية أَو في صحيفة 14 أكتوبر اليومية الحكومية. وفي مقالته الأسبوعية تلك يحدّد بوصلة الاتجاه العام للمسار التنظيمي والثقافي والفكري للتنظيم، ليقرأها مُعظَمُ أعضاء التنظيم في المؤسّسات المدنية والعسكرية والمنتشرين في ربوع اليمن الجنوبي وفي الخارج عبر السفارات والبعثات الدبلوماسية. وقد يستغربُ هذا الطرحَ العديدُ مِمَّن يقرأون هذه الكلمات عن الرفيق عُبَاد (مُقبل) وعن الحالة العامة في ذلك الزمان تنظيماً وحركةً وتطوراً، وهنا أود أن أذكر هؤلاء القراء المستغربين هكذا تناول فحسب، بأن التنظيم السياسي وقتذاك تنظيم شمولي توتاليتاري حديدي يعتمد على المبادئ الحزبية الصارمة وهي (المركزية الديمقراطية، القيادة الجماعية والنقد الذاتي) وهو مبدأ حزبي سارت عليه الأحزاب اليسارية الشمولية في العالم لعقود من الزمان في العهد الستاليني البريجنيفي التوتاليتاري المُنضبط.
على أن هذه تجربة تحتاج إلى مختصين أكفاء لتقييمها في زمانها ومكانها وظروف معطياتها التأريخية، وليس المجال هنا لتناول تفصيلاتها أَو حتى نقدها من باب التقويم. لكن ما جرى من تجربة خاصة حدثت في جنوب الوطن إنما هي حاضرة في ذاكرتنا وتقودنا في تناول ما يعرض من وقائعها وشخوصها على هذا النحو.
شخصية القائد المناضل عُبَاد مُقبل، وهي القادمة من تضاريس مرحلة الكفاح المسلح والمتخرجة من مدارس تجربة اليسار الحزبي العربي وحركة القوميين العرب التي عاشت بعض آلام الضمير الجمعي للأمة العربية جراء أحداث وفصول النكبة والنكسة لفلسطين السليبة، وتجربة المعاناة الخاصة للفلاحين الأقنان في أرض دلتا محافظة أبين الزراعية، والأهم من كُــلّ ذلك وقوعُ اليمن بشطرَيه ضمن قواعد لُعبة الأمم التي دفع اليمانيون فيها ثمناً باهضاً من خلال لعبة الحرب الباردة التي كانت تدور رحاها بين الشرق والغرب، ونحن في اليمن كنّا ضحاياها من خلال تماسِّ القوى المتصارعة عالمياً (القوى الاشتراكية من الشرق والرأسمالية من الغرب)، تأثرت بكل تلك المنابع من التجربة إلى الفكر على نحو صنع منه إنْسَاناً مميزاً في الفكر والثقافة والجدل والحوار.
ولهذا حُسِب فكرياً ووطنياً وحزبياً على رفيق دربه الطويل الرئيس الأسبق سالم رُبَيِّع علي (سالمين)، وهو الآخر ظلمه رفاقُه وأصدقاؤه في قيادة التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية وتمت تصفيته جسدياً بتأريخ 26 يونيو 1978م، (في منتجع المعاشيق) تحت شعار بدائي متخلف هو (قبل ما يتعشى بِنَا سالمين علينا أن نتغدى به). تصوروا معي كيف كانت ثقافةُ البعض من الرفاق الذين كانوا يرددون ليلَ نهارَ مفردات براقة عن الحداثة والثقافة والوعي وغيرها من المفردات عبر وسائل إعلامهم الثوري، إنما كان يلوكها بعض أولئك (الرفاق) بسذاجة وسطحية في نهاية الستينات ومطلع السبعينات من القرن العشرين! ومع انطواء صفحة سالمين رحمة الله عليه ورفاقه (جاعم صالح وعلي سالم لعور وامزربة)، تم الزجُّ بالرفيق عُبَاد مقبل (وعدد من رفاقه أبرزهم عبدالله صالح البار، حسن أحمد باعوم) في غياهب سجون مربط الرهيبة في ضاحية التواهي بعدن، وبقي هناك إلى أن تم الإفراج عنه من قبَل الرئيس/ علي ناصر محمد رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً في مطلع الثمانينيات، وعند حدوث كارثة 13 يناير 1986م، غادر المناضل عُبَاد مُقبل مع الآلاف من المواطنين مدينة عدن إلى العاصمة صنعاء عبر مدينة البيضاء واستقر به المقام هنا في صنعاء.
مع الانتهاء من ذيول أحداث فتنة يوليو 1994م، وهروب الرفاق في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني إلى خارج اليمن، جاء الدور التأريخي للمناضل الكبير علي صالح عُبَاد مُقبل كمُنقذ، إذ جمع المندوبين الحزبيين إلى المؤتمر الاستثنائي المنعقد في العاصمة صنعاء، وتم انتخابُ الرفيق مُقبل أميناً عاماً للحزب الاشتراكي اليمني.
محطاتٌ استثنائية ومحورية في سيرة حياة الرفيق مُقبل:
أولاً: اتسمت مواقفُه التنظيمية بثبات ملحوظ؛ كَـونه ينتمي لجيل الروّاد من الحركة المؤسّسة لحركة القوميين العرب في الشطر الجنوبي من اليمن -عدن، وتصلب موقفه السياسي والفكري إبان العمل السري في أثناء الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني.
ثانياً: يُحكى عنه أن موقفه كان متحفظاً من تمثيلية الانتفاضات الفلاحية وحركة التأميمات العشوائية للممتلكات الخاصة التي حدثت في مطلع السبعينيات، ولولا قربه اللصيق من شخصية (سالمين) الراديكالية، لكان تم استبعاده من العمل ككل.
ثالثاً: كان إنْسَاناً حالماً ومثالياً، يعيش ساعاتٍ طويلةً في التأمل والتفكر إلى حَـدِّ الانعزال، وقد اختار أن يعيشَ في قريته النائية لفترة لا بأس بها من الزمن بعد أن ترك قيادة العمل الحزبي في العاصمة صنعاء، وله اجتهادات فكرية جريئة في تحليل التجربة السياسية الوطنية، وَكثيراً ما كان يدوِّنُ تلك الأفكار، ربما يجدها المهتمون ومؤسّسات الدولة بعد انتهاء زمن العدوان السعودي الإماراتي على اليمن، كي تكونَ مادةً نظرية حوارية لأهل الاختصاص في الشأن السياسي والتأريخي والأكاديمي على مستوى اليمن.
رابعاً: مع بدء انطلاقة عدوان (عاصفة الحزم السعودي الإماراتي) على اليمن، ومع بدء الهروب الجماعي وتهافت (الرفاق) إلى الرياض عاصمة دولة العدوان الرئيسة، وهروب شخصيات وقيادات أخرى كبيرة من الإخوان المسلمين، الناصريين، الاشتراكيين، وبقايا (مؤتمريين)، قرّر الرفيق المناضل علي صالح عُبَاد (مُقبل) البقاء في صنعاء بين أهله ومواطنيه، برغم كبر سنه وإصابته بالعديد من الأمراض التي تشفع له في المغادرة إلى أية عاصمة بالعالم ليتلقى العلاج. لكنه فضل البقاء هنا ليقابل ربه حراً مجاهداً مناضلاً شريفاً كغيره من العديد من المناضلين الذين لم تُسِل لعابهم مغريات الذهاب إلى عواصم المال المدنّس الرخيص الذي حول العديد منهم إلى متسولين لحفنة من المال، مِمَّن تشدقوا طويلاً بقيم الوطنية المنافقة، وفي لحظة الحقيقة سقطوا سقوطا مُذِلاً تحت أقدام سادتهم الجدد من السعوديين والإماراتيين. ولعمري فإن خاتمة أعمارهم ونضالهم كانت ساقطة مدوية ومأساوية بكل المعايير الوطنية والإنْسَانية والأخلاقية.
الخلاصة: ما أشبه الليلة بالبارحة، وكأننا نعود بذاكرة اليمن السعيد إلى ما يزيد عن نصف قرن من الزمان حينما كان يقود ثوار ومناضلو ثورة 26 سبتمبر 1962م الدولة الجمهورية في الشطر الشمالي من الوطن، وفي الشطر الجنوبي من الوطن كان المستعمر البريطاني لا يزال مُهيمناً على مفاصل الدولة في عدن والمحميات الشرقية والغربية، حيث يتم كشكل ديكوري حكم السلطنات والإمارات من قبل عصابة عميلة ومأجورة تابعة للمستعمر بمسمى اتّحاد الجنوب العربي والمجلس التشريعي تحت حماية بريطانيا.
اليوم نرى ذات المشهد والصورة تتكرر، إذ أن جُلَّ مناطق الشطر الشمالي من اليمن هي مناطق حُرة أبية، لم يطأها المحتل السعودي الإماراتي، ولم يدنس أرضها الطاهرة، وتُحْكَم من قِبل المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني تحت قيادة قائد الثورة والمقاومة للعدوان، وهو الحبيب عبدالملك بن بدر الدين الحوثي متعه الله بالصحة والقوة وطول العمر.
بينما نشاهد اليوم المناطق الجنوبية والشرقية وأجزاء من محافظات تعز والحديدة ومأرب والجوف ترزح تحت الاحتلال السعودي الإماراتي، وتحكمها عصابات عميلة مأجورة تابعة للمحتلين الأَعْرَاب، يسمُّون أنفسهم زوراً وبهتاناً بـ(حكومة شرعية وأعضاء برلمان وقادة)، وهم في نظر شعبنا اليمني العظيم عبارة عن أدوات رخيصة تم شراؤها من قبل المستعمر الأعْرَابي الجديد، ليس إلا.
تغمَّد الله برحمته ورضوانه المناضل الكبير الأُستاذ علي صالح عُبَاد (مُقبل) الذي ظل حتى وفاته على عهد وطنه به حراً يمانياً أصيلا. والأحرار اليمانيون يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن عمر احتلال الأَعْرَاب من دول مجلس التعاون الخليجي لأجزاء غالية من تراب اليمن، هو مجرد لحظة عابرة قصيرة في الزمن اليماني المنتصر دوماً وحتماً على أعدائه، طال الزمن أم قصر، واللهُ أعلم منّا جميعاً.
وفوق كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
*أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور – رئيس مجلس الوزراء