المشهد اليمني الأول/
لقد انتهت العلاقة بين الطرفين بالطريقة المعروفة ومعها تثبيت زعامة “أنصار الله” في صنعاء بوصفهم الطرف الذي لا يُهزَم سواء في الصراع على السلطة في العاصمة أو على جبهات القتال، ولا يُبنى سلام في اليمن من دونه.
سواء التأمت المُحادثات أم فشلت في جنيف، فإنها تشكّل تقدّماً لا يُستهانُ به بالنسبة لأنصار الله، الذين صاروا طرفاً حاسِماً في المُعادلة اليمنية، من دون شريكٍ داخلّي ضاغِط، يدافعون للمرة الأولى عن مصالحهم التي أمست مُتماهية مع مصلحة البلاد. ومن المُنتظَر أن تؤدّي مشاركتهم في الحوار عاجلاً أم آجلاً إلى التسليم بوجودهم على رأس السلطة في العاصمة اليمنية وعددٍ من محافظات البلاد الأساسية.
ولن يُغيّر الحديث عن مرجعيات الحوار السابقة، كالمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، شيئاً يُذكَر على طاولة المفاوضات، إذ لن يتمكّن أحدٌ من إكراه الحوثيين على التخلّي عن نتائج صمودهم خلال الحرب الدولية التي شُنَّت على بلادهم، بما في ذلك حديث الرئيس اليمني الأخير عن الأقاليم الستة التي لم يتمكّن في فرضها بالحرب حتى يقبل بها طوعاً على طاولة المفاوضات.
في جنيف أو في غيرها سيجلس الحوثيون حول طاولة المفاوضات بوصفهم طرفاً أساسياً في المعادلة اليمنية، لا يُصنَعُ سلامٌ من دونه، ما دام لم يُهزَم في الحرب، ومادامت هزيمته مُستبعدَة في ظلّ موازين القوى وظروف الحرب المعروفة.
كان على “أنصار الله” أن يقطعوا مسافة طويلة ومُعقَّدة للوصول إلى هذا الموقع الحاسِم في مصير بلادهم، انطلاقاً من “مرّان” في أقصى شمال اليمن، إلى سواحل اليمن الجنوبية على مقربةٍ من باب المندب.
لقد خاضوا حروباً وجوديّة بعد توقيع اتفاقية الحدود مع المملكة العربية السعودية عام 2000 وخروجهم من المُعادلة الداخلية في بلادهم إلى طريقٍ مسدود. زادتهم الحروب الـ6 التي شنّها الجيش اليمني عليهم بالاتفاق مع الجيش السعودي وبمشاركته المباشرة عام 2009، زادتهم قوّة وبأساً، وحالت دون طيّ صفحتهم فأصبحوا رقماً صعباً في الخريطة السياسية اليمنية، لكنهم ظلّوا بعيدين عن مراكز القرار حتى اندلاع ما سُمّي بـ”الربيع العربي” الذي أطاح سلطة عدوِّهم الأول الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأتاح لهم الانخراط في العملية السياسية، ليصبحوا طرفاً يمتلك حق الاعتراض على التسويات التي كانت قَيْد التفاوض لرسم صيغة المرحلة الانتقالية.
في التفاوض أظهروا خبرة سياسية وحُسن دِراية مُثيرة للإعجاب، فقد تحالفوا مع الحراك الجنوبي الذي تطالب معظم مكوّناته بالعودة إلى ما قبل الوحدة الاندماجية، ومدّوا أيديهم إلى كل المُتضرّرين من حُكم الرئيس الراحل ولم ينخرطوا في لعبة “الإخوان المسلمين” الذين كانوا يطمحون لخلافة صالح والانفراد بالحُكم، مُعتمدين على قوّتهم في الجيش عبر الجنرال علي محسن وعلى تحالفهم مع قبائل حاشد بزعامة آل الأحمر، وبخاصة الشيخ حميد الأحمر رجل الأعمال المعروف وعلى الدول الغربية التي دعمت “الربيع العربي” وأقرّتْ بأن يخلفَ الإخوان الأنظمة العربية المُستهدَفة.
إن الصراع على السلطة بين “التجمّع اليمني للإصلاح” و”المؤتمر الشعبي العام” ابتداء من العام 2011، سُرعان ما تحوَّل إلى حربِ إلغاء، بعد محاولة اغتيال علي عبد الله صالح في مسجد “دار الرئاسة”. فقد بادر صالح بعد محاولة اغتياله إلى تسليم السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي ومن ثم إلى انتقال استراتيجي هادىء، من شريكٍ في حكومته، إلى خصمٍ عنيدٍ لهذه السلطة ولـ”الإخوان” وبدأ يتقارب مع “أنصار الله” لخوض معركةٍ مشتركةٍ كل من موقعه ضد حكومة الأقاليم الستة.
كان تشتّت خصومهم فرصة لا تعوَّض بالنسبة لـ”أنصار الله” الذين نظّموا حملة مطلبية ضدّ حكومة هادي بمشاركة المؤتمر الشعبي العام سنة 2014 وأخذوا يتقدّمون عسكرياً من أقصى الشمال إلى مشارف العاصمة، وقد تُوِّجتْ هذه الحملة بحصولهم على “اتفاق السِلم والشراكة” الذي منحهم حق المشاركة في الدولة بمفعولٍ رجعي.
لم يعترض علي عبدالله صالح الهجوم الكاسِح الذي شنَّه الحوثيون من أقصى الشمال إلى سواحل البحر الأحمر. ولماذا يفعل طالما أن “أنصار الله” هزموا خصمه المنشقّ علي محسن الأحمر، واقتلعوا قاعدته العسكرية العملاقة من صنعاء. ولماذا يفعل طالما أن المملكة العربية السعودية توفِّر الدعم للقوى التي انتفضت ضدّه وحاولت اغتياله، ولماذا يفعل ما دام الحل السياسي الذي اقترحته السعودية لليمن بمباركة دولية، يعزل زيود البلاد ويحصرهم في حيِّز جغرافي غير قابل للحياة، ويرسي أُسُساً لممارسة السلطة بطريقةٍ طائفيةٍ وفئويةٍ أشبه بتلك التي وضعها برايمر في دستور العراق.
ثمة من يعتقد أن صالح لعب دوراً أساسياً في تمكين “أنصار الله” من السيطرة على صنعاء، وأنه كان قادراً على منعه أو على الأقل اعتراضه بما يمتلكه من نفوذٍ في الجيش والقبائل والشارع، هذا الافتراض ما كان ثابتاً كما ظهر من بعد ، بَيْدَ أن حسابات صالح كانت مُتناسبة مع تقدّم “الأنصار” من أقصى الشمال إلى العاصمة. فهو يُراهن على هزيمة “التجمّع اليمني للإصلاح” والتموضع في خانةِ الدولةِ اليمنية العميقة، التي تولاّها المؤتمر الشعبي العام خلال أكثر من ثلاثة عقود حتى صارت دولته. هذا التموضع كان مُفيداً في إعادة خلط الأوراق في اللعبة السياسية اليمنية وبالتالي إعداد صيغة أخرى للحُكم بدلاً من صيغة الأقاليم الستة. والرهان على حاجة المجتمع الدولي لتيار يحكم اليمن من الوسط بين الإخوان والأنصار..
ستُغيِّر الحرب التي شنّتها المملكة العربية السعودية على اليمن مُعطيات الأزمة وستُتيح لأنصار الله تصدّر القتال دفاعاً عن اليمن والإمساك بمفاصل الدولة التي بناها الرئيس الراحل، ومن ثم حرمان حزبه من تمويل الولاءات التي كانت تمر عبر الدولة وتهميشه في الشارع وفي الأوساط القبلية ، وأخيراً اعتماده شريكاً ضعيفاً في حكومة لا حول له فيها ولا قوّة، تماماً كان يفعل هو نفسه مع الأطراف الذين يُشركهم في حُكمه بعد تهميشهم.
لقد انتهت العلاقة بين الطرفين بالطريقة المعروفة ومعها تثبيت زعامة “أنصار الله” في صنعاء بوصفهم الطرف الذي لا يُهزَم سواء في الصراع على السلطة في العاصمة أو على جبهات القتال، ولا يُبنى سلام في اليمن من دونه.
تختلف مُحادثات جنيف أو أية مُحادثات مقبلة عن مفاوضات الكويت باختلاف ظروف التفاوض الناجمة عن الحرب، وبكونها خالية من قوّة مستقلّة لـ”المؤتمر الشعبي العام” الذي استتبعه هادي من جهة و”أنصار الله” من جهةٍ أخرى، وبالتالي ماعاد بوسع القوى الخارجية الرهان عليه بوصفه القوّة الثالثة، وهذا يعني أن على التحالف السعودي وعلى القوى الدولية التي تدعمه، أن تعترف بهذا الواقع على الأرض وأن تختار بين مواصلة حرب استنزاف تؤدِّي إلى كوارث إنسانية ما عاد بوسع المؤسّسات الغربية السكوت عنها، أو البحث عن حلٍ سياسي مُفيد للحوثيين ولجيرانهم. أما الحديث عن كَسْبِ الوقت عبر المفاوضات والأصرار على شروط ما قبل الحرب فلا قيمة له طالما أن الوقت لا يلعب أبداً لصالح التحالف السعودي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيصل جلول
باحث لبناني مقيم في فرنسا