المشهد اليمني الأول/

 

عملت أنظمة الطغيان والعمالة والمنتفعون منها – من خلال القنوات والمنابر والمؤسسات الإعلامية والثقافية والدينية – على تفخيخ وعيِ اليمنيين بأفكارٍ عصبوية، وعنصرية، ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، لتعمل على كسر روحية الأمة الواحدة، سعيا منها إلى الاستحواذ على القرار السياسي في نخبها الفاسدة والجاهلة والمتعصبة.

 

ومن تلك الأفكار التي أشاعتها أن المواطن الجبلي (الذي يسكن الجبال) هو الرجل الأقوى مراسا، والأكثر تحمُّلا للشدائد، وشجاعة في المواقف، على خلاف المواطن التهامي الذي يتّصف بالدَّعة والميل إلى المسالمة حتى في حالات استهدافه في دينه، وعِرضه، ووطنه، وكرامته، وعزته، وهو أمر لا يستند إلى دليل، ولا برهان، بل التاريخ شاهد على خلافه تماما.

 

والصحيحُ قطعا هو أن كلَّ حرٍّ كريمٍ فإنه سيكونُ أكثرَ شراسة وحِدَّةً ونزالا في الذود عن أبياته وحِماه أكثرَ من أيِّ مكان آخر؛ ولهذا حَمِدت العربُ دائما “حاميَ الحمى”، و “مانعَ الذمار”، ثم هناك ظروف أخرى تساعد هذا أو ذاك، فالجبلي قد تساعده تلك الجبال المنتصبة بصلابة في وجه العدو، والتي توفر الغطاء الطبيعي لصاحبها، وقد توقع الغريب عليها في مكامن موتها الزؤام؛ وإلى الجغرافيا أعاد صاحب كتاب (انتقام الجغرافيا) جميعَ أسباب وعوامل الأحداث التاريخية والحضارية.

 

وربما شكل الساحل والمناطق الصحراوية مثلا مناطق رخوة أمام الغزاة، بحكم طبوغرافيتها العسكرية إذ قد تساعد صاحب الإمكانات التسليحية والعسكرية المتطورة أكثر من سواه، لكن هذا لا يعني أن أهلها بالضرورة كانوا كذلك، فهذه تهامة وساحلها الغربي شكّلت في أوقاتٍ كثيرة القذى المؤلم في أعين الغزاة في مراحل مختلفة من التاريخ.

 

في هذه السلسلة من المقالات نستعرض شيئا من مقاومة أحرار تهامة في التاريخ الحديث، للغزاة والأجانب، العثمانيين والبريطانيين، والتنكيل بهم، وتحويل منطقة تهامة إلى جحيم لا يطاق، ومستنقعٍ كبيرٍ يحوم الموت على دوائره، صباحا ومساء، وليلا ونهارا؛ هذا الأمر مع مقاومة اليمنيين قاطبة هو الذي جعل الغزاة يقرّرون الرحيل عن هذه المنطقة وإلى غير رجعة.

 

لقد أسهب أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الحديدة، الدكتور عبدالودود مقشر في كتابه (حركات المقاومة والمعارضة في تهامة 1918- 1962م) عن دور أبناء تهامة آنذاك، ومعظم ما أذكره هنا فهو نقلٌ عنه.

أبرز قبائل تهامة الأبية

في الشهر الماضي في زيارة لتهامة حطت رحالنا في أوساطِ فتيةٍ من الزرانيق، كانوا يخضعون لدورة تدريبية عسكرية قتالية، في صفوف الجيش واللجان الشعبية، وكانت الشدة والقوة من أبرز ملامحهم، وتبادلت مع بعضهم أطراف الحديث عن التاريخ، وكيف وقف بعضهم بشجاعة أمام سيف الإسلام أحمد، الذي افتخر الشجعان أنهم واجهوه وقاتلوه، وقد وصفه نزيه مؤيد العظم، بأنه آخر الفرسان العرب، في كتابه رحلة في بلاد السعيدة.

 

قلت لهم: يا هؤلاء، لقد قتِل كثيرٌ من رجالِ اليمن وفرسانِها هنا، في تلك الحرب، وهناك وقعات لا يزال يذكرها أجدادنا وأجدادكم، وتلك كانت شجاعتكم حتى في الحروب المؤسفة، والتي لا نحبّذ الوقوع في مثلها، فكيف بكم حين تكون تلك الشجاعة وتلك الحرب في مواجهة عدوٍّ حقير، كما هو شأن العدو السعودي الأمريكي الذي يمثل مخالب وأظفار اليهود والنصارى المعتدين في بلدنا الحبيب؟! واتفقنا أن هذه الملحمة اليمانية ضد هؤلاء المعتدين هي أقدس معارك اليمنيين الأحرار في تاريخنا المعاصر.

 

جدير بالذكر أن النسيج القبلي في تهامة في صدر الإسلام شُكِّل من قبيلة عك والأشاعرة، وبني الحكم بن سعد العشيرة من مذحِج، أما في التاريخ الحديث، فقد كانت أبرز قبائل تهامة اليمن من الشمال إلى الجنوب، هي بنو مروان، وعبس، وأسلم، والواعظات، وبنو قيس، وبنو محمد، والزعلية، والمنار، وبني صليل، والجرابحة، والحشابرة، والقُحرَى، والعبسي، وزرانيق الشام، وزرانيق اليمن، كما توضِّحه الخريطة المرفقة.

 

ويمكن القول بأن كل هذه القبائل الأبية كان لها دورٌ مشهود، وحضورٌ محشود في مواجهة الغزاة والمحتلين في التاريخ الحديث.

القوى الاستعمارية والبحر الأحمر وتهامة

إذا كنا بحاجة إلى الوقوف مليا عند اليمني الحر من أبناء تهامة للتعرُّف عليه بشكل أعمق من خلال أدواره البطولية، ونضالاته التحررية، وحضوره التاريخي المشرِّف، فإن الغازي الأجنبي هو ذاك الذي لم يتغيّر أبدا، هو ذاك الذي يعرِّف بنفسه في كل مرحلة من مراحل التاريخ، في شكلِ أطماعٍ عنيفةٍ في الجزر اليمنية، والبحر الأحمر، والساحل الغربي والجنوبي، بشكلٍ وقحٍ وسافِر، كما هو حالُ هذا الغزوِ الأمريكي الإماراتي السعودي.

 

لقد تعرَّض البحرُ الأحمر وجزُرُه وسواحلُه الغربية والشرقية لموجاتِ غزوٍ استعمارية من قبل الرومان في فترة ما قبل الإسلام، ثم لموجاتِ الغزو الصليبي في العصور الوسطى، وفي القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) قدم البرتغال إليه، ففتحوا شهيةَ القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، حيث قفت آثارَهم، وسلكت سبيلهم، وهم الهولنديون، والبريطانيون، والفرنسيون، والإيطاليون، والألمان.

 

بشكلٍ مستمر ودائم .. قذفت الأطماعُ بموجات القوى الاستعمارية الأوروبية إلى هذه المنطقة من العالم، فاشتعل الصراع بين البرتغاليين والمماليك أولا، ثم بين البرتغاليين والعثمانيين ثانيا، وكان هؤلاء الأخيرون قد اعتبروا الجزيرة العربية ومنطقة حوض البحر الأحمر منطقة نفوذٍ حصرية؛ باعتبارهم (دولة الإسلام)، و (حماة الحرمين الشريفين)، وإذا كانوا قد نجحوا في ذلك في القرن الـ(17م)، فإنهم في بعض فترات ومراحل القرن الـ(18م) كانت سيطرتهم سيطرة اسمية، لا تمس مصالح القوى الاستعمارية الأخرى بأيّ أذى، حتى إذا جاء القرن الـ(19م) كانت القوى الاستعمارية الأوربية قد أبعدت العثمانيين – الذي أطلقوا عليهم وصف (الرجل المريض) – من معادلة التنافس، وحين ذاك أثير بينهم نقعُ تنافسٍ محمومٍ في هذا البحر وجزره وسواحله.

 

يعلّق شيخُنا الدكتور سيد مصطفى سالم في كتابه (البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية) [ص36- 37] على الشعارات التي قدِم بها البرتغاليون، وكيف جسَّدَتْها في شكل أساليب عنيفة، بقوله: “رفع البرتغاليون في البداية شعارات دينية يباركها (البابا)، وهي محاربة المسلمين ونشر الكاثوليكية، لكن وجدنا أن كلا من البرتغال والأسبان في العالم الجديد – يأتون بأقسى أنواع التعذيب والقتل والحرق لتحقيق أغراضِهم المادية”.

 

أما العبارة الأكثر سبراً لحركات الاستعمار، والغزو، والتي نراها اليوم ماثلة ومتجسِّدة في هذا الغزو والاحتلال والعدوان القائم على بلدنا، فهي ما قاله شيخنا الدكتور سالم بعد تلك الفقرة مباشرة، حيث قال: “ويبدو أن الشعارات تغطِّي في الغالب الماديات، وأن نشر العقائد يمهِّد دائما للسياسة والحرب، وقد اتَّبعت القوى الأوروبية الأخرى نفسَ الأسلوب، فبثوا المبشِّرين – الكاثوليك أو البروتستنت – إلى حيث وصلت أيديهم للتغطية ولتمهيد الأرض، كما رفعوا شعاراتٍ برّاقة طوال خطواتهم من أجل السيطرة والاستيلاء، ثم الاستعمار، مثل القضاء على الاضطرابات، ورسالة الرجل الأبيض، ومحاربة تجارة الرقيق، ورعاية حقوق الإنسان، وكانت جميعها غيرَ قابلة للتنفيذ على أيديهم في أرض الواقع”.

 

احتل العثمانيون اليمن عام 944ه‍ / 1538م، ثم غادروه عام 1044ه‍/1635م، بفعل الثورة اليمنية بقيادة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد وابنه المؤيد بالله محمد بن القاسم، ثم عادوا لاحتلاله مرة أخرى، حيث نزلت أولُ حملة بحرية عثمانية على الحديدة عام 1849م، غير أنهم لم يصلوا صنعاء إلا في عام 1872م، ثم بعد ثوراتٍ عنيفة طُرِدوا من اليمن عام 1918م عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.

 

وكما سبق فلم تكن القوى الأوروبية بعيدة عن هذا الجو الاستعماري المحموم، فعلى سبيل المثال، كانت بريطانيا قد فكَّرت في احتلال جزيرة كمران منذ عام 1801هـ، وعلى الرغم من احتلالها (عدن) عام 1839م، ولكنها لم تنفّذ أمنيتها في احتلال جزُر اليمن في البحر الأحمر، إلا في عام 1915م أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم احتلت مدينة الحديدة في عام 1918م، وغادرتها في عام 1921م، بعد أن ضمنت مصالحها، على يد رجلها في الساحل الغربي، وهو الشريف محمد بن علي الإدريسي.

وللموضوع بقية في الحلقات القادمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. حمود عبدالله الأهنومي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا