المشهد اليمني الأول/
تعليق الناطق العسكري لـ«التحالف» على المجزرة الأليمة التي راح ضحيتها العشرات من المدنيين في صعدة – جُلهم من الأطفال – جرّاء غارة جوية سعودية قبل أيام، والذي أوضحَ فيه أنَّ سبب الغارة أتى رداً على استهداف منطقة جيزان بصواريخ بالستية، يشير إلى أن الحرب التي تخوضها المملكة في اليمن، بعد ثلاث سنوات من عُمرها، أصبحت بالنسبة للمملكة العربية السعودية أمنية عسكرية بدرجة أساسية – بل صارت مؤخراً الحسابات السعودية برمتها في اليمن، أمنية عسكرية بامتياز – على أهمية الحسابات الاقتصادية والاستحواذ على الجغرافيا اليمنية طبعاً -، وبالذات عند حدها الجنوبي، بسبب الهجمات التي تُشنُ عليها من اليمن بشكل يومي،
ولم تعد هذه الحرب في جزء كبير من حساباتها حرباً سياسية لاستعادة «الشرعية» اليمنية إلى صنعاء، كما قال سفير المملكة عند انطلاقة هذه الحرب من واشنطن، عادل الجبير، حينها، أو حتى حرباً لقطع يد إيران في اليمن، كما درَجَ الإعلام السعودي على ترديده، وهذا يعني لدوائر الحكم في الرياض، أن وضع أمن المملكة اليوم على حدودها الجنوبية مقارنة مع ما كان عليه قبل الحرب، أصبح أكثر هشاشة وخطورة بعكس ما كانت تتوق إليه عشية ليلة الحرب، وصارت تشعر أن هذه الحرب لم تخفق فقط بجعل الحد الجنوبي أكثر أمناً، بل أتت بنتيجة معاكسة تماماً لما كان عليه الوضع الأمني والعسكري قبلها، اضطرها إلى إعادة ترتيب قائمة أولوياتها في اليمن، في ظل أوضاع سعودية داخلية مرتبكة…
وبالتالي، فهذا يعني بالضرورة، أن الهاجس الأمني والعسكري بالأجندة السعودية في اليمن، باتَ مقدماً على كل الاعتبارات الأخرى بما فيها الاقتصادية التي تعتبر الهدف الرئيس لهذه الحرب – وإن لم يعلن عن ذلك صراحة -، وسينعكس هذا على التسوية السياسية لمستقبل اليمن، والتي ستتم قطعاً في نهاية المطاف، بصرف النظر عن شكل النهاية التي ستصير إليها هذه الحرب، وستتكون الاعتبارات السعودية مقدَمة على الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليمنية، بل والسيادة اليمنية أيضاً…
فاليمن المنزوع من السلاح الثقيل، وبالذات الصواريخ بمختلف أنواعها ومداها، فضلاً عن وضع الطيران العسكري والمدفعية الميدانية بعيدة المدى، ستكون تحت العين السعودية، حتى في حال أن صار الحكم بيد قوى موالية للرياض، وربما سنرى منطقة حدودية عازلة، وبالذات إن استطاعت الرياض تحقيق مكاسب عسكرية حقيقة بالعمق الشمالي – مع أن هذا يبدو صعباً حتى اللحظة -، فلم يعد لحسن الظن بنوايا القوى اليمنية مكاناً لدى حكام الرياض، بما فيها القوى الموالية والمخلص لها… وسنكون أمام نسخة مشابهة للتسوية التي صارت إليها شبه جزيرة سيناء المصرية، بالنسبة للهواجس الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، بعد حرب أكتوبر 73م، بعد اتفاقية كامب ديفيد، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
فالسعودية التي تتوجع اليوم بصمت جرّاء الضربات التي تأتيها على شكل هجمات خاطفة من مقاتلين «حوثيين» أشدّاء، لم تقوَ على صدّها لوحدها، برغم تفوقها العسكري والمادي والدعم الدولي المنقطع النظير، وتستعين لمجابهة ذلك، بمقاتلين جنوبيين ستكون في مأزق دفاعي حقيقي في المستقبل، حين لن يكون بمقدورها حشد مقاتلين من اليمن بسهولة وبكثافة عددية كما هو اليوم، في حال نشوب مواجهة مستقبلية مع أي طرف يمني لشد أزرها كما تحشدهم اليوم بسهولة بحكم أوضاع الحرب وكفة الدعم الدولي الراجحة نحوها، وبحكم تسلحها، بدعم أممي وقرارات دولية داعمة، ستسقط كل هذه العوامل الدولية الداعمة، بمجرد أن تضع الحرب أوزارها، وبالتالي، لن تقف مكتوفة الأيدي مستقبلاً تجاه الخطر الذي سيظل يرعب مخيلتها، خصوصاً بعد أن جلبت لها الحرب الضغائن والأحقاد لدى اليمنيين، وفي الشمال بالذات، وستعمل ليس فقط على تعزيز قدراتها الدفاعية، التي أثبتت هذه الحرب أنها دون المستوى،
بل ستعمل على تقويض القوة اليمنية من داخلها بشتى الطرق والوسائل، وستطلُّ لهذا الغرض من نافذة التسوية السياسية اليمنية المنتظرة التي ستفرض فيها السعودية شروطها بالجملة، معززة بأوراق ضغط فتاكة كالورقة الاقتصادية والمالية، وحاجة اليمن للموارد السعودية للملمة شتاته وإعادة إعمار دماره الهائل، ناهيك عن النفوذ العسكري المباشر لها، الموجود على الأرض اليمنية، وورقة الجماعات الجهادية الموالية لها، فضلاً عن الاستعانة لهذا الغرض، بأوراقها التقليدية القبلية والدينية والعسكرية، فما تزال «اللجنة الخاصة» لجنة الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز، أو ما باتتْ تُعرف عند بعض النخب اليمنية منذ تأسيسها في العام 62م، بـ«الحكومة الخفية»، تقوم بمهامها على أكمل وجه بشراء الذمم زرافات ووحدانا، للأمساك بتلابيب القرار اليمني، وتشديد القبضة على مفاصل الإرادة السياسية الوطنية اليمنية، تلك القبضة التي أتخت – أو كادت – منذ العام 2014م، قبل أن تعود أو تحاول أن تعود منذ مارس 2015م!
(صلاح السقلدي)