المشهد اليمني الأول/
لم تترك السعودية والإمارات نظام الرئيس السوداني، عمر البشير، حتى دفعتاه دفعاً نحو تبديل تموضعه الاستراتيجي من حكومة صديقة لإيران، وداعِمة للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، إلى أخرى مرتمية في حضن «الاعتدال»، ومستميتة لنيل الرضا الأميركي. هذا ما يقرّ به السفير الإماراتي في الخرطوم، حمد محمد الجنيبي، في وثيقة مؤرّخة بـ13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 تحمل عنوان «علاقات السودان وقطر في ظل المقاطعة»، حيث يقول: «دخل لاعبون جدد في علاقات السودان هم الإمارات والسعودية، لتشهد علاقاتهما مع السودان نقلة نوعية استطاعا من خلالها جر السودان إلى مربع الاعتدال من خلال جهود دبلوماسية لدعمه والتعاون معه في العديد من الملفات، وأهمها ملف رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة. ونجحت تلك الجهود حتى وصل السودان إلى مرحلة إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية، ومن ثم قطع العلاقات مع إيران، والمشاركة الفعالة في عاصفة الحزم… (و) إعلان إنكاره لأي علاقة تربطه بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي».
هذه التطورات، التي تم من أجلها «تناسي الكثير من المرارات والمواقف السلبية لنظام البشير» بحسب الجنيبي، جاءت الأزمة الخليجية لتثير الشكوك بشأن إمكانية استمرارها. إذ «يبدو من خلال الأحداث الأخيرة أن السودان قد عاوده الحنين إلى ميوله القديمة والنَّفَس الإخواني الذي ظل يلازمه في الفترة الماضية»، كما «يبدو أن محاولات إصلاح النظام السوداني قد عادت إلى المربع السابق» وفق ما يرى الدبلوماسي الإماراتي في البرقية نفسها، مستشهِداً بمجموعة مؤشرات من بينها «زيارة البشير إلى قطر، ثم زيارة وزير المالية القطري إلى الخرطوم» اللتين يَعدّهما «مؤشراً إعلامياً يحمل دلالات سياسية في تحدي دول المقاطعة»، وكذلك «توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات توفير السلع والمشاريع التنموية»، إضافة إلى «دخول قطر في إدارة هذا الميناء (بورتسودان)» بما «يمثّل استفزازاً في ظل الأزمة مع قطر»، بحسب ما جاء في وثيقة أخرى معنونة بـ«السودان تقبل عرض قطر لإدارة ميناء بورتسودان وترفض عرض موانئ دبي» (تحمل تاريخ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017).
ورغم أن الجنيبي يحاذر الحسم في تشخيص موقف السودان الجديد بوصفه إياه بـ«المرتبك» وبأنه «أكثر تعقيداً»، وبربطه في غير موضع بـ«محاولة للعب على الحبلين طمعاً في الحصول على المزيد من المكاسب من الدول المقاطعة لقطر»، أو الأمل بأن «تكون خطوط المصالح على مستوى مستقيم مع كلا الجانبين» (السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة أخرى) طبق ما يرد في الوثيقة الأولى، أو الرغبة في «تحقيق أكبر قدر من الفائدة من خلال موقفها (أي الخرطوم) المحايد بشأن الأزمة القطرية فمن جهة تدعي بأنها مع التحالف العربي، ومن جهة أخرى عينها على الدعم القطري الذي أصبح مغرياً لهم في ظل استمرار المقاطعة» بحسب ما يعتبر الجنيبي نفسه في وثيقة ثالثة تحمل عنوان «محضر لقاء السفير مع مدير مكتب الرئيس السوداني» (19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017)، إلا أن الدبلوماسي الإماراتي يتهم الخرطوم بشكل أو بآخر بالخداع بقوله مثلاً في الوثيقة الثانية إن «حديث وزير النقل السوداني عن أن الطلب القطري لإدارة الميناء كان قبل طلب موانئ دبي هو حديث غير صحيح وقطر لم يسبق لها أن تقدمت بطلب لإدارة ميناء بورتسودان إلا مؤخراً»، واتهامه حكومة البشير في وثيقة رابعة مؤرخة بـ19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 (الموضوع: معلومات عن موضوع إدارة ميناء بورتسودان ومكتب البشير يقترح لقاء موانئ دبي) بأنها «تمارس المناورة في استمرار تعزيز علاقاتها مع الدوحة تحت أكثر من عنوان ومنها إدارة بورتسودان».
انطلاقاً من ذلك، يوصي الجنيبي، في الوثيقة الرابعة عينها، بممارسة «الضغط على حكومة البشير التي تقف متأرجحة في موقفها من الأزمة مع قطر». ضغط ربما شكّل الامتناع عن إغاثة الخرطوم تزامناً مع أزمة الوقود الأخيرة بعضاً من مظاهره. غير أن تلويح السودان بسحب قواته من اليمن، إثر تلك الأزمة، سرعان ما استنفر السعودية والإمارات وحملهما على اتخاذ خطوات إنقاذية. ومن هنا، يبدو أن العلاقة بين الجانبين لا تزال محكومة بالمصلحة المتبادلة: نظام البشير يحاول استغلال الحاجة السعودية – الإماراتية إلى جنوده إلى أقصى حد ممكن، والرياض وأبو ظبي تتنقلان ما بين الإمساك بالجزرة تارة والتلويح بالعصا تارة أخرى. مقايضة لا تُعلم قابليتها للاستمرارية، خصوصاً إذا ما ضاق هامش المناورة على السودانيين، ووجدوا أنفسهم مضطرين للاختيار.
اهتمام استثنائي بـ«بورتسودان»
يشكّل موضوع ميناء بورتسودان، الواقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، محوراً لوثيقتَين اثنتين من الوثائق المسرّبة من السفارة الإماراتية في الخرطوم. في الأولى التي تحمل عنوان «السودان تقبل عرض قطر لإدارة ميناء بورتسودان وترفض عرض موانئ دبي»، يشير السفير حمد الجنيبي إلى إعلان وزير النقل السوداني، مكاوي محمد عوض، الاتفاقَ مع الحكومة القطرية على تطوير ميناء بورتسودان، ورفضَ طلب «موانئ دبي» إدارة الميناء، وتعليلِه (أي مكاوي)، ذلك أن الطلب القطري كان قبل طلب «موانئ دبي». وللدلالة على خطورة الخطوة، يلفت الجنيبي في التعليق إلى أن «ميناء بورتسودان من الموانئ المهمة في السودان ودول الجوار، وتحديداً الدول الحبيسة مثل إثيوبيا وتشاد، إلى جانب موقعه الاستراتيجي المهم على ساحل البحر الأحمر».
أما في الوثيقة الثانية المعنونة بـ«معلومات عن موضوع إدارة ميناء بورتسودان ومكتب البشير، يقترح لقاء موانئ دبي»، فينقل الجنيبي عن مدير إدارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية السودانية، أحمد يوسف محمد، تبريره ما جرى بأن «الإعلان السوداني نقل تصريحات الوزير بشكل غير صحيح»، وأن «الاتفاق مع قطر لا يتعلق بميناء بورتسودان، وإنما بميناء سواكن الذي يبعد 25 كيلومتراً جنوب بورتسودان وهو ميناء خاص بالحاويات». وينقل الدبلوماسي الإماراتي عن المسؤول السوداني أن «الحكومة السودانية حريصة على أن ترسي المناقصة (مناقصة بورتسودان) على مجموعة موانئ دبي العالمية (…و) أنه لا توجد شركة منافسة لها على مستوى هذه المناقصة». وفي تعليقه على التبرير السوداني، يضيف الجنيبي، نقلاً عن مدير مكتب الرئيس السوداني حاتم حسن بخيت، أن «مكتب سموّ الشيخ منصور بن زايد آل نهيان استفسر عن مدى جدية الجانب السوداني في قبول عرض موانئ دبي»، وأن بخيت «عرض الأمر على الرئيس البشير الذي اقترح حضور سعادة الرئيس التنفيذي لشركة موانئ دبي لمقابلته شخصياً في الفترة التي تناسبه بين يومي 27 – 28 نوفمبر 2017 وذلك لحسم الأمر نهائياً».
طه عثمان أُبعد بنصيحة قطرية!
في تعليقه على تطور موقف السودان من الأزمة الخليجية، يلفت السفير حمد الجنيبي، في وثيقة «علاقات السودان وقطر في ظل المقاطعة»، إلى أن «السودان حاول في بداياتها (أي الأزمة) أن يتخذ موقف الحياد وسعى إلى الاحتماء وراء المبادرة الكويتية ونجح إلى حد ما، ولكن جاء قرار إبعاد المبعوث الرئاسي الفريق طه عثمان الذي تقول المصادر إنه حصل بناءً على نصيحة قطرية». والجدير ذكره هنا أن قرار إقالة وزير الدولة في رئاسة الجمهورية، مدير مكتب البشير، طه عثمان الحسين، اتُّخذ في حزيران/ يونيو 2017، وأثار حينها العديد من التكهنات بشأن خلفياته، وأعاد تسليط الضوء على سيرة الوزير الموصوف بأنه «رجل الظل»، إلا أن أكثر ما شكّل علامة فارقة في استقراء القرار، أن الحسين أدى دوراً مهماً في تعزيز العلاقات السودانية – الإماراتية، وقبل ذلك كانت له بصمته في قرار حظر المراكز الثقافية الإيرانية والحسينيات في السودان، ولعلّ ذلك هو ما دفع الجنيبي إلى اعتبار إقالته أمراً مقلِقاً.
ويتابع الدبلوماسي الإماراتي في الوثيقة نفسها أن «الرئيس السوداني اجتهد في البداية في التمسك بالحياد وأن يكون قريباً من السعودية وأرجأ زيارته لقطر عدة مرات، إلى أن زار قطر أخيراً خلال جولة شملت الكويت والسعودية حيث التقى خادم الحرمين الذي حسب المعلومات أبلغه عدم رضاه عن زيارته لقطر».
الوساطة الكويتية «لم تعد مقبولة»
في الوثيقة المعنونة بـ«محضر لقاء السفير مع مدير مكتب الرئيس السوداني» (19 نوفمبر 2017)، يورد السفير الإماراتي، حمد الجنيبي، «أبرز ما قاله» وزير الدولة ومدير مكاتب الرئيس السوداني، حاتم حسن بخيت، خلال اللقاء. وفي ما يلي بعض من تلك المقتطفات:
«* ذكر أن الرئيس البشير يحرص على أن ينقل للقيادة في الإمارات والسعودية أن الذي يمثل السياسة الخارجية للسودان هو شخصياً، وأن الحكومة السودانية تؤكد أن مساعد الرئيس إبراهيم السنوسي التابع لحزب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي) ليس له أي سلطة أو قرار في السودان، ووجوده في الحكومة جاء من خلال الحوار الوطني الذي جرى أخيراً، وليس لديه سوى ملف صغير يتعلق بالتنمية بين الدول الأفريقية، وبالتالي فإن موقف السودان الثابت هو موقع محايد من الأزمة في قطر.
* وأفاد بأن الحكومة السودانية توصلت إلى اقتناع بأن المبادرة الكويتية لم تعد مقبولة لدى دول المقاطعة، لذلك ابتعدت عن الاحتماء بها أو تأييدها.
* وذكر أن السودان توصل إلى اقتناع بأن موقع دول الخليج من قطر هو مقاطعة طبيعية وليست حصاراً، وأنهم وجهوا الإعلام السوداني بعدم الحديث عما يسمى الحصار، حسب الزعم القطري.
* وقال إن أزمة قطر أوقفت مصالح السودان في ظل أزمة حقيقية تتعلق بشح العملة وزيارة الرئيس السوداني لقطر كانت من أجل مناقشة العلاقات بين البلدين وملف إعمار دارفور من خلال بنك دارفور المزمع إنشاؤه حسب اتفاق الدوحة والذي يبلغ رأسماله (2) مليار دولار. كما أن السودان يأمل أن تساهم قطر في ضم الفصيلين الكبيرين في دارفور، وهما حركة العدل والمساواة وجماعة مناوي إلى ملف السلام. وقال إنهم أطلعوا الإمارات والسعودية للعلم بالزيارة وأهدافها في حينه…
* وأشار إلى أن السودان محرج ولا يريد تقديم طلبات مباشرة لدعم مالي من الإمارات والسعودية لأن القيادة السودانية تشعر بأنها أثقلت عليهم في الفترة الماضية، وتوجيهات الرئيس لهم بعدم تقديم طلب مباشر، والقطريون عرضوا المساعدة. وقال لا نستطيع أن نرفض، لكن لا يمكن لهذا الدعم أن يؤثر على موقف السودان ومشاركته مع التحالف في اليمن».