المشهد اليمني الأول/
منذ تسلمه مهامه الرئاسية، برع ترامب في “ابتزاز” حلفاء واشنطن التقليديين، سياسياً ومالياً: دول الخليج، كوريا الجنوبية، واليابان. وأظهرت أوروبا بعض التململ وعدم الرضى عن مطالب ترامب “الممثل التجاري لصناعات الأسلحة،” وفق توصيف مسؤولين أوروبيين. كرّر الرئيس الأميركي مطلبه أمام قمة الحلف بالقول أنه يتعين على الدول الأعضاء ليس الوفاء وتحمل الكلفة العسكرية بنسبة 2% بل ينبغي زيادتها إلى الضعف بنسبة 4%.
ولم يخفِ ترامب مشاعر العداء للاتحاد الاوروبي ولحلف الناتو على السواء، وعمل على التدخل المباشر بتوازنات الاتحاد بإرساله مستشاره السابق ستيف بانون، في مايو 2018، إلى إيطاليا لدعم رئيس وزرائها الجديد، جوزيبي كونتي، في حملته الانتخابية نظراً لمناهضته توجهات النظام الراهن؛ موجهاً له دعوة رسمية بزيارة البيت الأبيض. بينما يدرك الثلاثي الاوروبي الآخر، بريطانيا وفرنسا والمانيا، حجم المتاعب التي سيتسبب بها (كونتي) وسعيه لتصدع الاتحاد من الداخل.
مطالب بانون وترامب بحل الاتحاد الأوروبي تصريحات علنية، كان أحدثها تأييد ترامب لاستقالة وزيرين بريطانيين مؤخراً على خلفية تباطؤ رئيسة الوزراء تيريزا ماي في الخروج من الاتحاد الاوروبي، كما ادعيا. وحافظت المواقف الرسمية على مواكبة الطرح الأميركي خاصة في لقاء وزراء دفاع دول الاتحاد الاوروبي، 7 حزيران/يونيو 2018، الذي أسفر عن تبني قرارا بالإجماع “لتعزيز التوجهات في عمل مضاد لروسيا؛ وتشكيل قيادة عسكرية مشتركة للأطلسي (في مدينة نورفولك بولاية فرجينيا الأميركية) في التصدي للغواصات الروسية التي تهدد سبل الاتصالات بين اوروبا والولايات المتحدة؛ وانشاء مركز قيادة جديد للشؤون اللوجستية في مدينة أولم بألمانيا لتسريع نقل القوات عبر اوروبا في أي صراع قد ينشب مسقبلاً”.
وعزز التشكيك بقدرات أوروبا الدفاعية جملة مساهمات سياسية وفكرية في أميركا، منها اسبوعية ناشيونال إنترست، 9 تموز/يوليو الجاري، بالجزم أن “هيكلية حلف الناتو القتالية في الوقت الراهن .. ستكون عاجزة عن الصمود أمام غزو روسي للبلدان المجاورة في لاتفيا وليتوانيا واستونيا”.
فمعهد راند المقرب من المؤسسة العسكرية والاستخباراتية استنتج “أن الوضعية الراهنة تحول دون قيام حلف الناتو بالدفاع الناجز عن أراضي معظم أعضائه” القريبين جغرافياً من روسيا. ورأى المعهد أن تلك المهمة تستدعي العودة لاستراتيجية “شبيهة بعصر الحرب الباردة، وعقيدة الثمانينيات بخوض معارك جوية وبرية (وتخصيص) 7 فرق عسكرية على الأقل” للتصدي لغزو روسي قد ينجز مهمته في “احتلال دول البلطيق بسرعة بيّنة لا تتعدى 60 ساعة.” وفي هذا السياق استبق وزراء دفاع الحلف لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والروسي بالإعلان عن اتفاقية جديدة يسري مفعولها لغاية عام 2020، قوامها حشد 30 كتيبة آلية؛ 30 سرباً جوياً؛ و 30 سفينة حربية في اوروبا قابلة للانتشار في 30 يوماً أو أقل” لمواجهة روسيا”.
ولم يشأ الرئيس ترامب أن يترك مجالاً للمناورة بين الأوروبيين إذ توجه في حفل شعبي حضره في ولاية مونتانا، 6 تموز/يوليو الجاري، موجهاً خطابه للمستشارة الألمانية قائلاً “.. تدركين أنغيلا، انني لا أستطيع توفير ضمانات، لكننا نوفر الحماية لكم.” وفي تصريح مشابه بعد أيام معدودة زعم ترامب أن “ألمانيا رهينة لروسيا بشكل مطلق”.
التهويل الأميركي بالخطر الروسي يدركه الأوروبيون بشكل عام. وعلق مستشار الحزب الأحمر في النرويج، اريك فولد، مؤخراً بالقول أن الرئيس ترامب “لا يتعدى كونه ممثلاً تجارياً لتسويق الصناعات العسكرية الأميركية، ويدفع باتجاه زيادة الاوروبيين ميزانياتهم العسكرية لشراء معدات أميركية بشكل خاص”.
وفي الشأن الاقتصادي وقطاع الطاقة، شكل استيراد اوروبا الغاز الطبيعي من روسيا عاملاً اضافياً للهجوم الأميركي عليها كون الرئيس ترامب “ينطق بلسان الصناعات النفطية والغاز الطبيعي الأميركية في محاولة لإقناع الأوروبيين الإقلاع عن استيراد الغاز من روسيا – لا سيما خط الشمال: نورد ستريم – واستبداله بالغاز الأميركي.” واعتبرت فورين بوليسي في 10 تموز/يوليو الجاري، أن اوروبا اليوم لا تشبه اوروبا بالأمس إذ “أضحت غير قادرة على الدفاع عن نفسها.” الحلف “أصبح شيئاً من الماضي،” كما وصفه خطاب المرشح الرئاسي دونالد ترامب، ولم يحد عن ذلك إلا بمقدار إرضاء المصالح الكبرى الأميركية وسياسييها التقليديين، ووجد في ابتزازه آذاناً صاغية ستعود بالمنفعة المادية عليه.
أسلوب الخداع الذي يمارسه ترامب عبر عنه بصراحة في كتابه فن الصفقة، ولخصه بأنه للفوز بأقصى ما تريد ينبغي اغراء الطرف الآخر ومن ثم التحايل عليه Bait-and-switch. في خلفية ذهن ترامب، فإن انسحاباً جزئياً من القوات الأميركية في اوروبا أمر وارد، على الرغم أنه يتعارض مع القادة العسكريين والنخب السياسية التقليدية. ويستخدم هذا التهديد اينما لزم الأمر لممارسة مزيد من الضغوط على دول الحلف ليس إلا. فهو ليس بوارد تنفيذ تعهده بإلغاء الحلف، لا سيما وأن الأمر ينطوي على جملة من التعقيدات السياسية واللوجستية وموازين القوى الداخلية، فضلاً عن العامل الزمني. بيد أن التلويح بذلك يبقى سوطاً مسلطاً على الاوروبيين، وتجديد مهام الحلف. التدخل في افغانستان وليبيا والعراق وسوريا، يشكل رسالة ردعية لروسيا، من وجهة نظر واشنطن؛ خاصة وأن دول اوروبا الشرقية المنضوية تحت لواء الحلف تلعب دوراً مؤيداً لبقائه وتحديث مهامه خدمة لأهدافها المعادية لروسيا.
وليس أدل على ذلك من تصريح حديث لرئيس بلغاريا، رومن راديف، قائلا “.. حلف الناتو ليس بورصة (مالية) يستطيع المرء فيها شراء الأمن.. لكن وعلى الطرف المقابل فإن الرئيس ترامب محق إذ ينبغي على كل دولة بناء قدراتها الفعالة بمفردها”.