المشهد اليمني الأول/
القتل غيلة عار وعيب لدى العرب، وفي كثير من الأعراف القبلية، فمبدئية الصراع ترى أن الشجاعة والرجولة في المواجهة والنزال في ساحة المعركة، فهو أسلوب قذر ولا ينبئ إلا عن خسة ودناءة، كما ينبئ عن عجز وانهزام صاحبه ومنفذه، ومع تفشي حوادث الاغتيالات في كثير من البلدان العربية والإسلامية وليس بلدنا فحسب، يدعونا ذلك إلى التوقف لمعرفة جذوره ودوافعه، فأصوله متجذرة وعميقة في التاريخ، وابتدأت في التاريخ الإسلامي من قِبل اليهود في محاولة استهداف أكرم الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأكثر من مرة، أولها ما قام به النضر بن الحارث بن كلدة أحد بني عبد الدار، حينما أراد اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثناء خروجه لقضاء حاجته وهو في مكة، ثم حينما أجمعت قريش على قتله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد الخروج من مكة إلى المدينة، وأتوا من كل قبيلة بغلام معه سيف ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، ثم محاولة أخرى حينما قال أبو سفيان لنفر من قريش: ” ألا أحداً يغتال محمداً فانه يمشي في الأسواق ” – يقصد أسواق المدينة – ، فتطوع لتلك المهمة رجل أعرابي وذهب إلى المدينة وحينما قرب من المسجد حيث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن فيه نية سوء، فأمر به فألقي القبض عليه واعترف بما جاء فيه، بيد أن المحاولة التي نالت من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت من قبل اليهود بعيد غزوة خيبر بقليل عام 7 هـ ، عندما أمروا امرأة منهم يقال لها زينب بنت الحارث اليهودية جاءت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل شيئاً من فخذها فأحس بالسم ولفظ ما تناوله بسرعة، ومات منها بشر بن البراء بن معرور الأنصاري أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أن تلك الأكلة لم تودِ بحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حينها لكن من المستيقن أنها كانت السبب في وفاته في السنة الحادية عشر للهجرة، ثم حادثة الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري، ونسبة قتل الجن له بتلك الفبركة فيها ما فيها، ثم حادثة اغتيال الإمام علي عليه السلام التي نحن في صدد بحث دوافعها وأبعادها، ثم اغتيال الإمام الحسن بن علي عليهما السلام بتخطيط من معاوية، حيث أوعز معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي زوج الحسن عليه السلام أن تطعم زوجها السم مقابل مبلغ من المال وعلى أن يزوجها يزيد، ثم اغتيال مالك بن الحارث الأشتر، عندما أوعز معاوية من يدس له السم في العسل وهو في طريقه إلى مصر، ولما بلغ معاوية وفاة مالك قال: إن لله جنوداً من عسل، ثم اغتيال إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بإيعاز من هارون الملقب بالرشيد لوالي أفريقيا هرثمة بن أعين، ثم توالت في التاريخ أحداث الاغتيال حتى يومنا هذا، وعندما نتأمل الأحداث السابقة نجد أن منشأها من مكة، أما تبني أبو سفيان وولده معاوية لأكثرها فهذا يجعلنا نعرف لماذا أغلب منفذي العمليات الإرهابية في جميع أنحاء العالم سعوديو الجنسية، وقصة استشهاد الإمام علي عليه تستدعي أن نتوقف عندها كثيراً، لنعرف من خلال تفاصيلها، تنوع وتطور أساليب عمليات داعش التي تستهدف الأبرياء في كل بلدان المسلمين بشكل عام، واليمن على وجه الخصوص، باسم الدين ومن أجل الدين.
فقصة استشهاد الإمام علي بن أبي طالب يرويها المؤرخون على هذا النحو: أن ((ابن ملجم وأصحابه: البرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا بمكة، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهروان، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئاً! إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو اشترينا لله أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم، فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا! فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب، وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان؛ وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه. فأخذوا أسيافهم، فسموها، واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه الذي يطلب، فأما ابن ملجم المرادي فكان عداده في كندة، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهة أن يظهروا شيئاً من أمره)) ثم يضيف المؤرخون أن ((ابن ملجم لقي من يومه ذلك امرأةً من تيم الرباب يقال لها: قطام ابنة الشجنة – وكان الإمام علي قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، وكانت فائقة الجمال – فلما رآها التبست بعقله، ونسي حاجته التي جاء لها؛ ثم خطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشفى لي قال: وما يشفيك؟ قالت: ثلاث آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب، قال: هو مهرٌ لك، فأما قتل عليٍّ فلا أراك ذكرته لي وأنت تريديني! قالت: بلى، التمس غرته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خيرٌ من الدنيا وزينتها وزينة أهلها؛ قال: فو الله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سألت. قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك، ويساعدك على أمرك، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: وردان فكلمته فأجابها)) هكذا بهذا التفصيل وبهذه المشاهد، وكأنها رواية أدبية محبوكة بدقة، يستحق كاتبها جائزة نوبل في الرواية، ـ طبعاً لا أقصد توكل ـ فقد فاق نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وهنري برجسون، وفيكتور هوجو، ودان براون، من حيث تقنيات السرد الروائي، واستدعاء الزمان والمكان والطقوس والعادات والخلاف والمأساة وحتى العلاقة الغرامية، وكل ما له علاقة بالأكشن، اجتماع بمكة، وتذكر لمن فات، واتفاق وتآمر، وترتيب وتجهيز، وسم السيوف، وتحديد الزمان والمكان، والتوقيت والطريقة، وغرام ابن ملجم بقطام، والشرط والمهر، وغيره، ولولا زمن القصة آنذاك لأضاف الراوي مشهداً ساخناً يتوافق مع السينما المصرية اليوم، كجهاد النكاح، على مذهب قطام، وكل مشهد في القصة يحتاج إلى توقف كبير وتأمل واسع، والقصة كتبت على أنها تاريخ، وكتابة التاريخ على مر العصور يشوبها ما يشوبها، والتاريخ الحقيقي عادةً لا يؤرخ لسببٍ أو لآخر، والوقائع لا تروى كما حدثت إطلاقاً، في أي قضية أو قصة أو حدث، وهذه القصة قد تحتاج إلى كثيرٍ من الجهد والبحث والتحليل لغربلة تفاصيلها، ومعرفة حادثة استشهاد الإمام علي عليه السلام هل كانت على هذا النحو المروي، أم أن حقيقتها اجتماع آخر غير الاجتماع المروي، وتخطيط آخر وتآمر آخر وتفاصيل أخرى. والمنحى الديني في القصة حاضر بقوة، ويأتي الطابع الكُلي والمنحى العام المسيطر على القصة دينياً بحتًا: اجتماع بمكة، وباسم الدين، وتذكر لأهل النهران الذين ورد وصفهم أنهم كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، ومن أجل الدين وبيع النفس لله ((فلو اشترينا لله أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم)).
فالعملية كلها لله ومن أجل الله وفي سبيل الله وتقرباً إلى الله وفي بيت الله، فهي عبادة عظيمة جداً أشبه بصلاة التراويح تماماً، وتفجير المساجد، وإن كان فيها اعتداء، وإن كان فيها تآمر لسفك دمٍ حرام، وفي شهر رمضان، وإن كان المستهدف بالقتل صنو النبي (ص) وباب مدينة علمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، حرصاً على الدين، ومن أجل الله وتقرباً إليه، وفق منهجية يهودية آتية من مكة، أوضحها الله سبحانه بقوله: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ))، ولأهل مكة تحديداً يقول الله سبحانه وتعالى: ” وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” لتبقى السعودية (الحجاز) هي مسرح المؤامرات لأحداث كثيرة خاصة ما لها علاقة بالقتل والقتال، ((فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ))، والغريب أن ذلك ينفذ باسم الدين وتحت مبرر ديني ((إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)) بنفس الطريقة التي نُفذ فيها قتل علي بن أبي طالب تحت مبرر تحقيق الراحة للعباد والبلاد، وبيع النفس لله، ومن أجل الله، وإن كان الموقف في حقيقته تكذيب بالله وبدينه ((فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ))، فهي هي الطريقة التي يُغتال بها المسلمون في بيوتهم ومساجدهم وأعراسهم، من قِبل جماعات محسوبة على الدين، وباسم الدين، ومن أجل الدين، وإن كان في شهر رمضان، وإن كان موقفهم اعتداء، وإن كان ترويعاً للآمنين، وإن كان القتلى عُزل من السلاح، بتخطيط وتمويل سعودي، وتنفيذ إخواني، ولا تزال قطام تطالب بمهرها حتى اليوم وتكلف أكثر من رجل من قومها بشخصية وردان، ودوره يستطلع مكانا ما هنا، ويرفع إحداثياته إلى ملوك قرن الشيطان، أو يدس شريحة هناك، ولا يزال عبد الرحمن بن ملجم، الآتي بشره من نجد أشقى الأمة بنص حديث رسول الله، هو أيضاً سعودي الجنسية، وإن كان مرادياً حميرياً يُنسب إلى كِندة، إلا أنه كان مقيماً حينها في السعودية، أشبه بعبد ربه تماما الآن، وتخطيط الحادثة كان في مكة، وكان ابن ملجم حينها حاصلاً على جنسيةٍ من ملك قرن الشيطان آنذاك المخطط والمدبر للحادثة، بل قل من الشيطان نفسه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد أحمد الشميري