المشهد اليمني الأول| متابعات
عندما كانت القوى الكبرى ترسم مسارات الاحداث والسيناريوهات لمنطقة الشرق الاوسط ومعظم دول العالم الثالث، وفي سياق خطط تعميم «الفوضى البناءة» داخل الاقطار العربية، لنسف حدود اتفاقية سايكس – بيكو، والخروج بتقسيمات جديدة تتناسب مع التجمعات الدينية والمذهبية والعرقية والاتنية والقومية، تقاطعت يومها مصالح عدد من القوى الاقليمية التي عملت في حينه على حفظ مصالحها في الـ«ستاتيكو» الجديد المقرر للمنطقة.
وقتذاك تمحور الحراك التركي في هذا الاطار حول مشروع تقديم «الاسلام المعتدل» كنموذج حكم قوي وذا تمثيل وازن في البلدان العربية والاسلامية، قادر على ان يتولى ادارة الامور بما يخدم التوجهات الغربية ويتناغم مع مشاريعها الى ابعد مدى ويحقق كل مصالحها في بسط نفوذها على العالم،
وذلك على غرار تجربة حزب العدالة والتنمية الذي كان في بدايات سيطرته على تركيا العلمانية التي أسسها مصطفى كمال اتاتورك على انقاض الدولة العثمانية والتي كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يحلم ويعمل على إعادة إحيائها من جديد، من خلال اجراءات عديدة ولافتة بحيث تكون اولى خطوات اعادة الوصاية العثمانية على الدول العربية او الكيانات الجديدة في المنطقة على الاقل.
وكتمهيد أولي لإعادة احلام السلطنة العثمانية كانت الفكرة التركية الجديدة تقضي بايجاد انظمة سياسية في المنطقة متناغمة الى ابعد حدود التناغم مع المشروع العثماني القاضي باعادة الروح الى دولة الخلافة الاسلامية.
وبناء على هذه النظريات ومثيلاتها انطلق المشروع الاردوغاني السياسي للمنطقة وقضت أولى خطواته باقناع الدول الغربية الفاعلة بأن العامل الاول المساعد لتنفيذ ما يخطط للدول العربية يكمن في تعويم حزب الاخوان المسلمين المنتشرين كاحزاب جدية متماسكة ومترابطة ولها وجود ملحوظ في كل العالم العربي والاسلامي وهي متعددة التسميات في كل دولة لكنها تنهل جميعها مع احزاب اخرى من تعاليم وافكار حسن البنا وسيد قطب وكل المنظرين لفكر «الاخوان المسلمين»
وحاول اخوان تركيا وقتذاك باعتبارهم كانوا يحكمون دولة قوية ومحورية في الاقليم فرض هذا البند على الغربيين الذين كانوا بصدد البحث عن بدائل لحكم العسكر في العالم العربي والاسلامي في سياق اعادة خلط الاوراق في المنطقة، وتمت الموافقة الغربية على الاقتراح التركي من خلال الايجابية التي يسجلها الغرب لتجربة حكم الاخوان في تركيا والتي كانت حديثة الولادة في حينه، واعتباره نموذجاً لا بأس به، صالح للتعميم على دول المنطقة لا سيما وانه إسلام سياسي متصالح مع الصهيونية المحتلة لقدس اقداس المسلمين، وأنه مستعد لتقديم كل ما يطلبه الغرب في سياق التنازلات الصعبة مقابل بعض وعود وتقديمات بسيطة، والاهم انه يسلم بفكرة وجود اسرائيل ككيان غاصب ومستعد للتصالح معها…
واكثر فإنه مستعد لقتال من يقاتلها او يناصبها العداء مقابل اسناد دور سياسي له في قيادة البلدان التي يتواجد فيها ، وهذا أمر لم يكن حتى العسكر يقدمونه للغرب فعلياً، اذ اكتفت القيادات العسكرية للبلدان العربية والاسلامية بعدم قتال اسرائيل وعدم التسلح والتجهيز واعداد العدة لمواجهتها ولكن من دون ان تصالحها عمليا، أي انها أبقت على حالة العداء معها قائمة للاجيال القادمة.
ولكن في إزاء ذلك التقدم الكبير في المقترحات التي قدمها حزب أردوغان في حينه، وجد الغرب المقرر ضالته في الاخوان المسلمين وبدأت ثوراتهم الفولكورية والممسرحة بشكل كامل، وكان ان سُلِّمَت لهم تونس تسليماً، ثم ليبيا ثم مصر ثم بدأ الحراك الهادف لتسليمهم السلطة في اليمن وفي سوريا، ولكن قوة الخصوم في هذين البلدين حالا دون ذلك وما زالوا حتى اليوم يقاتلون مشاريع «أخونة» دولهم وتركها للفوضى لاحقاً.
ولكن بعد الهزيمة التي منيت بها «ثورة» الاخوان في مصر، والانهيارات المتتالية في تونس وليبيا والصمود الاسطوري الذي سجلته القوى المناوئة لمشروع «أخونة» المنطقة في اليمن وسوريا واصطفاف بعض الدول الخليجية الفاعلة كالسعودية والامارات ضد المشروع الاخواني بشكل علني كانت الصفعة الاولى لأردوغان الذي تحول مع تركيا التي يقودها الى عدو رقم واحد في كل من مصر والسعودية والامارات اضافة الى الانظمة المعادية لمشروعه الجديد المرسوم للمنطقة وهي انظمة سوريا واليمن والعراق، ومن خلفهم روسيا وايران، وعدد من دول منظومة البريكس استتباعاً،
وهذه العداوات المستحدثة لتركيا كان قد سبقها عداء حاد مع الكيان الاسرائيلي في العام 2010، ادى الى قطع العلاقات بين البلدين على خلفية الاعتداء الاسرائيلي المباشر على سفينة مافي مرمرة التركية التي كانت محملة بالمساعدات الانسانية لسكان قطاع غزة والتي قتل الاسرائيليون على متنها نحو تسعة ناشطين غالبيتهم من الاتراك.
هذه القائمة من العداوات الجديدة لدولة تركيا أتى بها أردوغان ليضيفها الى قائمة اخرى من الدول المعادية أساساً لتركيا وبينها وبين تركيا تواريخ من الصراعات الدامية والقتال والمجازر التاريخية والاحتلالات كأرمينيا واليونان وقبرص وعدد كبير من الدول الاوروبية، وهو ما جعل النخب التركية تصرخ في وجه اردوغان بأصوات عالية هذه المرة وبشكل معلن؛ كفاك عداوات مجانية، ولقد أسأت لقوميتنا ودولتنا وقضايانا أكثر مما خدمتها، وإلى أي هاوية تأخذ تركيا؟ والكثير من عبارات التململ التي ترددت على ألسنة قيادات رئيسية وهامة داخل حزبه العدالة والتنمية، ابرزها اصوات الرئيس التركي السابق عبدالله غل ورئيس الوزراء السابق داوود اوغلو وآخرين، واصطدمت به في حروب داخلية صامتة.
قبل اخصامه السياسيين كحزب الشعب الديمقراطي وعدد من الاخراب العلمانية الاخرى الذين يخوضون ضده حربا سياسية طاحنة.
اصافة الى ذلك فإن النخبة التركية الحاكمة وجدت انها امام كثير من الاعداء في مقابل صفر من الاصدقاء فحتى الادارة الاميركية لم تساعد حليفتها المفترضة عندما اندلعت ازمتها مع روسيا، بل على العكس وجد الاتراك ان اميركا كانت تطلب من تركيا ضبط حدودها مع سوريا والعراق وتتهم تركيا مباشرة وعلناً بأنها تقدم الدعم اللوجستي لداعش والنصرة وكل المنظمات الإرهابية.
وعندما حاول اردوغان الاستعانة بحلف الناتو في مواجهة الإجراءات الروسية، قوبل ببرود، وقدموا له النصائح بضبط النفس وعدم التهور والتوقف عن سياسة الاستفزاز لان الدب الروسي لا يحتمل الكثير من المداعبة. عندما توجه اردوغان صوب الاتحاد الأوروبي فلم يلقَ إلا الصدود، وجد ان الابواب مقفلة في وجهه لاسباب عديدة ابرزها ان نظام الحكم في تركيا لا يلبي الحد الأدنى من متطلبات الدمقرطة الاوروبية وتمت مفاتحته بملفات الفسادوالحريات وخنق المعارضة، وكم وسائل الإعلام، وإغلاق الصحف، واللجوء إلى العنف في التعامل مع المواطنين الاكراد، ورفع الحصانة عن نواب المعارضين لمحاكمتهم على آرائهم المخالفة للحاكم، والخ.
وبعد جردة حساب وفقاً المنطق السياسي يبدو انها تأخرت كثيراً، بدأ أردوغان تحت الضغوطات المتعددة داخليا وخارجيا يقتنع بأن السياسات العدائية التي ينتهجها ضد كل تلك الدول كانت سبباً في ضرب مصالح تركيا الدولية والاقليمية، وانها اذا ما تواصلت بهذه الوتيرة فانها ستكون سببا في عزل دولته عن العالم، وان ما حدث حتى الان ارتد وبالاً على اقتصاد الدولة التي كانت نامية لكنها اصيبت بالانكماش المريع بعد الازمة التي تسببت بها اسقاط المقاتلة الروسية سوخوي، واعدام طيارها الروسي في مناطق جبل التركمان المحاذية في الاراضي السورية.
هذه المراجعة التي اجراها اردوغان تحت ضغوط الشارع التركي وقواه الحية والخسائر الواضحة جعلته يتخذ عددا من الاجراءات البارزة وأولها الانفتاح بأي ثمن على كل الدول التي باتت مصنفة في خانة العداء لتركيا واعادة العلاقات معها بأي شكل من الاشكال ومهما كلف ذلك حتى في سياق اعادة النظر في سياساته المعتمدة ولا سيما بعد ان شهد على مشروعه الاخواني في ادارة الحكم يموت ويتشظى ادراج الرياج في كل الدول التي حاول اقامته فيها،وانه على العكس مما كان يتوقعه من التنظيمات السياسية الوليدة من الفكر المتشدد والتي كان شاهدا وشهيدا على رعايتها وتمويلها وتسليحها وتدريبها وتقديم كل انواع الدعم اللوجستي والعملاني لها كتنظيني داعش والنصرة الخارجين من عباءة الاخوان، وهي تنظيمات متوحشة ارتدت على تركيا كما ارتدت من قبل على كل الانظمة التي رعتها ودعمتها، وهو الامر الذي لم يكن اردوغان يصدقه رغم كل الاصوات التي خرجت تحذره من رعاية الوحش.وقد نالت نصيبها حتى الان من التفجيرات الداعشية الارهابية والتي كان مطار اسطنبول آخرها.
بعد هذه التطورات الخطرة لم يجد اردوغان أمامه سوى الشروع فورا في رحلة العودة الى المنطق وبدأ باجراءات المصالحة الفعلية مع ما يقتضيه ذلك من تنازلات مع اسرائيل التي اعاد تطبيع العلاقات معها ثم انتقل الى روسيا حيث قدم للجانب الروسي ضمانات مؤكدة بتقليص تدخله بالشأن السوري من خلال اقفال الحدود نهائيا والتضييق على الحركات الارهابية ثم اطلق تصريحات من شأنها ان تفتح الباب مع النظام السوري، وارسل وزير خارجيته الى ايران ليطمئنها في هذا المجال الى مقاربته الجديدة للازمة السورية وإجراءاته العملانية حيال ذلك التحول حيث تردد انه اقال جميع المسؤولين الذين كانوا يتعاطون بالملف السوري، في وزارة الخارجية والمخابرات وكل الأجهزة الامنية الاخرى، ويتم الحديث بقوة عن مفاجآت قريبة وغير متوقعه في هذا الاطار.
عباس صالح – الديار