المشهد اليمني الأول/ عبد الباري عطوان – رأي اليوم
في أحد كُتُب المُطالَعة المَدرسيّة الذي كان مُقرّرًا علينا في المَرحلةِ الابتدائيّة، عندما كانت المدارس مدارس، والمَناهِج مناهج، والأساتِذة أساتذة، والحُكومات وطنيّة، كانت هُناك قِصَّة مُعبِّرة تتحدَّث عن أعرابيٍّ اشترى حِصانًا “أصيلاً” لمُساعَدته في أّمور النقل والحَرث والحَصاد، ولكنّه استكثَر كميّة العَلف التي أوصاه بِها البائِع وهي أربعة كيلوغرامات من الشَّعير يوميًّا.
في اليوم الأوّل، وحسب الرواية، قدَّم له الكميّة كامِلة دون نُقصان، وفي الثاني قرَّر أن يُخفِّضها إلى ثلاثة كيلوغرامات، فحَرث الحِصان، وقام بواجباته الفلاحيّة، والمنزليّة المطلوبةِ منه على أكمل وَجه، الأمر الذي شَجَّع صاحبه على تخفيض الكميّة مرّةً ثانِية وثالِثة، حتى جاء يوم انهار الحِصان ولفظ أنفاسَه الأخيرة، فقال الأعرابي عِبارَتهُ الشَّهيرة “يا للخَسارة بعد أن تَعوَّد قِلَّة الأكل مات”.
تذكَّرت هذه القِصّة، وأنا أتابع أحداث الإضراب الذي دعت إليه مُعظَم النقابات في الأُردن يوم أمس الأربعاء، وحقَّق نجاحًا كبيرًا وِفق جميع وكالات الأنباء المحليّة والدوليّة، مع فارِق أساسي، وهو أنّ هذا الشعب الأُردني الأصيل لم ينتظر المَوت مِثل الحِصان المَذكور، بل انتفضَ وقرَّر أن يقول “لا” كبيرة جِدًّا في وجه الذين يُريدون تَجويعه، وحتى لا يَصِل إلى النهايةِ نَفسِها.
***
الشعب الأُردني تَحمَّل كثيرًا تحت ضَربات سِياط الحُكومة التي أثقلت كاهِله بالضَّرائب، والرُّسوم، والسِّياسات التقشفيّة التي فَرضتها عليه، ومَنعته من الصُّراخ من شِدَّة الألم في الوقتِ نفسه، لأنّ هذا الصُّراخ المَشروع إذا ما حصل، يَصُب في خانَة اللاوطنيّة وتهديد أمن البِلاد واستقرارِها.
بات مطلوبًا من الطَّبقات الشعبيّة المَسحوقة أن تدفع ثَمن أخطاء جميع الحُكومات السَّابِقة السياسيّة والاقتصاديّة على مًدى عُقود دُفعةً واحِدة، وفي أقل من عام ونصف العام ودون مُناقشة أو الحَد الأدنَى من النَّقد.
صندوق النقد الدولي باتَ هو وزير الاقتصاد الفِعلي في الأُردن، وهو الذي يُقرِّر السِّياسيات التي تَمتَص عرق الفُقراء المَعدومين، وتَسرِق لُقمَة العيش من أفواه أطفالهم، ولمصلحة القِطط السِّمان، وبَذخِها، وفسادِها، وغطرستها، وتعاليها، والفُقاعات البلوريّة التي يَعيشون فيها، كجُزر مَعزولة عن مُحيط البُؤس للأغلبيّة السَّاحِقة المَطحونة.
عندما يتوحَّد الأردنيّون جميعًا على أرضيّة رفض هذا القانون، ويَضعون كل خلافاتِهم جانبًا، وما أكثرها، ويُطالبون بإلغائِه، وليس تعديله، وقبل أن يناقشه البرلمان، فهذهِ الرِّسالة الأقوى إلى النظام السياسي الأردني، ونخبته، التي تقول أن هذا البرلمان لا يُمثِّله، وأن الكَيل قد طفح، ولم يَعُد هُناك أيَّ مجالٍ للإذعان والتَّحمُّل في الوَقتِ نَفسِه.
الشعب الأردني ليس الوحيد الذي طَفح كيله ونفذ صبره، بل مُعظَم الشُّعوب العربيّة الأُخرى، ولكن الفارِق الأساسي الذي لا تُدرِكه الأنظِمة الحاكِمة، أنّه لم يَعُد يَتحلَّى بِفَضيلتيّ الصَّبر والصَّمت، وباتَ يبحث عن طُرقٍ مُتعدِّدة، وفاعِلة، للتًّعبير عن غَضبِه ورَفضِه.
فإذا كان انتحار الشاب البوعزيزي حرقًا في مدينة سيدي بوزيد التونسيّة قد أشعل فتيل ثورات الربيع العربي، فإنّ المجتمع المدني المغربي الذي رفع سيف المُقاطعة في مواجهة الشركات التي يَملُكها رجال أعمال فاسدين جشعين بالغوا في امتصاص دمائِه برفع أسعار سلعهم، سجَّل سابِقةً خطيرةً وغير مُكلِفة، ربّما تَنتشِر مِثل النار في الهشيم في أماكنٍ أُخرى من الوطن العربي وعلى رأسها الأُردن، فماذا تستطيع أجهزة الأمن العمل لمواطن قرَّر عدم شِراء هذا المَنتوج أو ذاك، والاحتفاظ بقُروشِه القليلة في جَيبِه، وليس إرسالها إلى جُيوب الجَشِعين؟ تَعتقِله؟ تُعذِّبُه؟
الحاجة هِي أُم الاختراع، وشُعوبنا العربيّة باتت الأكثر إبداعًا في تطوير أدوات احتجاجها، والأهم من ذلك أنٍها بدأت تتحرَّر من عُقدَة الخوف، خاصَّةً أنّه لم يَعُد لديها ما يُمكِن أن تَخسره.
الفُقراء المَسحوقون في الأُردن الذين لم يعودوا يملكون ثمن المازوت لتَدفِئة أطفالهم، ولا الحَد الأدنى من الطعام، ناهِيك عن العِلاج والدَّواء، لا يستطيعون إيصال شَكواهم إلى أُولي الأمر، لأنّ هُناك حاجِزًا سَميكًا يحول دون ذلك، وحتى لو وصل صُراخ ألمهم وأنينهم إليهم، فإنّ الاستجابة ستكون محدودة، إن لم تَكُن مَعدومة.
***
المُشكِلة الكُبرى في الأُردن في رأينا أنّ مُعظَم النُّخَب السِّياسيّة وديناصوراتِها، لا يَكفُّون عن الشَّكوى، ليس لتَجاوبهم وحِرصهم على تَخفيف حِدَّة مُعاناة المًواطن وإسماع صَوتِه، وإنّما من تهميشِهم، وإبعادِهِم عن دائِرة صُنع القَرار.
الأُردن ومِثل مُعظَم الدُّوَل العربيّة الأُخرى التي تُعاني من الفَساد ونَهب المال العام، يَقِف أمام حرب طبقيّة، بعد اتِّساع الهُوّة بِشكلّ غير مسبوق بين الفُقراء والأغنياء، وانحيازِ الحُكومات، ونَقولها بكل ألم، للفِئةِ الأخيرة المُتخَمة، الباذِخة والفُقاعات البلوريّة التي تَعيش فيها.
نسأل أصحاب القرار الذين يسردون علينا دائِمًا قائِمةً طويلةً من الأعذار: لماذا يَحُج الإيرانيّون إلى مكّة ويُنفِقون نِصف مليار دولا سنويًّا، ولا يُسمَح لهم بزيارة الكَرك وضريح الإمام أبو جعفر الطيار؟ ولماذا الغاز الإسرائيلي وليس المِصري أو القطري أو الإيراني أو الروسي أو الجزائري؟ ولماذا السَّماح للدَّين العام بأن يَصِل إلى 36 مليار دولار وبِفَوائِد سنويّة في حُدود مِلياريّ دولار؟ ولماذا لم يَصدُر قانون الضرائب هذا قبل عِشرين أو ثلاثين عامًا مثلاُ، ويأخُذ من جُيوب الأغنياء لتَوفير الخَدمات الأساسيّة للفُقَراء المُعدَمين؟
قوانين ضرائِب الدَّخل موجودة في جَميع دول العالم دون استثناء، ولكنّها قوانين يَحتَرِمها المُواطِن لأنّه يَحصُل في المُقابِل على خَدماتٍ صحيّةٍ وتعليميّةٍ وبلديّة وراتِب تقاعدي مُريح وقَضاء عادِل، وقُوّات أمن كَفُؤة، ومُحاكم مُستقلَّة، وإعانات بِطالة مُقابِلها، فماذا ستُقدِّم هذه القَوانين للمُواطن الأُردني؟ أفيدونا أفادَكم الله.
نَختِم بالقَول أنّ هذا الإضراب يُمكِن أن يكون جرس الإنذار الأخير للحُكومة وخُبرائِها الذين يَرضَخون لإملاءات صُندوق النَّقد الدَّولي، ويتَحجَّجون بِها، لتمرير هذه القرارات الضَّريبيّة التي تَجلِد المُواطِن ليل نهار، لعلَّها تُحدِث الصَّدمة المُنتَظرة للحَيلولة دون مَوت الحِصان، وصاحِبُه أيضًا.