المشهد اليمني الأول/
في اليمن، يحلّ رمضان هذا العام ضيفاً كريماً وعزيزاً، ومعه نسائم الخير وسنابل البركات، يستقبله اليمنيون في كل المحافظات اليمنية، والوطن يرزح تحت عدوان لا ينتمي لهذا الكوكب الكروي، وحصار مطبق من الجهات الأربع، بما في ذلك الجو والبحر. شهر جديد بزمانه، لكنه غير جديد بأحداثه، وإن كان هناك من جديد، فهو الثبات المضاعف، والصمود الأشدّ، والانتصارات المتتابعة التي تثلج صدور قوم مؤمنين.
تحديات لا تنتهي
يواجه اليمنيون مزيداً من التحديات والصعاب التي أتت بها تبعات الحرب العدوانية، وإلى جانب ذلك؛ تستهدفهم حملات أخرى مضادّة، هدفها الكيل بمكيالين، والسعي لهدمه وتدميره، ومفاقمة معاناته، وإثخان جراحه، لم تترك قوى العدوان أي باب للجرم إلا طرقته، ولا نافذة للتجويع والتركيع إلا ولجت منها في وضح النهار، بدأت مشوارها بخلق اضطراب مالي في السوق المالية، وارتفاع سعر صرف العملة الصعبة بشكل مفاجئ، ارتفعت معه الأسعار بشكل جنوني، أقلق الناس وزاد من توترهم، واستغل الطابور الخامس هذه الأوضاع لكيل الاتهامات نحو أشخاص بعينهم، وتصوير الوضع بالكارثي والمتأزّم، مع محاولة إغفال الأسباب الحقيقية لمثل هذه الأزمات ومن يقف وراءها، والأهداف التي يترجّاها العدوان منها، ظناً منه أن الشعب اليمني شعب عاطفي تجتاحه الشائعات سريعاً، وتحتويه ويصدّقها من دون تريّث، لكنه اصطدم بصخرة الوعي الصلبة لشعب كريم وعظيم يأبى الخضوع أو الركوع لقوى العدوان وأدواته، التي تواصل حصارها وحربها للعام الرابع على التوالي، وتمارس في عدوانها أبشع وأقذر الأساليب والجرائم والانتهاكات.
روحانية الشهر
اليمنيون في جميع محافظات الوطن بشكل عام، يستقبلون شهر رمضان المبارك استقبالاً خاصاً، لكونه محطة دينية روحية يتزوّد منه المؤمنون بالزاد الروحي، والطاقة الإيمانية، فينهلون من معين القرآن الكريم، ويكثرون التلاوة والذكر، ويعمّرون بيوت الله بالصلاة والقيام والدعاء. وينعكس هذا الجو الإيماني الروحي على معاملات الناس وعلاقاتهم، فتنتشر قيم التراحم والتسامح، ويلتقي أهل الحي صغيرهم وكبيرهم في بيوت الله يؤدّون الصلوات، فيرى بعضهم بعضاً في ملتقى تغشاه ملائكة الله.. وفوق كل ذلك، يواسي الغني الفقير بالزكاة والصدقات، ويسعى أهل الخير إلى فك كرب الآخرين وإعانتهم على نوائب الدهر، فيتحقق التكافل والتراحم في أسمى معانيه.
عادات وتقاليد
لشهر رمضان عادات وتقاليد حياتية خاصة تميزه عن غيره.. كما أن هذه العادات الحياتية تختلف من محافظة إلى أخرى في اليمن، وربما قد تختلف الصورة داخل المحافظة الواحدة، والملاحظ أن هناك بعض العادات والتقاليد توشك على الاندثار لوجود بدائل وفّرتها التكنولوجيا، كالمسحراتي مثلاً الذي بدأ دوره يتراجع.. بينما استطاعت الكثير من هذه العادات الصمود والبقاء ومقاومة كل المظاهر الدخيلة.
ظروف اقتصادية
بسبب هذا العدوان الغاشم، لا يمكن إغفال أن شهر رمضان أتى على اليمنيين ومعه مشاعر الألم والوجع، وتأوهات ضحايا الحرب والنزوح والجوع والدمار، إضافة إلى انعدام الخدمات بفعل الحصار الجائر، وتدمير مقوّمات البنى التحتية التي استهدفتها طائرات العدوان طوال فترة الحرب الشعواء، كل ذلك جعل صيام هذا الشهر ممزوجاً بالمعاناة والمأساة، بالتوازي مع التصعيد على جبهات الحرب وانغلاق أي نوافذ للحل السياسي، كان اليمنيون قبل الحرب يستعدّون لاستقبال الشهر الفضيل بعد تلقيهم مكافآت تُعرَف بـ “إكرامية رمضان”، فيتوجهون إلى الأسواق ويشترون حاجيات الشهر من مستلزمات مختلفة بالإضافة إلى المواد الغذائية، لكن مع انقطاع الرواتب منذ عامين، صار الاستقبال مغايراً.
هروب من الواقع
بعد رحلة من الصوم المغلّف بظروف الحياة وطبيعتها القاسية؛ يتجمّع اليمنيون للبحث عن ضحكة يسترقونها من بين أصوات الطائرات، وأزيز الرصاص، فيلتقطونها في كلّ مساء من رمضان، أمام شاشات التلفاز للهروب من ويلات الخراب والدمار، ومشاهد القتل والدم، لقد دأبت القنوات اليمنية، قبل الحرب، على إنتاج برامج ومسلسلات اجتماعية في معظمها، تناقش قضايا اجتماعية قريبة من المجتمع، مثل الثأر، الزواج، غلاء المهور، وارتفاع الأسعار وغيرها، لكنها لم تذهب هذا العام بعيداً عن الحرب وعن الواقع اليومي اللذين فرضا نفسيهما على صناع البرامج والمسلسلات في “رمضان”، واستطاعا أن يهيمنا على المحتوى في الأعمال التلفزيونية، سواء منها الدرامي، أم ما يتخذ أشكالاً أخرى كالبرامج السياسية الساخرة.
هكذا يرى اليمنيون
لسان حال كل اليمنيين في هذا الشهر الكريم هو: أن الفرح بقدومه ومعرفة فضله ومكانته لمن أعظم الأمور المعِينة على الجد والاجتهاد فيه، ولم يضيِّع كثير من الناس الطاعة في هذا الشهر الكريم والإقبال على الله جلّ وعلا إلا من جهلٍ منهم بقيمته ومكانته، وإلا لو عرف المسلم هذا الشهر حقَّ معرفته وعرف قدره ومكانته لتهيَّأ له أحسن التهيُّؤ، واستعدّ له أطيب الاستعداد، ولبذل قصارى وسعه وجهده واجتهاده في سبيل الله، والقيام بعبادة الله على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الأيام -والحديث لليمنيين-؛ كيف نستقبل هذا الشهر الكريم؟ كيف نتهيّأ لهذا الموسم العظيم؟ كيف نستعد لهذا الشهر المبارك؟ وليس استقبال هذا الشهر بتبادل باقات الورد والزهور، ولا بإلقاء الأناشيد والأراجيز، ولا بتهيئة الملاعب والصالات، ولا بجمْع صنوف أنواع المطاعم والمشروبات والمأكولات؛ إن التهيّؤ لهذا الشهر الكريم تهيّؤٌ للطاعة، واستعدادٌ للعبادة، وإقبالٌ صادق على الله جلّ وعلا، وتوبة نصوح من كل ذنب وخطيئة.