المشهد اليمني الأول/ كتب: عبد الباري عطوان – رأي اليوم
نَرجوكُم أن لا تتحدَّثوا عن القانونِ الدَّوليّ عندما تتناولون الاحتفالات الأمريكيّة الإسرائيليّة الاستفزازيّة بنَقل السَّفارة إلى القُدس المُحتلَّة، فهذا الحَديث مُعيبٌ، ومُهين، في وَقتٍ يزحَف مِئات الآلاف من الشُّبّان في قِطاع غزَّة المُحاصر والمُجوَّع إلى الحُدود مع فِلسطين المُحتلّة، ويَتصدُّون للاحتلال ورَصاصِه الحيّ، بِصُدورِهم العارِية العامِرة بالإيمان بقَضيَّتِهم وعَقيدَتِهم.
هَؤلاء الشُّبّان الذين تَجري في عُروقِهم دِماء الكَرامة والعِزَّة الوطنيّة هم الذين يَردُّون الرَّد المُشرِّف على هذا التَّغوُّل الأمريكيّ الإسرائيليّ، ولم يَعودوا يَنتظِرون الجُيوش العربيّة وطائِرات “إف 16” التي جَرى إنفاق مِئات المِليارات من الدُّولارات على شِرائِها، لأنّهم، باتوا مُتأكِّدين أنّ هذهِ الطَّائِرات لن تَقتُل إلا العَرب البُسَطاء، ولن تُدمِّر إلا المُدُن العَربيّة، ولن يَكون مُستَبعدًا أن تُقاتِل جَنبًا إلى جنب مع نَظيراتِها الإسرائيليّة ضِد الشَّعب الفِلسطيني نَفسِه.
***
لا تقولوا لنا أن أمريكا بنَقل هذهِ السَّفارة، وفي يومِ النَّكبة، قد قَضَت على العمليّة السِّلميّة، وأُكذوبَة حل الدَّولتين، فمَن يحتفِل اليوم بنَقل السَّفارة ويَتبادَل الأنخاب احتفالاً، هو الذي أوقَع بعضنا في هذا المُستَنقع، وأوصَلنا إلى هذا الهَوان الذي نَعيشُه.
نَستغرِب غِياب زُعًماء ووزراء وسّفراء عرب عن حُضور هذا الاحتفال، خاصَّةً بعد مُجاهَرة الكثير منهم بالصَّداقة الحميميّة مع دَولة الاحتلال، وتَرحيب بعضِهم بالعُدوان الإسرائيلي على سورية، وإرسال فِرَق رِياضيّة إلى القُدس المُحتلَّة، ولكنَّنا نَجزِم بأنّهم هَنَّأوا الإسرائيليين والأمريكان هاتِفيًّا، فمَن غير المَنطقيّ أن لا يَقوموا بتأدِيَة الواجِب تُجاه الحَليف الجَديد.
مِئات الشُّهداء سَقطوا حتى الآن مُنذ مَسيرات العَودة، مِن بينهم 40 شهيدًا سَقطوا اليوم فقط حتى كِتابة هذهِ السُّطور، ومِن المُؤَكَّد أنّ الرَّقم سيَرتَفِع، فهؤلاء أحفادُ الصَّحابة، والقادَة الفاتِحين، وجُنودِهم الأبطال، هؤلاء هُم القِلَّة المُؤمِنة التي هَزمت الكَثرة الكافِرة.
أرادوا أن ينسى الشَّعب الفِلسطيني وأجياله الجَديدة أرضهم، ويتنازلوا عن حَق العَودةِ إليها، وها هي المَسيرات المُبارَكة المُعمَّدة بالدَّم، تُؤكِّد أنّهم لا يَعرِفون هذا الشَّعب، وصلابَة إيمانِه وعَزيمَتِه.
فإذا الحُكَّام العَرب، ومعهم السُّلطة الفِلسطينيّة وقِيادَتها الخانِعة المُستَسلِمة، قد نَسوا فِلسطين، وتَخلَّوا عن حَق العودة، واخترعت لهم أمريكا عَدوًّا جديدًا، وخانَوا الأمانة، فإنّ الشَّعب الفِلسطيني، ومَعه كل الشُّعوب العربيّة والإسلاميّة، سيَظل وَفيًّا للعَهد، مُتمسِّكًا بالكَرامة، ومُستَعِدًّا لتَقديم التَّضحيات مَهما كَبُرَت.
***
نَكتُب بعاطِفيّة.. نعم.. فماذا فَعل لنا أصحاب “الحِكمة والتَّعقُّل”، وكتائِب الاعتدال، هل أوقفوا بِناء شقَّة واحِدة في مُستوطنة يِهوديّة؟ هل حافَظوا على عُروبة القُدس وإسلاميَّتها ومَنعوا تَهويدَها؟ هل أوقفوا المَجازِر التي تَرتكِبها قُوّات الاحتلال في غَزّة وجِنين والخَليل وجَنوب لُبنان وسُوريَة؟
رِجال مَسيرات العودة لا يَهابون المَوت، ولا يَعرِفون الرُّعب، ويَختَرِقون الحُدود، ويُبدِعون في المُقاومة، ويُعيدون قَضيَّتهم على قِمّة اهتمام العالم بأسْرِه بعد أن اعتقد عَربُ الاستسلام أنّها تراجَعت إلى ذَيل السُّلَّم.
الذين يَرتَعِدون رُعبًا هُم الإسرائيليّون الذين يُطلِقون النَّار على الشُّبّان والأطفال العُزّل، الذين أفسدوا احتفالاتِهم، وأزالوا القِناع عن وُجوهِهم البَشِعة والدَّمويّة. لن يَهنأ المُطبِّعون مع الإسرائيليين.. ولن يَحميهم هؤلاء من غَضب شُعوبِهم، ونحن على ثِقَة، بأنّ هذهِ الشُّعوب لن تَغفِر، ولن تنسى، وستَنتَفِض بالدَّرجةِ نَفسِها إن لم يكن أقوى، ضِد حُكَّامِهم الظَّلمة الذين باعَوا أنفسهم، ورَهنوا ثَروات بِلادِهم لأمريكا وإسرائيل.
نَفتَخِر أنّنا ننتمي إلى هذا الشَّعب الفِلسطينيّ العَربيّ البَطل، ونَرفع رؤوسنا عالِيًا بشُهدائِه، وجَرحاه، واحِدًا واحِدًا، وأُمّة فيها هؤلاء الأبطال، والله لن تُهزَم أبدًا. خِتامًا نقول، أنّ هذا الشَّعب البَطل الأعزَل ليس من هُواة المَوت ولا يَرمِي نَفسه إلى التَّهلُكة، لأنّه شَعبٌ كَريمٌ جَبّارٌ يَعشق الحياة، لكن الحَياة الكريمة المَجبولة بالعِزّة والكَرامة والإباء، وطُوبى لهم ولشُهدائِهم ولجَرحاهُم ولنِسائِهم الولَّادات، الشَّريفات.. والأيَّام بَيْنَنَا.