المشهد اليمني الاول/ رأي اليوم – عبد الباري عطوان
يُذَكِّرنا العَرض الذي قَدَّمه بنيامين نتنياهو للوَثائِق التي قال أنّها تُثبِت بالدَّليل الدَّامِغ أنّ السُّلطات الإيرانيّة نَقلت برامِج التَّخصيب إلى مَكانٍ سِرِّيٍّ، وأنّها تَملُك نِصف طُن من اليُورانيوم المُخَصَّب بِدَرجاتٍ عالِية، ذَكَّرنا بالعَرض المُماثِل الذي قَدَّمَهُ كولن بأول، وزير الخارِجيّة الأمريكي، أمام مَجلِس الأمن الدَّولي حَول المَعامِل الكِيماويّة والبيولوجيّة العِراقيّة المُتحرِّكة قُبَيل العُدوان الأمريكي الثَّلاثيني على العِراق في آذار (مارس) عام 2003.
كولن باول اعتذَر للعالِم بأسْرِه، واعترف بأنّ تِلك الوَثائِق كانَت مُزَوَّرة، وأنّه تَعرَّض لعَمليّةِ تَضليلٍ من قِبَل وكالة المُخابَرات المَركزيّة الأمريكيّة (سي أي إيه)، واعتَزل السِّياسة بَعدَها، وانزَوى كُلِّيًّا عن الأنظار والأضواء، ولكن بَعد “خراب مالطا”، مِثلما يقول المَثل، فقد أعطَى هذا التزوير أُوكُلَهُ وجَرى احتلال العِراق، وحَل جَيشِها، وتغيير نِظامِها، وقتل أكثر من مِليون عِراقي، بالإضافةِ إلى العَدد نَفسِه استشهدوا تحت الحِصار الذي امتد لأكثر مِن 13 عامًا.
***
كان لافِتًا أنّ نتنياهو كَشَفَ عن هَذهِ الوَثائِق التي قال أنّ عَددها يَزيد عن 55000 وَثيقة سِرِّيَّة جَرى الحُصول عليها بِعَملٍ استخباريٍّ، وستُسَلَّم إلى الوَكالةِ الدَّوليّة للطَّاقةِ الذَّريّة، بعد زِيارة جورج بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي لتَل أبيب، وقَبل 12 يومًا من المَوعِد المُقَرَّر لمُراجَعة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للاتِّفاق النَّووي الإيراني، حيثُ تُؤكِّد مُعظَم التَّسريبات أنّه سَيُقرِّر الانسحابَ مِنه.
القرار بشَن عُدوانٍ إسرائيليٍّ عَربيٍّ على إيران صَدَر، ونُقطَة الصِّفر، أي تَنفيذه اقترَبت، وباتَت وشيكةً، ونحن الآن في انتظار الذَّريعة، وهِي مُماثِلة، بل مُتطابِقة بنَظيرَتها التي وَفَّرت الغِطاء لغَزو العِراق، أي تطوير أسلحة دمارٍ شامِل.
بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي، الذي قامَ بجَولةٍ شرق أوسطيّة بَدأت بالرِّياض مُرورًا بالقُدس المُحتلَّة وانتهت اليوم الإثنين بالعاصِمة الأردنيّة، كان الهَدف مِنها التَّمهيد لهذا العُدوان، وتَوزيع الأدوار وتَحديد المَهام.
الضَّربة الصَّاروخيّة التي شنَّتها دَولة الاحتلال الإسرائيلي فجر اليوم على مواقِع عَسكريّة سُوريّة في ريفيّ حماة وحلب، وأدَّت إلى استشهادِ 26 عَسكريًّا مُعظَمُهُم مِن الإيرانيين، جاءَت في إطارِ “استفزاز” إيران، وحَثِّها على الرَّد، وتَقديم الذَّرائِع لعُدوانٍ إسرائيليٍّ لقَصفِها، سواء على الأراضي السُّوريّة، أو في العُمق الإيراني نَفسِه.
إفيغدور ليبرمان، وزير الحَرب الإسرائيلي، قال في تصريحٍ لصَحيفة “الجيروزاليم بوست” اليوم الإثنين، أنّ إسرائيل لدَيها ثلاث مَشاكِل:
إيران.. ثُمَّ إيران.. ثم إيران التي تُزَعزِع استقرار الشَّرق الأوسط، تَزرع وُكَلاء حول إسرائيل”، وجَدَّد التَّأكيد على “أنّ إسرائيل ستُحافِظ على حُريِّة العَمل في سورية”.
الرِّسالة الإسرائيليّة من وَراء هَذهِ الضَّربات العَسكريّة واضِحة لا تحتاج إلى عَبقريّة لفَك رُموزِها، وهِي أنّها ستَستمِر في هَذهِ الضَّربات حتى تَرُد إيران.
هُناك مَدرَستان في إيران حَول كيفيّة التَّعاطِي مع هذهِ الضَّربات الاستفزازيّة الإيرانيّة:
ـ الأولى: تقول بِضَرورة ضَبط النَّفس لأطوَل مُدَّةٍ مُمكِنة حتّى لا يتم الوُقوع في المِصيَدة الإسرائيليّة، وتَقديم المُبَرِّر والذَّريعة لعُدوانٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ فَرنسيٍّ بِريطانيّ.
ـ الثَّانية: تَعتقِد بحَتميّة الرَّد مُبكِرًا، وتَقليص الخَسائِر، والحِفاظ على الهَيبة الوَطنيّة الإيرانيّة، ولتَكُن حَربًا شامِلة على إسرائيل وكُل من يتحالف مع عُدوانِها مِن العَرب خاصَّةً.
الرَّد الإيراني “المُوجِع” على الغارَة الصَّاروخيّة الإسرائيليّة على قاعِدة “تيفور” السُّوريّة قُرب حمص تأجَّل انتظارًا لانتهاء الانتخابات عالِية الأهميّة في كُل من لبنان والعِراق، ولكن إذا استمرَّت الاعتداءات الإسرائيليّة الاستفزازيّة، وجَرى تَصعيدُها، فإنّ حالة ضَبط النَّفس هذهِ ربّما يَتِم التَّخلِّي عنها.
***
السُّؤال المَطروح هو حول رَد فِعل الحَليف الرُّوسي على هذهِ الاعتداءات، وعَمّا إذا كانت موسكو سَتُزوِّد الحَليفَين الإيراني والسُّوري بالأسلِحة والصَّواريخ القادِرة على التَّصدِّي لها بفاعِليّة؟ ونَحن نَتحدَّث هُنا عن صَواريخِ “إس 300″ و”إس 400”.
لا نَملُك الإجابة، ولكنِّنا لا نَستبعِد أن يأتي الرَّد الأوَّلي مِن جنوب لبنان، ومِن قِبَل “حزب الله” وعبر تَرسانَتِه الصَّاروخيّة المُزدَحِمة بِكُل الأنواع والأبعاد والأحجام.
الشَّهران القادِمان، أي أيّار (مايو) وحزيران (يونيو)، قد يَكونان الأخطَر على المِنطَقة، ففي مُنتَصَف الأوّل سيَنهار الاتّفاق النَّووي الإيراني بالانسحابِ الأمريكي، وفِي الثَّاني قد يَشتَعِل فَتيلُ الحَرب.
عندما استخدم نتنياهو عَرضَهُ “البَهلوانيّ” أو “الكاريكاتوريّ” على مِنصَّة الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) عام 2012 للتَّحريض لضَرب إيران، كان سيّد البيت الأبيض رئيسًا أمريكيًّا عاقِلاً وحَكيمًا اسمه باراك أوباما من الصَّعبِ خِداعه وتَضليله، أمّا الوَضع الآن فمُختَلِف كُلِّيًّا، لأنّ سيّد البيت الأبيض الحَقيقي هو نتنياهو وتِلميذًه المُخلِص جاريد كوشنر، صِهر الرئيس ترامب.
إنّها الحَرب.. وما عَلينا إلا رَبط الأحزِمة، استعدادًا لكُل الاحتمالات.. ونَجزِم بأنّ إسرائيل وحُلفاءِها سيَخرُجون مِنها أكبر الخاسِرين.. أو هكذا نَأمَل.. والأيّام بَيْنَنَا.