المشهد اليمني الأول/
ربما تكون المقارنة بين منطقتي صعدة شمال اليمن، والغوطة الشرقية صادمة، وفي غير محلها، ليس بسبب التباعد الجغرافي فقط، وانما لاختلاف الظروف السياسية أيضا، ولكن تظل هناك قواسم مشتركة عديدة، أبرزها تهديد الصواريخ والقذائف التي تنطلق منهما لزعزعة استقرار العاصمتين: الرياض السعودية، ودمشق السورية.
القيادة السورية، وبدعم من حليفها الروسي اتخذت قرارات حاسما بالقضاء على الجماعات المسلحة في الغوطة بعد قصف جوي وارضي استمر ما يقرب الشهرين، وحققت إنجازا كبيرا في هذا المضمار، وهو تأمين العاصمة دمشق وتحييد منصات القذائف ضدها، لكن وضع نظيرتها السعودية ربما يكون أصعب من ذلك بكثير.
فجر اليوم الاثنين، اطلقت حركة “انصار الله” الحوثية سبعة صواريخ باليستية ثلاثة منها باتجاه الرياض، وآخر بأتجاه مدينة خميس مشيط التي تضم قاعدة عسكرية ضخمة، وثالثا نحو مدينة نجران الجنوبية، واثنين استهدفا مدينة جيزان المحاذية للحدود اليمنية.
اطلاق هذه الصواريخ السبعة جاء في تزامن محسوب بعناية بعد خطاب القاه السيد عبد الملك الحوثي، زعيم الحركة بمناسبة “ثلاثة أعوام من الصمود في مواجهة عدوان التحالف السعودي الاماراتي ودخوله عامه الرابع″، متعهدا بمفاجآت عسكرية جديدة في المستقبل القريب، وعزز هذه الخطوة بالدعوة الى مهرجان سياسي ضخم أقيم في ميدان السبعين وسط العاصمة صنعاء شارك فيه مئات الآلاف من انصار الحركة رفعوا صوره وشعارات تتحدث عن التضحيات في مواجهة العدوان.
الحوثيون وبعد تخلصهم من شريكهم ومنافسهم الشرس الرئيس علي عبد الله صالح قبل ان يفك التحالف معهم، باتوا القوة السياسية والعسكرية الاضخم على الساحة اليمنية، وأكدوا على هذه الحقيقة من خلال الحشود الضخمة التي حشدوها في ميدان السبعين في استعراض للقوة لم يقدم على مثله الا الرئيس صالح في اشهره الأخيرة.
استهداف العاصمة السعودية الرياض بثلاثة صواريخ يعكس خطة استراتيجية محكمة الاعداد لزعزعة امن واستقرار الحكم السعودي، وبث حالة من الرعب والهلع في أوساط مواطنيه الذين عاشوا لأكثر من ثمانين عاما بعيدين عن الحروب كليا، فجميع الحروب التي خاضتها القيادة السعودية منذ توليها الحكم في المملكة كانت حروبا بالإنابة وخارج حدودها، وحرب اليمن الحالية هي الاستثناء الوحيد، والفضل في ذلك يعود الى الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، والتي تتمتع بدقة تصويب عالية.
العواصم غير الأطراف، لأنها تعكس دائما هيبة الدولة، واستقرارها من استقرار الحكم، وهذا ما يدركه الحوثيون والقوى الداعمة لهم داخل اليمن وخارجه، وهذا ما يفسر تكرار استهدافها، أي العاصمة، بالصواريخ بين الحين والآخر، لانها تشكل نقطة ضعف الحكم.
صحيح ان صواريخ “الباتريوت” نجحت، وحسب البيانات الرسمية السعودية في اسقاطها جميعا، ولكن يظل تأثيرها الحقيقي في حالة الرعب والفزع التي احدثتها في أوساط سكان العاصمة، الذين صوروا المعركة بعدسات جوالاتهم وتبادلوها فيما بينهم، او اعادوا نشرها على وسائط التواصل الاجتماعي، وتسببت للمرة الأولى في وقوع خسائر بشرية (قتيل وثلاثة جرحى).
حجم الادانات التي صدرت عن حكومات عربية واجنبية عديدة لهذا القصف الصاروخي يؤشر على خطورة هذه الخطوة، وحجم القلق الذي تسببت فيه، سواء داخل المملكة او جوارها، في ظل الصراع الإقليمي المتأجج بينها، أي المملكة، وايران المتهمة بتزويد حركة “انصار الله” الحوثية بهذه الصواريخ وتكنولوجيا صناعتها وتطويرها، او الاثنين معا.
اذا كانت الحركة الحوثية لم تخرج منتصره من هذه الحرب، فإنها لم تخرج مهزومة أيضا، ولم ترفع الرايات البيضاء استسلاما مثلما ارادت “عاصفة الحزم”، فما زالت تسيطر على العاصمة صنعاء، وتخوض حرب استنزاف ضد خصمها السعودي في المناطق الحدودية بين البلدين، تستنزفه ماديا وبشريا، ويتصاعد دورها كقوة سياسية يمنية كبرى، واخذ هذه النقاط يعين الاعتبار هو اقصر الطرق لخروج لتحالف العربي بزعامة السعودية من هذه المصيدة المحكمة الاغلاق التي وقع فيها، ويمكن القول أيضا ان السعودية ما زالت قوة إقليمية كبرى، تملك ترسانة هائلة من الأسلحة، وخزينة حافلة بمئات المليارات من الدولارات، وقادرة على الاستمرار في الحرب أيضا.
صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية الرصينة نقلت عن مسؤول سعودي كبير قوله ان تكاليف السنوات الثلاث الماضية من عمر الحرب في اليمن وصلت الى 120 مليار دولار، ولكن التكاليف السياسية بالنسبة الى المملكة وقيادتها اضعاف هذا الرقم الذي يعتقد الكثير من الخبراء بأنه اقل بكثير من الرقم الحقيقي.
الحوثيون اطلقوا حتى الآن اكثر من 100 صاروخ باليستي على مدن سعودية كبرى، احتاجت عملية اسقاط كل صاروخ اطلاق من خمسة الى سبعة صواريخ من نوع “باتريوت” قيمة كل واحد منها تتراوح بين خمسة وسبعة ملايين دولار، وبحسبه بسيطة يمكن القول ان مجمل تكاليف هذه العملية وحدها تقترب من 700 مليون دولار.
نحن هنا لا نتحدث عن الطلعات الجوية لطيران عاصفة الحزم على مدى ثلاث سنوات، واعداد الصواريخ والذخائر التي استخدمتها، وجميعها تم شراؤها من دول غربية، وبأثمان باهظة، علاوة على حجم المساعدات المالية التي قدمتها المملكة لحكومة الرئيس هادي “الشرعية”، ودعم عملتها المحلية، وحجم التعويضات وتكاليف عملية إعادة الاعمار لاحقا.
لا احد داخل المملكة يتحدث عن الخيار العسكري كحل للازمة في اليمن، مثلما كان عليه الحال في بداية “العاصفة”، ولكن لا احد يملك خريطة طريق في الوقت نفسه للوصول الى التسوية السياسية التي يمكن ان توقف هذه الحرب، ولا نستبعد ان اطلاق هذا العدد من الصواريخ الباليستية على اربع مدن سعودية كبرى هو تمهيد للتفاوض، ان لم يكن ورقة ضغط للوصول اليه.
القيادة السعودية كانت وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية تقول ان الرياض هي بوابة الحل، بينما يعتقد الحوثيون انها صنعاء، ولهذا لا بد من اقناع الطرفين بالبحث عن منطقة وسط بين الاثنين، مثل الكويت او مسقط، وربما تكون هذه هي المهمة الأبرز لمارتن غريفيث، مندوب الأمم المتحدة البريطاني الجديد الذي حل محل السيد إسماعيل ولد الشيخ، ولعل كونه بريطانيا ابيض اللون زرق العينين، يجعل من فرص نجاحه افضل بسبب “عقدة الخواجة” المتأصلة لدى معظم العرب.
العام الرابع للازمة اليمنية سيكون مختلفا عن كل الأعوام السابقة، ولهذا قد يكون حافلا بالمفاجآت، وابرز عناصر الاختلاف ان “التحالف العربي” الذي يحارب الحوثيين في اليمن ينكمش، وبات يقتصر على دولتين فقط هما السعودية والامارات، وهناك من يتحدث عن خلافات بينهما، وثانيهما ان الازمة الخليجية صبت في خدمة الحوثيين، وكسرت الحصار الإعلامي الخانق عليهم، بخروج قطر من هذا التحالف، وتوظيف امبراطوريتها الإعلامية واذرعها الضاربة في خدمتهم، ومن شاهد تعاطي قناة “الجزيرة” مع الهجمات الصاروخية على الرياض، وفتح شاشتها للسيدين عبد الملك الحوثي، زعيم الحركة، والسيد محمد البخيتي، عضو مكتبها السياسي، يدرك معنى ما نقول.
الحوثيون يقولون: وقف الغارات الجوية مقابل وقف اطلاق الصواريخ على الرياض.. وهذه مقايضة ربما تتصدر مائدة المفاوضات التي باتت وشيكة او حتمية لانهاء هذه الحرب.. والله اعلم.
*عبدالباري عطوان