المشهد اليمني الأول/
جردة حسابات مطوَّلة تأبطها وليّ العهد السعودي خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية، هي حصاد عام كامل، بدأه في السادس عشر من آذار العام الماضي، تاريخ أول لقاء جمعه بالرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، وعلى أثره نال التوكيل لتنفيذ سلة تغييرات سياسية وأمنية واقتصادية في المملكة
هذه الأيام عاد الأمير السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن بوصفه ولياً للعهد، وجردة حساباته تبدأ من المأزق اليمني مع ما يشكله من عبء على الرياض، وتمرّ بالمساعي المستميتة لتمكين مظلة الحماية الأميركية للنظام «السلماني» الجديد، خاصة بعد الزلزال الذي أحدثته واقعة «الريتز كارلتون»، وما رافقها من ارتدادات اقتصادية، وليس انتهاءً بإيران وملفها النووي.
البداية من اليمن، حيث تأتي الزيارة قبيل أيام من اختتام السعودية العام الثالث من الحرب التي بدأتها على هذا البلد الفقير في الخامس والعشرين من آذار عام 2011، إذ لا تزال الرياض تخوض غمار حرب باتت أشبه ما تكون بـ«الميدان/ المأزق»، وبعدما اقتصرت الإنجازات السعودية على بعض التقدم المحدود هنا أو هناك داخل الأراضي اليمنية، اضطر ابن سلمان، وهو وزير الدفاع، إلى تغيير كامل قادة جيشه في الآونة الأخيرة، ولعل الإعلان الذي أطلقه الأمير السعودي خلال زيارته للقاهرة في الخامس من الشهر الحالي عن قرب نهاية الحرب في اليمن، يكاد يكون أقرب إلى الأماني صعبة التحقق، وإشارة استغاثة مبكرة استبق فيها زيارته الأميركية.
ابن سلمان الذي يسعى إلى إخفاء مأزقه اليمني يفضحه الميدان أولاً، فخلال ثلاث سنوات من الحرب، مني «التحالف» بخسائر بشرية ومادية فادحة. وفي ما خصّ السعودية التي تقود هذا «التحالف»، تذكر صحيفة «تايمز» البريطانية أن خسائر الرياض المالية تخطت عتبة الـ180 مليار دولار، تتوزع بين تكاليف اعتراض صواريخ الردع التي تطلقها حركة «أنصار الله» نحو الداخل السعودي، والتي وصلت إلى ضرب العمق في العاصمة الرياض، وبين تكاليف تمويل الجهود العسكرية المستمرة منذ نحو 1092 يوماً. وتشير هذه التقديرات إلى أن الرياض تتعرض لاستنزاف مالي يومي بحدود 200 مليون دولار، أي نحو خمسة مليارات دولار شهرياً، ونحو 60 مليار دولار سنوياً.
فداحة هذه الخسائر شكّلت مأزقاً مالياً كبيراً لوليّ العهد، ومع عجز قواته عن حسم الحرب، اتجه إلى استجداء الولايات المتحدة التدخل لتخليصه من وحول اليمن، التي باتت أشبه ما تكون بـ«حرب فييتنام» للسعودية. وفي هذا، تورد تسريبات رسائل وزير الخارجية الاماراتي يوسف العتيبة مع السفير الأميركي السابق في إسرائيل مارتن إنديك، بتاريخ 20 نيسان 2017، أن ابن سلمان يبحث عن مخرج من تلك الحرب، ويوضح إنديك أن ابن سلمان أفصح عن ذلك خلال لقاء مشترك حضره أيضاً مستشار الأمن القومي الأميركي السابق ستيفن هادلي.
عدول إدارة الرئيس السابق باراك اوباما، المحرجة حينها، عن استمرار الدعم المفتوح للجهود الحربية السعودية في اليمن، كان له تأثير في إضعاف قدرات الرياض العملياتية على الأرض في اليمن، غير أن الإدارة الأميركية الحالية سعت بكل نفوذها إلى تعويض التقصير «الأوبامي»، وفيما كان ترامب يستقبل ابن سلمان في البيت الأبيض الثلاثاء، رفض مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قرار يهدف إلى وقف الدعم الأميركي للسعودية في حربها ضد اليمن، ما عُدَّ واحدة من أولى تجليات زيارة ابن سلمان.
هذا الاستنزاف المالي الذي تشكّله حرب اليمن، يتقاطع بشكل سلبي مع الإصلاحات المزعومة للاقتصاد السعودي، بحيث لم يعد خافياً الآثار السلبية التي أفرزها اعتقال ابن سلمان للأمراء ورجال الاعمال في فندق الـ«ريتز كارلتون» بهدف معلن يتمثل بتحصيل 100 مليار دولار، وهي خطوة جاءت بغطاء من سيد البيت الأبيض بعد مرور ستة أشهر من زيارته المملكة، التي عاد منها بمبلغ وصل إلى 400 مليار دولار، شكَّل ضربة للاقتصاد السعودي، وهو المتأثر أصلاً بانهيار أسعار النفط، والذي على إثره اضطرت الرياض إلى تسييل احتياطاتها النقدية التي سجلت في آب/ أغسطس 2014 مستوىً قياسياً بلغ 737 مليار دولار، ليصل في شباط/ فبراير من العام الحالي إلى نحو 494.5 مليار دولار.
أمام الشرخ العمودي الذي سببه ابن سلمان في جسد العائلة الحاكمة، وبضرب الأسس التي درجت عليها العائلة في تناقل الملك، مع كل ما يعنيه ذلك من هزات ارتدادية قد تنشأ على شكل خطوات انتقامية للأمراء المتضررين، يتابع ابن سلمان دفع جزية الحماية التي يؤمنها له السيد الأبيض، وبالوقاحة نفسها التي رسمت ملامحه منذ أن برزت طموحاته السياسية، استقبل ترامب ابن سلمان بابتسامة التاجر، معلناً بوضوح وصراحة وجوب تلقيه جزءاً يسيراً من ثروات المملكة النفطية، وهو أمر سرعان ما استجاب له الأمير السعودي بتأكيده العمل على «خطة لاستثمار 200 مليار دولار بين الرياض وواشنطن»، على أن توفر العلاقات بين البلدين بحسب ابن سلمان «أكثر من أربعة ملايين فرصة عمل بصورة مباشرة وغير مباشرة في الولايات المتحدة، كما ساهمت في توفير فرص عمل كثيرة في السعودية».
على الرغم من بيان البيت الأبيض وتأكيده أن ترامب وابن سلمان بحثا الوضع الإنساني في اليمن واتفقا على ضرورة التوصل إلى حل سياسي للحرب «في نهاية المطاف لتلبية حاجات الشعب اليمني»، إلا أن كلام وزير الدفاع جيمس ماتيس قبل أيام، ومطالبته الكونغرس بضرورة تجاهل مشروع قرار وقف الدعم العسكري للرياض في حربها ضد اليمن، لما من شأنه أن «يقلل من تأثيرنا على السعوديين»، أمر يكشف الصورة الحقيقية لطبيعة تعاطي الإدارة الأميركية مع «الشريك القديم» (الرياض)، والذي لا ترى فيه إلا «زبوناً ثرياً».
(إبراهيم بنوت – الأخبار)