المشهد اليمني الأول/
محمّد بن سلمان في سعيه إلى تغيير الصورة التي تشكلت عنه، وخصوصاً بعد الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب اليمني واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني في السعودية، فتح صناديق ثروته لتغيير هذا الواقع الصعب، فسارع أتباعه لتوقيع عقود من العيار الثقيل مع شركات إعلامية ومؤسّسات علمية ومراكز أبحاث.
منذ فترة من الزمنِ تنتشر أخبار من داخل العائلة الحاكمة السعودية لعلّها تفضح وتوضح بنفس الوقت عن كيان مغلق ومحافظ ومعقّد للغاية في السلطة الحاكِمة السعودية. وفي الحقيقة ردّة فعل السعوديين تجاه مثل هذه الأخبار المسرَّبة من الأماكن المظلمة في العائلة الحاكمة توضح وتؤكِّد واقعيّة مثل هذه الأخبار.
المراقب للشأن السعودي يستطيع أن يلاحظ بدقّة أن السعوديين في السنوات الأخيرة ولتحسين صورتهم حول العالم وبالأخصّ في العالم الغربي، وظَّفوا العديد من المؤسّسات الإعلامية ومراكز التحقيقات العلمية والأكاديمية والمؤسّسات الإخبارية، ووقّعوا العديد من العقود من الوزن الثقيل وخصّصوا لهذه التعاقدات أموالاً ضخمة، لا تُعدُّ ولا تحصى. لعلّ السائل يسأل ما هي مهمّة هذه المؤسّسات والمراكز؟ والجواب هو بالإضافة إلى الترويج والتسويق المباشر للعائلة الحاكِمة في السعودية ومحاولة تثبيت حكمها، فلهذه المؤسّسات وظيفة أخرى هي تعليم وتثقيف رجال السياسة السعوديين لتسويق أنفسهم. على سبيل المِثال تعليمهم كيفيّة التعامل وردّة الفعل السريعة تجاه الأخبار الكاذبة أو تلك الأخبار التي لا ينبغي أن تكون صادِقة.
ولكن يبدو أن هذه المؤسّسات لم تعلّمهم كيفية التصرّف إذا ما تمّ تسريب غير متوقّع وقوّي ومفاجئ من داخل إطار العائلة. في مثل هذه الحال كيف يجب أن يتصرّف السعوديون؟ لم يعلّموهم أنه لا يجب أن يقفوا مدهوشين أمام هذا التسريب أو ذاك، أو كحدٍ أقل كيفية المُراوَغة حتى لا يستطيع المراسلون والإخباريون كشف هذا التوتّر وعدم القدرة على التصرّف.
وهذا الدرس كان يجب على السعوديين تعلّمه قبل كل الدروس السابقة التي ذكرناها آنفاً. لأنهم دخلوا في مرحلة جديدة من تسريب الأخبار بشكل يومي. هذه الأخبار المعقَّدة والمرتبطة بالحلقة الأصغر من العائلة الحاكمة.
واحد من هذه الأخبار التي لاقت انتشاراً واسعاً هو توبيخ وليّ العهد السعودي لكلٍ من عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، وسفير الرياض في واشنطن، لعدم قدرتهم على احتواء الانتقادات اللاذعة التي تتعرّض لها العائلة المالكة من قبل وسائل الإعلام البريطانية.
إلى الآن لا يوجد ما هو جديد بهذا الخبر نظراً لأن هذه الحال تكرّرت في الآونة الأخيرة حيث يتعرّض عادل الجبير لتوبيخ مستمر من قبل وليّ العهد السعودي. ولكن الشيء المهم للغاية في هذا الخبر والذي جعل السعوديين ومن خلفهم الأصدقاء الإماراتيين عاجزين ومشلولي الحركة، هو ما نقله الإماراتيون أنفسهم عن حادثة توبيخ عادل الجبير. حيث إن ابن سلمان قال إن وليّ العهد الإماراتي محمّد بن زايد قال له: لقد أرسلت رسائل متعدّدة تتضّمن انتقادات وسائل الإعلام البريطانية لتيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا ما دفعَ الأخيرة لتقديم اعتذار خطّي وشفهي عن هذه الانتقادات.
محمّد بن سلمان ومع ذِكر هذه الحادثة لكل من عادل الجبير ومحمّد بن نواف بن عبد العزيز سفير السعودية في لندن، طلب منهما أن يتخليا عن سياسة دفع الأموال الطائلة لمدراء التحرير في الصحف المشهورة والكتّاب والإعلاميين ويتّبعوا سياسة إجبار هؤلاء على الحيلولة دون نشر مثل هذه الانتقادات لا مجرّد محاولة تلافي نتائجها. هذا الخبر الذي تم تسريبه حيرّ السعوديين ومن خلفهم عرّاب محمّد بن سلمان، “محمّد بن زايد” ودفعهم نحو اختيار الصمت المطلق.
والأكثر إثارة للاهتمام من هذا وذاك، هو الصمت المطلَق القادم من البيت ذي الرقم 10 في شارع “داوننغ ستريت”. والذي كان صمت تيريزا ماي حول الإدّعاء بتقديم الاعتذار لوليّ عهد أبو ظبي له معنى أكبر من صمت كل من رأسيّ المثلّث الأخريين.
وحول كيفية ومنبع تسريب الأخبار حول العائلة المالكة السعودية فيما يبدو أنه منبع واضح للعيان؛ الأمراء المعتقلون والذين تم تعذيبهم من قِبَل وليّ العهد السعودي. هذا الاعتقال الفريد من نوعه من قبل المستبدّ محمّد بن سلمان ضد الأمراء السعوديين والذي يتم الآن تسريب وقائعه تدريجياً لوسائل الإعلام.
من جهة أخرى، أقام الملياردير ورجل الأعمال السعودي الذي يتملك الجنسية الأميركية أحمد العسراوي، أخطر وأكبر دعوى ضد وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان أمام المحكمة الاتحادية كونه مواطناً أميركياً تم توقيفه في السعودية وتعذيبه وضربه واحتجاز حريته من دون أية تهمة. وطالب المحكمة باعتقاله فور دخوله الأراضي الأميركية.
إفشاء وتسريب الأخبار السرّية للغاية المتعلّقة بالعائلة المالِكة ومستبدّها بن سلمان وديوانه الملكي هو نوع آخر من الوسائل التي يستخدمها الأمراء “المجروحون”، ضد محمّد بن سلمان.
هؤلاء الأمراء الذين قام وليّ العهد الشاب محمّد بن سلمان باعتقالهم وتعذيبهم وسلبهم مئات المليارات بحجّة مكافحة الفساد. لينتظر باقي الأمراء في صف الاعتقال أو يقوموا بدفع جزية استباقية.
ولكن لم ينتبه محمّد بن سلمان أن هؤلاء الأمراء ليسوا مثل الشعب السعودي المظلوم والذي يتعرّض لظلم العائلة الحاكمة بكل أنواع الظلم والشتم. لم ينتبه إلى أن هؤلاء الأمراء هم من عشائر وقبائل لها سلطة ونفوذ واسعان داخل دائرة الحكم في السعودية.
مؤخراً واحدٌ من هؤلاء الأمراء الذي يستقرّ في إحدى الدول الغربية أعلن أن عدداً من الأمراء المعتقلين السابقين قرّروا تسريب معلومات خطيرة ضد محمّد بن سلمان والدائرة المحيطة به.
ولعلّ أول ما قام بتسريبه هذا الأمير يتركّز حول سفر محمّد بن سلمان إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وفي ما أورده:
1) ستكون هذه الجولة هي الجولة الأخيرة لعادل الجبير بوصفه وزيراً لخارجية المملكة نظراً إلى استياء محمّد بن سلمان من طريقة عمل الجبير والذي سيتم عزله مباشرة بعد العودة إلى الديار.
2) إن الأهداف الأساسية من وراء هذه الجولة هي:
أ) طلب حمايته، بعدما ازداد قلق محمّد بن سلمان من الأمراء المُعتقلين واجتماعهم عليه.
ب) طلب تسهيل نقل السلطة من الملك سلمان إلى وليّ العهد السعودي واحتواء النتائج المُرتَقبة من نقل هذه السلطة من قِبَل بريطانيا وأميركا.
ج) مساعدة بريطانيا وأميركا لوليّ العهد للخروج من مأزق اليمن وحفظ ماء وجهه من مستنقع اليمن الذي خاض فيه لسنوات. محمّد بن سلمان الذي يعتقد أن الخروج من حرب اليمن من دون نتيجة يعني أنه تعرّض لأكبر خسارة وأكبر تكلفة لمشروع فاشِل منذ تولّيه.
د) السعي لتلميع صورة السعودية في المجتمعات الغربية. حيث تشير مؤسّسات استطلاعات الرأي حول العالم إلى أن الصورة العامة للحكومة السعودية وأركانها في المجتمعات الغربية هي صورة سلبية للغاية وهي مصدر مُغذٍ للإرهاب وبخاصة “داعش”. محمّد بن سلمان يذوق الأمرّين من هذا الموضوع وهو ما يُعتقد أنه سبب عدم ارتياحه من وجود عادل الجبير ووزير إعلام المملكة عواد بن صالح العواد.
محمّد بن سلمان في سعيه إلى تغيير هذه الصورة، وخصوصاً بعد الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب اليمني واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني في السعودية، فتح صناديق ثروته لتغيير هذا الواقع الصعب، فسارع أتباعه لتوقيع عقود من العيار الثقيل مع شركات إعلامية ومؤسّسات علمية ومراكز أبحاث. بالإضافة إلى ذلك فقد قام المسؤولون السعوديون منذ العام الماضي إلى الآن بالتواصل بشكل مباشر مع 65 صحافياً ومدراء تحرير ومواقع الكترونية وكتّاب وأساتذة جامعات معروفين أوروبيين وأميركيين وبرلمانيين لهم سلطة واسعة، فقدّموا لهم الهدايا والمبالغ الضخمة لتلميع صورة المملكة واستخدام كافة الوسائل “حتى طلابهم” في الدفاع عن المملكة.
لقد وعد هذا الأمير – الذي سرّب كل هذه المعلومات – بنشر أسماء هؤلاء الأفراد مع أسماء المؤسّسات التي ذكرناها آنفاً. والأيام ستكشف المزيد.
بقلم/ محمود البازي