المشهد اليمني الأول/ الوقت
على الرغم من عزوف الصوفيين في اليمن عن المشاركة المباشرة في العمل السياسي والحزبي، بوصفهم يمثلون ـ كما يقدمون أنفسهم ـ منهجاً وسطياً معتدلاً يركز جهوده على النشاط الدعوي والتعليمي، إلا أن منهجهم هذا بات مطلباً ملحاً في الوسط اليمني بعد أن أصبحت ورقة الدين معضلة الكثيرين بما يترتب عليها من سياسة الإلغاء والإقصاء والتخوين والتكفير، فبعد اجتماع الرئيس صالح الصماد بعلماء الصوفية في اليمن قبل أيام من أجل توحيد الخطاب الديني، والتفرغ لمواجهة العدوان، جاء الردّ سريعاً من خلال اغتيال أكبر علماء الصوفية في حضرموت عيدروس بن سميط.
إرهاب متسلسل
لم تكن حادثة اغتيال العلامة عيدروس بن عبدالله بن سميط إمام مسجد المحضار في مدينة تريم فصلاً جديداً من استهداف رموز الدين الصوفيين، بل هي حلقة متصلة من سلسلة حلقات الاعتداءات الإرهابية التي تتعرض لها جماعة الصوفية في حضرموت ومناطق جنوب اليمن، ففي وقت سابق هدمت قوى التطرف والإرهاب عشرات الأضرحة والقباب لكبار مشايخ الصوفية في مدينة المكلا وعدد من مناطق ساحل حضرموت، إلا أن الصوفيين لم تزد ردة فعلهم أكثر من بيانات إدانة وتنديد تجاه هذا التصعيد الذي تُبيّن مجريات الأحداث أنه آخذ في الاستمرار والتصاعد بعد أن وصل إلى استحلال حرمة النفس التي حرّم الله وتصفية شيخ طاعن في السن وهو مقبل على الله فوق سجادة الصلاة.
الوجود الصوفي في اليمن
يتركز حضور الصوفية في مناطق مختلفة من اليمن، باستثناء شمال الشمال، وتنتشر مراكزها العلمية وأربطتها في محافظة حضرموت، وفي تهامة ومحافظة عدن، وبعض المناطق الوسطى في محافظتي إب وتعز والبيضاء، ولعل مدينة تريم تعدّ أهم المدن عند الصوفية وأكثرها نشاطاً علمياً، وتتركز مجمل أنشطة الصوفية في اليمن حول الاهتمام بالعلوم الدينية واللغوية والاعتناء بالنفس وتزكيتها والسلوك العبادي، وإقامة الفعاليات الدينية، والسير على منهج علمائها الأوائل، وهي تحظى بقبول اجتماعي واسع في الأوساط الاجتماعية التي توجد فيها مراكزها الدينية وأربطتها العلمية.
تفريخ الصوفية
انقسمت الصوفية في جنوب اليمن إلى قسمين: قسم نأى بنفسه عن الصراع السياسي والإيديولوجي، واكتفى بالتصوف والتنسك الديني بعيداً عمّا يدور في المحيط المحلي والإقليمي، إلا أن هذا القسم أعلن موقفه صراحة من الحرب الحالية على البلاد، واعتبرها فتنة لا يجوز الانخراط فيها، ويعدّ عمر بن حفيظ أحد أهم هذه الرموز. وفيما يتعلق بانفصال جنوب اليمن عن شماله، يرفض هذا القسم هذا الإجراء جملة وتفصيلاً، ويقف حجر عثرة أمام سلطة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً. ومن هذه الزاوية نستطيع التكهن بمن يقف وراء اغتيال مثل هذه الرموز الدينية والتي كان آخرها عيدروس بن سميط. أما القسم الثاني فهو جماعة مؤدلجة ولدت لتدخل معترك الحياة السياسية من بوابة التأثير الديني، وتم تصدير هذه الجماعة فكرياً من دولة الإمارات، وهدفها الحد من التمدد الوهابي فكرياً في محافظات ومدن الجنوب، ويعدّ الحبيب الجفري من أهم رموز هذا التيار الصوفي.
استغلال النظام السابق
استطاع النظام السابق أن يستقطب القسم الأول في شغل الخطاب الديني في اليمن في القنوات الرسمية والمنابر العامة، فعملت رموز هذا القسم على مساندة حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي عمل على تمكين بعض علمائها من العمل في مناصب حكومية في بعض الوزارات كالأوقاف والعدل والجهاز القضائي، كما أتاح لهم قنوات الإعلام الرسمية، لعرض أنشطتهم والتعريف بمراكزهم العلمية وتسجيل حلقات دينية لكثير من علماء الصوفية وبثّها على الشعب اليمني، واستضافة علمائهم في الجامعات الحكومية لإلقاء محاضرات عامة؛ سعياً منه ليكون الخطاب الصوفي هو المسيطر في المجتمع اليمني، في مقابل تضييق مساحة الخطاب الديني لعلماء حزب “الإصلاح” الإخوان المسلمين في اليمن من جهة، وعلماء الفكر الزيدي من جهة أخرى.
الاستغلال الإماراتي
وإذا كان النظام السابق قد استغل القسم الصوفي الأول، فإن الإمارات العربية المتحدة قد استغلت القسم الصوفي الآخر عن طريق محور اعتدال يضم جماعات مختلفة في الوطن العربي. وعلى الرغم من تأسيس هذا المحور في وقت سابق، فإنه لا يخرج عن إطار التحالف، إذ وظفته الإمارات وجعلته يعمل في إطار المؤسسات الإماراتية، كأداة سياسية. ومؤخراً رصد بعض المتابعين سعي الإمارات إلى استغلال حادثة اغتيال عيدروس بن سميط بإطلاق حملة تطالب بتسليم وادي حضرموت الجزء الذي تقع فيه تريم من قوات الجيش اليمني التي تتألف من جنوبيين وشماليين إلى قوات “النخبة الحضرمية” التي تصنف كقوة موالية للإمارات تتولى السيطرة على الجزء الساحلي من حضرموت بما فيها مدينة المكلا مركز المحافظة، فيما تتحرك على الطرف الآخر أدوات الإرهاب التي فرخها الفكر الوهابي السعودي من متطرفي السلفيين وتنظيم القاعدة وداعش في محاربة الصوفية في جنوب اليمن من خلال فتاوى التبديع والتفسيق وصولاً إلى استهداف علمائها وتفجير أضرحة رموزها الدينية، وبين الاستقطاب الإماراتي والتطرف السعودي تعيش صوفية اليمن في حضرموت ومناطق الجنوب واقعاً مأساوياً يتجاذبه الاستغلال السياسي والتطرف الإرهابي.
دور الصوفية في الصراع الحالي
بعد أن انخرطت كل المكونات الصوفية في الشمال في حراك مباشر ضد العدوان، وتلاحمت مع كل القوى الوطنية المناهضة للعدوان، وعلى رأسها أنصار الله في صد العدوان، تجد اليوم صوفية الجنوب نفسها مرغمة على الانخراط في نفس الحراك، فهي تدرك أن العدوان الإماراتي لن يدعها وشأنها، فهي بين الاستهداف المباشر لرموزها، وبين إفساحها المجال لتمكين رموز الجماعات التكفيرية لتحل محلها، والتي بدورها ستقوم بتصفيتها في وقت لاحق نظراً لصدامها العقائدي، ومع هذه التصفيات يظهر الشق الأول من المؤامرة التي تستهدف اليمن بكل محافظاتها ومدنها، أما الشق الآخر فيعتمد على تمكين القاعدة وداعش كورقة لنشر الفوضى، ثم يأتي العدوان للتوغل في هذه المناطق تحت ذريعة محاربة تلك الأدوات كما جرى ويجري في حضرموت وشبوة. وتأتي حادثة اغتيال عيدروس بن سميط كرسالة تعمّد العدوان السعودي الأمريكي عبر أدواته المتمثلة بداعش والقاعدة، إيصالها لكل الصوفيين، عقب لقائهم الأسبوع الماضي برئيس المجلس السياسي صالح الصماد وتأكيدهم رفض العدوان السعودي الأمريكي على اليمن. وهو ما سيزيدهم عزيمة وإصراراً على اختيار هذا النهج ومواصلته، خصوصاً وهم يرون كيف فشل العدوان في استهداف علماء الصوفية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش واللجان الشعبية، وسيسعون بكل تأكيد لتجسيد ثقافة رفض العدوان وكشف أهدافه وبعثرة أوراقه مهما كلفهم ذلك من ثمن.