المشهد اليمني الأول/
يُمارس ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سياسات مجنونة لا تشي بأي احتراف، زاجّاً بلاده في أتون محارق هائلة، بصراعه مع ستة بلدان حدودية: العراق الذي دعم فيه الإرهاب والفتن المذهبية والعرقية واليمن الذي يجتاحه فاتكاً بعشرات الآلاف من إبنائه.
أما قطر فيحاصرها مانعاً عنها حتى الهواء، والأردن الذي يحاول الاتقاء من الجنون السعودي بعلاقاته الغربية والإسرائيلية، يمكن إضافة الكويت وعُمان اللتين تتحفظان في العلاقة مع إبن سلمان فتمثلان دور المؤيد حيناً والمحتمي بالله والأميركيين حيناً آخر.
سورية بدورها لم تنجُ من جنونه الذي تجسَّد بدعم غير مسبوق لكل أنواع الإرهاب بالمال والسلاح والسياسة، إنما من دون نتيجة لأن الدولة السورية تعاود يوم تحرير كامل أراضيها على جثث الإرهاب وداعميه.
هناك جزء آخر من سياسات إبن سلمان الطائفية لا يقل ضراوة وتعسفاً. فتراه يحارب الإخوان المسلمين في مصر ويتحالف معهم في اليمن حزب الإصلاح وليبيا. ويقبل بقتل الأتراك للسوريين، لكنه يرفض أي دور سياسي لهم خارج زعامته. يؤيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لكنه يمنع مصر من إعادة تكوين دورها العربي والإقليمي بأسلوبين: التقنين المالي، وإهانتها بالإصرار على فبركة أدلة تشير إلى سعودية جزيرتي صنافير وتيران المصريتين منذ آلاف السنين، لا سيما أنه يُعدُّ لهما مستقبلاً سياحياً بالتعاون مع «إسرائيل» التي أصبحت حليفته وبالتالي شريكته في الاستثمار في هذه المنطقة «المقدسة» التي قد تعجّ بأندية الليل والحانات.
ولم ينسَ إبن سلمان جارته قطر، فحاصرها إلى حدود منع الهواء عنها، لأن حكامها تجرأوا على التصرف باستقلالية. فبدلاً من اعتمادهم خط قطر ـ السعودية ـ أميركا ـ «إسرائيل». ابتدأوا بالمقلوب مهرولين على خط قطر ـ أميركا ـ «إسرائيل» ولم يصلوا إلى الرياض بعد.
فأصيب الولي بجنون، لا سيما أن آل «خليفة قطر» يمتلكون غازاً يضعهم في المرتبة الثالثة عالمياً في إنتاجه… لكن يبدو أن إبن سلمان حظي بتغطية من حليفه و«شبيهه» ترامب، لحصار قطر التي يوجد فيها أيضاً أكبر قاعدة أميركية برية في العالم العُديد . ما فتح مجنون البيت الأبيض فرصة لاستنزاف كامل أعضاء بلدان شبه جزيرة العرب وجوارها بصفقات بيع أسلحة هائلة. هذا الجنون لم يوفر علاقات الرياض بكل من تونس والجزائر والمغرب والسودان… فبدا أنه يريد دولاً على طريقة «المطاوعة» في الولاء. وهذه الدول تريد شيئاً من الاحترام، أثار له إشكالات مع كل بلدان العالم باستثناء لبنان بلد الأرز الذي يقدم له فروض الطاعة مهما وجّه إليه من إهانات.
ما يمكن استنتاجه هنا، يتعلق بتدهور مكانة السعودية عربياً وإسلامياً ودولياً فلم يعد بإمكانها جذب الدول بطرفة عين متقاطعة مع رش ملايين الدولارات.
ولم تعد قادرة على التباهي بوصايتها على الحرمين الشريفين، لأن الجميع يعرف أن وجودهما يسبق تأسيس السعودية بأكثر من ألف عام ونيف… والجميع يعلم أن هناك مطالبات بسحب رعاية آل سعود للحرمين، وذلك لسوء أداء إدارة مسيرات الحجيج وتسييس الموسم. وهذا يؤدي دائماً إلى مقتل المئات بالتدافع والتزاحم حتى أن رافعة ضخمة سقطت نتيجة الإهمال على زوار المدينة وأوقعت مئات القتلى… هذا بالإضافة إلى أن الدين الحنيف يمنع الاستغلال السياسي للحرمين ويحذر من تحويلهما وسيلتين لتوسيع النفوذ السعودي عبر طريقة منح وتقديم موافقات أكبر وأكثر عدداً لحجيج كل دولة تؤيد السياسات السعودية. وهذا يعني تسييس الحج وجعله أداة في خدمة توسيع النفوذ السعودي في العالم الإسلامي.
يمكن هنا إضافة ملاحظة بسيطة وهي أن الرياض لم تعد قادرة على دفع رشى بملايين الدولارات لدول كثيرة في العالم الإسلامي وذلك بسبب انخفاض أسعار النفط… ما يجعل آل سعود مجرّدين من الأهمية المالية التي يستعملونها لجذب الدول، مع تراجع تأثيرهم في مسألة موسمي الحج والزيارة.
دولياً، ترتبط أهمية السعودية بإنتاج النفط وعقد الصفقات الدولية لكسب حماية حلف الناتو وواشنطن، لكنها وسعت بعد استشعارها بتراجع الاهتمام الأميركي بها، علاقاتها، بمحورين هامين: روسيا و«إسرائيل»، فاستعملت الأولى لخلق إجماع في مجلس الأمن حول حرب الإبادة التي تشنها ضد اليمنيين.
عقدت معها بالمقابل سياسة استقرار في أسواق الطاقة إلى جانب عقد صفقات اقتصادية وأخرى قيد الإعداد لشراء منظومات دفاع جوي ومفاعلات نووية لإنتاج الطاقة.
أما «إسرائيل» فلها قصب السبق… لأن محمد بن سلمان اعتبرها البديل المناسب للغياب النسبي الأميركي والمقبول أيضاً، من واشنطن… لذلك انقلب على علاقات أسلافه «العبرية» معها متبنياً السياسات الأميركية الجديدة الرامية إلى القضاء على قضية فلسطين، ناسجاً علاقات عسكرية وأمنية مع الكيان، مرجئاً الإعلان السياسي الدبلوماسي إلى مرحلة انهيار سورية والعراق وسقوط اليمن بين يديه.
هنا تكشفت له مأساة بلاده الناتجة من سياساته المتهوّرة اليمن صمد، وسورية شبه منتصرة على المشروع الأميركي، والعراق أباد الإرهاب على أرضه ويتحضر لمرحلة أداء دور إقليمي بعد تمرير الانتخابات الداخلية في أيار التي تُعتبر الأداة لإنتاج نظام سياسي للعراق كله، يمكنه من العودة إلى المسرح العربي والإقليمي. هذا ما دفع إبن سلمان إلى محاولات التعويض بثلاث وسائل: تصعيد التوتر مع إيران، والعودة إلى الإمساك بلبنان إلى حدود خنقه وتفجيره، والتلاعب بموضوع الغوطة الشرقية.
فالموضوع الإيراني أصبح لازمة على ألسنة آل سعود وصغيرهم الجبير، لا يهجسون إلا بالخطر الإيراني وأدواته في المنطقة، والطريف أن رئيس الأركان السعودي الذي أقيل مؤخراً، اعترف بأن خطوة نقل السلاح بين طهران وصنعاء مقطوعة تماماً، أي أن اليمنيين يحاربون بمخزونات قديمة، يمتلكونها، ما يسقط فرضية الدعم الإيراني للحوثيين الذي تستند إليه الرياض ومجموعات الناتو و«إسرائيل».
لكنه يتعرّض اليوم لإصرار إسرائيلي على ضرورة تحويل علاقات السعودية السرية مع تل أبيب علاقات سياسية علنية تستند إلى اعتراف دبلوماسي متكامل بين البلدين، يسمح للكيان الإسرائيلي بدعم السعودية في اليمن ولبنان وأي مكان آخر.
لعل هذا الطموح السعودي ـ الإسرائيلي يحمي آل سعود في مملكتهم كما يتوهّم ولي العهد. وهذا دونه، القضاء على القضية الفلسطينية وإيران وحلفائها في لبنان واليمن واستنزاف سورية والعراق.
فهل هذا ممكن، كما استدعاء رئيس حكومة لبنان في النهار وهرولته ليلاً إلى الرياض يؤشر إلى تطوير سياسة سعودية بالضغط على لبنان من خلال الانتخابات النيابية المرتقبة في أيار المقبل، وركيزة هذه السياسة هي استعمال النفوذين الأميركي والفرنسي لإعادة تجميع قوى معادية لحزب الله بالاستناد إلى دعم مالي سعودي مفتوح؟ وهذا يؤدي كما يطمح المخططون إلى النجاح في الانتخابات وطرح سلاح حزب الله على أساس انه غير شرعي ينتقص من السيادة اللبنانية، ما يؤدي إلى توتير الأوضاع الداخلية وقد ينقل الصراع إلى الشارع كما تشتهي الرياض، مؤدياً إلى عرقلة الدور الإقليمي المقاوم لحزب الله وتقليص النفوذ الإيراني وتلبية الشروط الإسرائيلية للعلاقات السياسية الكاملة مع العرب.
هذا جزء من جنون إبن سلمان الذي يجهل أن حزب الله قوي في لبنان بعلاقاته المباشرة مع جمهوره وليس بعديد المقاعد النيابية… وحزب الله الذي انتصر على «إسرائيل» لن تؤثر عليه ألاعيب ولي عهد غير مجرّب، يحتمي بالمال فقط.
بالإضافة إلى أن إيران نجحت بالصمود في وجه حصار غربي وإسرائيلي وخليجي منذ 1980، وتمكنت من إنتاج ما يقيها من الجوع ويجعل منها دولة صناعية. وهذا يعني أن هلوسات إبن سلمان لن تصيبها بسوء وضرر.
ومع علاقات متوترة للسعودية مع كل هذه البلدان، يجوز التساؤل عن مدى قدرة السعودية على مقاومة التحلل والانفجار الداخلي، خصوصاً مع تراجع أسعار النفط وبداية عصر الغاز.
فهل يكون سلمان آخر ملك للسعودية؟
تدفع هلوسات ولي العهد إلى الاعتقاد بأن تفكك السعودية لم يعد بعيداً تحت وطأة سياسات بلد يتوهم أن باستطاعته السيطرة على لبنان بسعد الحريري وسمير جعجع والريفي وسعيد وغيرهم، وتدمير إيران بخطب إبن الجبير و«إسرائيل» وأدعية الإرهاب؟
بقلم/ د.وفيق إبراهيم