المشهد اليمني الأول/
نشرت مجلة “ذا ديبلومات” تقريرا مطولا تسلط فيه الضوء على تغير البيئة الاستراتيجية وموازين القوى في المحيط الهندي، مضيفة أن المنطقة شهدت في السنوات القليلة الماضية، تنافسا استراتيجيا متناميا بين القوى الكبرى مثل الصين والهند، والآن تشهد أيضا صعود لاعبين جدد يتنافسون على بناء مناطق نفوذ في المحيط الهندي.
وذكر التقرير الذي أعده المحلل الاستراتيجي البارز لدى الجامعة الوطنية الأسترالية، ديفيد بروستر، إن هذه التطورات تنبئ ببداية نظام استراتيجي جديد لمنطقة المحيط الهندي، متعددة الأقطاب، حيث يتصارع فيها من أجل النفوذ عدد من القوى سواء الكبرى أو المتوسطة، ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر قوة عسكرية هناك، فإنها ستحتاج بصورة متزايدة إلى التعامل مع بيئة أكثر تعقيدا لن يكون لها فيها دائما الدور القيادي.
الوجود الصيني
وأشار التقرير إلى أنه ليس من المستغرب أن أكبر تغير في البيئة الاستراتيجية الإقليمية يحدث بواسطة الصين، حيث تم استبعاد الصين منذ فترة طويلة من المحيط الهندي بسبب طغيان عامل الجغرافيا، خاصة أن وصول الصين البحري إلى المحيط الهندي، بعيدا عن سهولة الوصول البري، طويل وغير مؤكد، لكن نظرا لمستوى اعتماد بكين على النفط الأجنبي والمصالح السياسية الأخرى في المنطقة، اعتبرت أنه من المحتم عليها إيلاء اهتمام أكبر للمحيط الهندي على المدى الطويل.
ومن المحتمل أن تبني الصين قواعد عسكرية صينية أخرى في شرق إفريقيا وربما في شرق المحيط الهندي، وستساعد شبكة القواعد على تعظيم خيارات الصين في الاستجابة لحالات الطوارئ التي قد تؤثر على مصالحها، بما فيها دعم عمليات مكافحة القرصنة وحماية المواطنين والممتلكات الصينية، لتكون جاهزة للاستفادة من الفرص الاستراتيجية لملأ أي فراغ قد يحدث لتحدي الهيمنة الأمريكية في المحيط الهندي.
طموحات الهند
وتشعر الهند بالقلق بشكل خاص إزاء الوجود الصيني المتنامي في المنطقة وتستجيب له ببناء قواعد تشغيلية أو مرافق إطلاق في جزر أندامان ونيكوبار المملوكة للهند بالقرب من مضيق ملقا وكذلك في الدول الجزرية مثل سيشيل وموريشيوس.
ومن المحتمل أن يؤدي الانتهاء من اتفاق لتبادل الخدمات اللوجستية بين الهند وفرنسا أيضا إلى فتح مرافق فرنسية في غرب المحيط الهندي لكي تستخدمها الهند (مثل جزيرة لا ريونيون الفرنسية الواقعة في المحيط الهندي).
وآخر تطورات التحركات الهندية من أجل النفوذ في المحيط الهندي؛ صفقة بين الهند وسلطنة عمان، التي بموجبها سيكون لدى البحرية الهندية إمكانية الوصول إلى ميناء الدقم في عمان للخدمات اللوجستية والصيانة.
ودفعت تحركات الصين واستجابات الولايات المتحدة والهند، بعض المحللين إلى القلق بشأن “حرب باردة جديدة” تختمر في المحيط الهندي، ورغم أن إدارة دونالد ترامب أعلنت مؤخرا عن “استراتيجية حرة ومفتوحة للهندي والهادئ”، لكن ليس واضحا ما يعنيه الأمر عمليا للمحيط الهندي، ولا توجد أدلة كثيرة حتى الآن، تشير إلى أن الولايات المتحدة تلعب دورا مهما في مواجهة النفوذ الذي تشتريه بكين بمبادرة “الحزام والطريق”.
لاعبون جدد
وأكد تقرير مجلة “ذا ديبلومات”، أن الصين ليست العامل الجديد الوحيد في المحيط الهندي، بل ظهر العديد من اللاعبين “غير التقليديين”، يعملون بنشاط في المنطقة، ما يجعل البيئة الأمنية الإقليمية أكثر تعقيدا عما كانت عليه في الماضي.
وتشمل القوى الإقليمية دولا مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران، وكانت تلك البلدان مشغولة في السابق بمشاكل داخلية أو محلية، لكنها تلعب الآن، لأسباب عديدة، دورا أكثر نشاطا في شؤون المحيط الهندي، ومن المرجح أن تؤدي دورا أكبر في المستقبل.
ونشهد حاليا، سباقا من قبل لاعبين جدد مثل السعودية والإمارات وتركيا لبناء قواعد بحرية وعسكرية في جميع أنحاء القرن الإفريقي، وأنجزت الرياض مؤخرا، اتفاقا لإنشاء قاعدة بحرية في جيبوتي، كما بنت حليفتها الإمارات منشآت بحرية وجوية رئيسية في ميناء عصب بدولة إريتريا القريبة، وتدير مركزا للتدريب في مقديشو بالصومال.
من جانبها، وقعت تركيا مؤخرا على اتفاق دفاعي مع السودان تعيد بموجبه أنقرة بناء جزيرة سواكن التاريخية الاستراتيجية الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر شرق السودان، بالإضافة إلى الأصول العسكرية التركية القائمة في قطر؛ حيث يتمركز حاليا حوالي 3 آلاف جندي، وفي مقديشو أيضا.
وأوضح التقرير أن الحتمية المباشرة وراء التحركات في منطقة القرن الإفريقي، التنافس بين كتلتين جديدتين من الشرق الأوسط؛ هما السعودية والإمارات ومصر من جهة، وتركيا وإيران وقطر من جهة أخرى، ويبرز الصراع على النفوذ البحري بين الكتل المتنافسة في اليمن، حيث مضيق باب المندب، الممر المائي الذي يصل البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب.
ويزداد التنافس أيضا في المحيط الهندي، وشاركت السعودية في دبلوماسية دفتر شيكات نشطة مع جزر القمر والمالديف الصغيرة المسلمة، في محاولة للتغلب على منافستها الإقليمية إيران، وقطعت هاتان الدولتان علاقاتهما الدبلوماسية مع إيران وقطر ووقعتا على التحالف السعودي الإسلامي العسكري ضد الإرهاب.
ورغم أن كثيرين يعتبرونه غير مرجح، فإن احتمال وجود قاعدة بحرية سعودية في المالديف من شأنه زيادة الضغط على إيران، كما أن علاقة السعودية الوثيقة مع المالديف تشكل أيضا مصدر قلق متزايد للهند.
وتفرد دولة الإمارات، الحليف السعودي المقرب، أيضا جناحيها؛ حيث قدمت منذ فترة طويلة، الدعم المالي والسياسي للدول الصغيرة في المحيط الهندي، بما فيها تقديم مساعدة دفاعية كبيرة لجزيرة سيشيل، كما تلعب الآن دورا سياسيا أوسع في المحيط الهندي، بما فيها تولي رئيس رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي “أيورا”.
ومن ناحية أخرى، ستتولى إيران رئاسة الندوة البحرية للمحيط الهندي، المعروفة باسم إيونز، هي سلسلة من الاجتماعات تعقد كل سنتين بين الدول الساحلية في منطقة المحيط الهندي لزيادة التعاون الأمني البحري.
ولكي لا يتفوقون عليها، تعيد تركيا أيضا بناء دور في المحيط الهندي انطلاقا من الحنين لأمجاد الإمبراطورية العثمانية، وشاركت البحرية التركية في السنوات الأخيرة بشكل نشط في عمليات مكافحة القرصنة في المحيط الهندي، كما أن تطوير قاعدة بحرية تركية في جزيرة سواكن السودانية المطلة على البحر الأحمر سيوسع بشكل كبير من الوجود الإقليمي للبحرية التركية، بل ويمكن أن يثير سباقا طفيفا بين تركيا ومنافسيها مثل مصر والسعودية للهيمنة على البحر الأحمر.
ووفقا للتقرير، فإن هذه التنافسات التي تظهر في المحيط الهندي، إلى حد كبير، مدفوعة بالمنافسات المتمركزة في الخليج العربي والشام.
شكوك حول استمرار هيمنة الولايات المتحدة
وتؤكد التغيرات في البيئة الاستراتيجية للمحيط الهندي الشكوك حول مدى التزام واشنطن بتلك المنطقة، ويبدو أن بعض اللاعبين الإقليميين يجهزون أنفسهم لما يعتبرونه تقليصا حتميا للدور الأمريكي.
والآن، تتحرك الصين بشكل أسرع مما توقعه كثيرون لبناء دور عسكري في المحيط الهندي؛ يشمل تطوير شبكة من القواعد البحرية والعسكرية حول ساحل المحيط، بدءا من قاعدة في جيبوتي افتتحت في العام الماضي وأخرى جديدة من المرجح أن يتم بناؤها بالقرب من ميناء مدينة جوادر في باكستان المطل على بحر العرب.
ويعتبر بحر العرب واحدا من أهم أجزاء المحيط الهندي، وتأتي أهميته الجغرافية لوقوعه بين سواحل شبه الجزيرة العربية وشبه الجزيرة الهندية، حيث تحده من الشمال إيران وباكستان، ومن الجنوب يتصل مع المحيط الهندي، في حين تحده من الغرب شبه الجزيرة العربية والقرن الإفريقي، ومن الشرق شبه القارة الهندية.
ويدرك أصدقاء أمريكا ومنافسيها تماما أن الثورة النفطية الصخرية الأمريكية وضعت الولايات المتحدة على الطريق لتصبح أكبر مصدر للنفط الخام في العالم خلال العقد المقبل، ما يعني أن الخليج العربي قد يصبح أقل أهمية من حيث الضرورة الاستراتيجية للولايات المتحدة، أو على الأقل إعطاء الولايات المتحدة المزيد من الخيارات.
صحيح، أن دور الولايات المتحدة في منطقة الخليج، بالطبع بند رئيسي في الهيمنة العالمية الأمريكية، لكنه يأتي بتكلفة اقتصادية كبيرة، ومن الممكن تصور أن الإدارة الأمريكية الحالية (أو المستقبلية) قد تصل إلى نقطة يسألون فيها أنفسهم لماذا يحمي الأسطول الخامس الأمريكي النفط الصيني، وبالطبع سلوك إدارة ترامب يعزز هذا السيناريو.
منطقة متعددة الأقطاب
التقاء هذه العوامل يدفع بمنطقة المحيط الهندي نحو بيئة استراتيجية أكثر تعقيدا متعددة الأقطاب تشمل القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والهند والصين، وتشبث القوى الوسطى الغربية المنحازة مثل أستراليا وفرنسا واليابان والقوى الوسطى الشرقية الطموحة “الجديدة”، بما فيها الإمارات والسعودية وتركيا وباكستان، ومع مرور الوقت، إيران وإندونيسيا، وبعض القوى الجديدة قد لا تكون بالضرورة معادية للمصالح الأمريكية، لكن ستسعى كل واحدة نحو مصالحها وجداول أعمالها.