المشهد اليمني الأول/ الوقت
في مبادرة منه لتفعيل دعوة العفو والتسامح والسلام التي أطلقها بعد أحداث فتنة صنعاء الأخيرة، التقى الرئيس صالح الصماد بعلماء الصوفية في اليمن الذين يشكلون منهجاً وسطياً ومعتدلاً، ويحظون بقبول شعبي واسع، كون دعواتهم وفتاواهم بعيدة عن دوائر الصراع، ناهيك عن دورهم البارز في تعرية الفكر السعودي الوهابي وكشف أهدافه ومغازيه التي لا تمت للدين بصلة خصوصا فيما يتعلق باستقرار الأوطان واستباحة دمائها. ويأتي هذا التوجه الجاد من قبل قيادة الدولة ترجمة لخطابات قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي التي أكد عليها في أكثر من مناسبة؛ أن اليمن يتسع للجميع، داعياً اليمنيين إلى التصالح والتسامح، ونبذ دعوات التطرف الهدامة، والعادات الدخيلة على المجتمع اليمني.
ما وراء اللقاء…
على غير عادة معظم التيارات الدينية والسياسية في شمال وجنوب اليمن، يبتعد الصوفيون عن التأثير في المشهد السياسي، بالرغم من استهداف العدوان السعودي لهم بشكل كبير من بوابة تنظيم “القاعدة”.
منعطفات سياسية عدة شهدتها اليمن، حضرت فيها معظم التيارات السياسية والدينية بما فيها السلفية، إلا أن الصوفية لم تستفزها حتى أحداث العدوان على اليمن لخوض معترك السياسة التي باتت ملعباً مفتوحاً لمختلف الأطراف في الساحة اليمنية. تساؤلات عديدة تفرض نفسها حول إمكانية نجاح الصوفية بنظرتها السمحة ورؤيتها الروحانية المتفائلة في إعادة التوازن للحياة الدينية، خصوصاً بعد أن طفت على السطح تيارات إسلامية متشددة. وبات من الضروري توظيف هذا النوع من الجماعات الإسلامية المعروفة بتسامحها وهدوئها ووسطيتها، في الحرب ضدّ أيديولوجيا الذبح والحرق ومحاربة الظلامية التي باتت تمولها مملكة الشر سرّاً وعلانية.
نأي، وضبط نفس…
يتبع الصوفيون سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الحزبية والسياسية، وعدم الخوض فيها بشكل واضح، ويعتنون بالنفس وتزكيتها واليقظة من خوادعها، وتظهر تأكيدات هذا التوجّه من خلال عدة محاضرات وجلسات دينية لكبار مشايخ الصوفية أثناء فترات الصراعات والحروب التي تشهدها البلاد. وفي وقت سابق هدم تنظيم “القاعدة” عشرات الأضرحة والقباب لكبار مشايخ الصوفية في مدينة المكلا وعدد من مناطق ساحل حضرموت، إلا أن الصوفيين لم يعلنوا موقفاً، مكتفين بالصمت تجاه هذا التصعيد الذي تُبيّن مجريات الأحداث أنه آخذ في الاستمرار ويتمدد مكانياً بشكل لافت. “القاعدة” أفشل أيضاً عدداً من الفعاليات الدينية التي يحييها الصوفيون في بعض المساجد في المكلا، إلا أن هذه الأعمال لم تستفز الصوفيين ليتخذوا ردة فعل عنيفة، الأمر الذي أشاد به كثير من المتابعين الذين يرون أن أي ردة فعل تعني دخول المحافظة في أتون الصراع الطائفي.
الصوفية والصراع السياسي…
يفضّل الصوفيون عدم الانخراط في الأحزاب وممارسة العمل السياسي، لكن نظام الرئيس صالح استطاع استمالة عدد منهم للعمل لمصلحة حزبه خلال فترة حكمه، والذي تقلّدت فيه عناصر محسوبة على الصوفية بعض المناصب ومارست السياسة من البوابة الخلفية عن طريق وزارتي الأوقاف والعدل والجهاز القضائي، وفتحت لها قنوات الإعلام ليكون الخطاب الصوفي هو المسيطر، مقابل منعها تدريجياًعلى العلماء والدعاة المحسوبين على حزب “الإصلاح” الإخوان المسلمين في اليمن. لكن بعد انطلاق العدوان على اليمن، طالب رئيس “دار المصطفى للدراسات الإسلامية” الشيخ عمر بن حفيظ، بالابتعاد عن الحرب أو المشاركة فيها، داعياً طلاب العلم إلى الاستمرار في الدعوة ونشر الخير على النهج النبوي. هذا التنصل قوبل بحراك صوفي تدعمه الإمارات لتنفيذ أجندات مختلفة في جنوب اليمن أبرزها القضاء على التمدد السلفي الذي تدعمه الرياض.
استقطاب إماراتي…
يهدف محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي إلى خلط الملف الديني بالسياسي؛ ويتوجّه لتأسيس تحالفٍ صوفيٍّ عالميّ يجاهر أقطابه باستهداف المملكة العربية السعودية ومرجعيّتها الوهابية؛ وتبنّت الإمارات مشروع تشكيل “محور اعتدال إسلامي” يضمُّ القاهرة، وأبوظبي، وجماعات التصوُّف السنّي لتتحول الصوفية من كونها مذهباً روحياً إلى أداة سياسية وفي غير موطنها أحياناً. هذا الاستقطاب لم تغفل عنه السعودية، ولكنها فشلت في فرملته، وكان هذا المحور المهجّن سبباً مباشراً في عدم تصنيف الوهابية من أهل السنة والجماعة. أضف إلى ذلك أن توجه هذا المحور لا يخرج عن إطار التحالف في الوقت الحالي رغم تأسيسه في وقت سابق، لكنه أصبح أداة سياسية واضحة، وهذا ما حدث من متصدِّري المشهد، الحبيب علي الجفري، الشيخ علي جمعة، الشيخ أحمد الطيب، العلامة بن بيّه، مشكّلي النظرة الجديدة للإسلام تحت مظلة المؤسسات الإماراتية التي تأسّست في العشرة أعوام الأخيرة، لتواكب الحركة السياسية في الوطن العربي، وآخرها حصار قطر، حيث خرج الشيخ علي جمعة المفتي السابق للديار المصرية لينسب دولة قطر لـ قطري بن الفجاءة زعيم الخوارج، مؤكداً أنّ الذي حاربهُ كان”إماراتيا“.
توافق الصوفية والأنصار…
في شمال اليمن يبدو الأمر مختلفاً، إذ انخرطت كل المكونات الصوفية في حراك مباشر ضد العدوان، سواء على المستوى السياسي والعسكري، أم الثقافي والإعلامي، فالصوفية تتقاطع مع أنصار الله في أمور عدة، وكلاهما مستهدف من الحركة الوهابية منذ عقود. لكن استقطاب العدوان الإماراتي لبعض مكونات الصوفية الجنوبية، وتحريك العدوان السعودي أدواته في الجنوب ضد الصوفيين من خلال السلفيين وحركة الإخوان، جعل المشهد الجنوبي دموياً ساخناً، وهو ما دعا بالرئيس صالح الصماد إلى جمع كلمة الصوفية عن طريق علمائها تفادياً لتكرار سيناريو الجنوب في الشمال اليمني. ولا يمكننا إغفال مبادرات القيادة السياسية اليمنية الهادفة إلى تعزيز أواصر العلاقات وبناء الثقة، وفتح قنوات الحوار والتواصل مع مختلف التيارات الدينية في البلاد، تمهيداً لتعزيز الشراكة الوطنية وبث قيم التعايش الديني والتسامح السياسي والقبول بالآخر، ولعل هذا اللقاء أنموذج كافٍ يجسد صدق هذا التوجه الصادق والحكيم.