المشهد اليمني الأول| متابعات
نجح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الأعوام الأخير في إعادة بلاده إلى جزء من إمبراطوريتها العثمانية، وأمجاد السلطان عبد الحميد، مستخدماً القضية الفلسطينية والتصويب على الكيان الإسرائيلي “حصان طرواده” لتحقيق مشروع بلاده في الإقليم.
لم يكن السجال الحاد الذي حصل بين الرئيس التركي ونظيره الإسرائيلي حينها “شيمون بيريز” في مؤتمر “دافوس” الإقتصادي عن هذا الأمر ببعيد، بل تحوّل أردوغان من خلال موقفه “المشرّف” من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة الذي انتهى بحادثة السفينة مرمرة، إلى الرجل “الطيّب” الذي ترفع صوره في فلسطين ويقدّم دروساً للزعماء العرب الذين يتوارون خجلا ويتزلفون لبيريز وأمثاله.
ليس ذلك فحسب، بل أصبح أحد رموز المقاومة رغم عدم إنخراط بلاده في محورها، ولكن ماذا حصل بعدها؟
جاءت الأزمات التي عصفت بالمنطقة تحت شعار ما يسمى بـ”الربيع العربي” لتميط اللثام عن وجه أردوغان الحقيقي ومشروعه الذي تسبّب في خسارته جزءً كبيراً من شعبيته العربية والإسلامية إثر موقفه من سوريا، ودعمه للجماعات المسلحّة.
أردوغان ومن خلال المواقف والأفعال تجاه سوريا خسر جزءً من شعبيته، في حين وجد أخرون فيه ملاذا وداعماً رئيسياً لقضاياهم.
في خضام الأزمة السورية، ارتكب الرئيس التركي خطأً استراتيجياً إثر إسقاط سلاح الجو التركي، في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، قاذفة روسية في الأجواء السورية، على بعد 4 كم من الحدود مع تركيا، ما وجد في الرئيس بوتين “طعنة في الظهر” مطالباً الأخيرة بالإعتذار.
“أردوغان” رفض الإعتذار إبتداءً، لترفض روسياعقوبات قاسية على بلاده ما دفع بالرئيس التركي للتوجه نحو قطر، ولاحقاً نحو الكيان الإسرائيلي لتأمين حاجات بلاده من الطاقة، خاصّة أن مشروعه الإقتصادي الذي أثبت جدارته منذ صعوده إلى سدّة الحكم في العام 2002، يقضي بتحول تركيا إلى مركزاً إقليمياً لتحويل الطاقة نحو أوروبا.
وبما أن دوام الحال من المحال للرجل “البرغماتي”، كما وصفته العديد من الصحف العالمية، وصل الحال بأردوغان مؤخراً لتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي والتنازل عن قضية الحصار في غزّة، ليلحقها بعدها بساعات برسالة إعتذار للرئيس الروسي أعرب فيها عن “حزنه العميق حيال حادثة إسقاط المقاتلة الروسية”، وأضاف: “أتقاسم آلام ذوي الطيار الذي قُتل في الحادثة، وأتقدّم بالتعازي لهم وأقول لهم: لا تؤاخذوننا”.
لا يختلف إثنان على إنطلاق مواقف أردوغان من تقديره لمصالح بلاده ممزوجة ببعض المصالح الشخصية، ولعل هذا ما يفسر اتهامه بـ”البراغماتية” التي أفقدته جزءً كبيراً ن شعبيته إثر تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، وما تبقى منها إثر اعتذاره من روسيا حيث وجد هؤلاء في الأمر تنازلاً عن ثوابته تجاه سوريا.
لم يكن أردوغان ليعتذر من روسيا لولا بعض المتغيرات التي تجري على الساحة السورية، وتحديداً فيما يخص الأكراد وتقدّمهم في منبج بدعم أميركي أطّر الدور التركي في سوريا،
كما أن تنازل الرئيس التركي عن سقفه العالي تجاه الكيان الإسرائيلي وتجاهله شرط رفع الحصار عن غزّة قبيل أيام من يوم القدس العالمي يصب في الخانة نفسها “المصالح التركية” وتحديداً الإقتصادية منها، حيث يسعى لكسب حصتة من مكتشفات الغاز الإسرائيلي، فالحقل البحري الضخم “ليفياثان” يضم لوحده 22 تريليون قدم مكعب.
وكالة “رويترز” أشارت قبل أسبوع إلى أن الغاز الطبيعي هو “المحرك الرئيسي لجهود صياغة علاقات تقارب بين إسرائيل وتركيا”، كما أن وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس تحدث عن “رؤية للعقد القادم” قائلاً: عندما “تكون إسرائيل لاعباً رئيساً في سوق الطاقة” لأن هناك كميات من الغاز “تقدر بأربعة “ليفياثانات” في انتظار العثور عليها.
بعيداً عن الإعتذار التركي من روسيا، والذي سنشهد تبعاته في الأيام المقبلة، يمكن قراءة إعادة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى ربيعها السابق في السياق التالي:
أولاً: رغم أهمية الضغوط الأميركية على أردوغان، حيث دعا وزير الخارجية “جون كيري” الرئيس التركي لإعادة العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، إلا أن المصالح الإقتصادية تقف بشكل رئيسي حلف هذا التطبيع.
ثانياً: لم نشاهد إعتذار إسرائيلي مكتوب للقيادة التركية، بل إقتصر الأمر على حديث هاتفي أبدى خلاله رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” تأسفه على الحادث ما يعد خلافاً للإعتذار الدبلوماسي وفق الأعراف الدولية.
أردوغان خشي أن يعتذر هاتفياً من الرئيس الروسي خشية إبتزازه أو “إذلاله”، لو صح التعبير، من قبل “بوتين”، حيث من الممكن أن يطالب برسالة إعتذار خطيّة وفقاً للأعراف الدولية.
ثالثاً: كشف تطبيع “أردوغان” قبيل أيام من “يوم القدس” العالمي موقفه الحقيقي من القضية الفلسطين، وقد أعلنت أجنحة المقاومة الفلسطينية بجميع فروعها شجبها لهذا القرار و اعتبرته تطبيعاً مع الكيان الاسرائيلي وبيعاً للقضية الفلسطينية.
حركة الجهاد الاسلامي أعلنت عن القلق الذي ينتاب الشعب الفلسطيني بعد هذا القرار التركي واعتبرته تخلياً عن فلسطين و شعبه الصامد، في حين أن حركة حماس أصدرت بياناً يمكن تلخيصه في عبارة واحدة “وكأن على رؤوسهم الطير”.
رابعاً: إن عودة أردوغان للأحضان الإسرائيلية من الأسفل، كما هو الحال مع روسيا، يأتي بعد فشله في الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، لاسيّما بعد الخلاف الأخير مع ألمانيا التي إعترفت بـ”إبادة الأرمن”، ولا يمكن التغافل عن محالات أردوغان لحرف الأنظار عن الأوضاع الأمنية الداخلية .
خامساً: إن هذه العودة الإقتصادية تستهدف إعادة جزء من الشعبية التي إفتقدها إردوغان بسبب تدهور الأوضاع الأمنية وتدمير القطاع السياحي الذي يدر حوالي 33 مليار على الخزينة، فخسارة أردوغان لم تقتصر على من فقدهم إثر موقفه من سوريا، واليوم من سوريا وروسيا، بل طالت الداخل التركي بشكل الكبير، ليس الأكراد فحسب، ليس أتباع الحزب الجمهوري، بل أبتاع حزب العدالة والتنمية وفي مقدمتهم رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو.
أردوغان رجل برغماتي بإمتياز، ولا يمكن التعويل في الشدائد إلى إذا تقاطع الأمر مع مصالح بلاده، لا نستغرب تنازله “الرسمي” عن القضية الفلسطينية قبل يوم القدس العالمي، تماماً كما لا نستغرب عودته إلى سوريا عبر البوابة الروسية حتى لو اقتضى الأمر رسالة إعتذار إلى دمشق، أو الصلاة إلى جانب الرئيس بشار الأسد في المسجد الأموي.