المشهد اليمني الأول/ الأخبار – زينب حاوي
في 16 أيلول (سبتمبر) عام 1982، وقف وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، على تلة، مشرفاً على مجزرة «صبرا وشاتيلا»، التي نفذها حزبا «الكتائب» و«القوات». بعد شهرين، وقف شارون مجدداً، لكن هذه المرة، على أنقاض مبنى «الحاكم العسكري» في صور (جنوب لبنان)، ليشهد على ما سمّاها الإعلام الصهيوني «كارثة صور»، التي أوقعت أكثر من 150 جندياً صهيونياً، ونفذها الاستشهادي أحمد قصير.
بعد مرور 36 عاماً، تكشف قناة «المنار» للمرة الأولى، تفاصيل هذه العملية البطولية، التي شكلت منعطفاً أساسياً، إبان غزو «إسرائيل» للأراضي اللبنانية. تُخرج اسم القائد الجهادي الكبير، الشهيد عماد مغنية، من جديد إلى الضوء، لتضاف هذه العملية النوعية، إلى سجل أبهى انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، بصفته مخطِّطاً ومجهزاً لهذه العملية.
في فيلم «لهيب الصنوبر» (إعداد وتنفيذ محمد شعيتو)، المستوحى من الاسم الذي أطلقه شارون على غزو لبنان (1982 ـــ «معركة الصنوبر الكبير»)، سنرى كيف سيتحوّل هذا الغزو ـــ بفعل المقاومة ـــ إلى لهيب وجحيم للغزاة. الشريط (46 دقيقة و38 ثانية)، الذي يعرض الليلة على قناة «المقاومة» سيتضمن العديد من المفاجآت، والمعلومات التي يزال عنها النقاب اليوم، في تمازج ما بين الماضي المقاوم المجيد، وبين الحاضر، في استعراض لشهادات قيادات في الكيان العبري، من ضمنهم: نائب وزير «الدفاع» السابق إفرام سنيه، كبير المؤرخين العسكريين الإسرائيليين أوري ميليشتاين، الجنرال غيورا آيلند، رئيس «مجلس الأمن القومي» السابق في الكيان، وزير «الاستخبارات» الإسرائيلي السابق دان مريدور، ورئيس جهاز «الموساد» السابق الجنرال داني ياتوم، إلى جانب شهادة من أحد قادة المقاومة، وشهود عيان كانوا على مقربة من المبنى في صور وقتها، كمدير «مستشفى جبل عامل» في صور، الطبيب أحمد مروة، وعبد الله شاكر الذي يملك محلاً محاذياً للمبنى. كذلك استُعين بالقيادي السابق في «حركة فتح» محمد دبورة، الذي عاين وقائع تلك الفترة، وكان له تواصل مباشر مع الحاج عماد، إلى جانب الصحافي غالب قنديل، بصفته مديراً لـ «إذاعة صوت الثورة العربية» عام 1982.
ضمن خمسين دقيقة تلفزيونية، يختصر «لهيب الصنوبر» هذه المرحلة عبر استخدام الصور والفيديوات الأرشيفية، وأغلبها يعرض للمرة الأولى، خاصة الصور الأولى للمبنى المذكور قبيل العملية الاستشهادية، وشريط أول عملية مصوّرة للمقاومة عام 1984 في «وادي جيلو» (تصوير الشهيد فارس حاوي)، ويكشف أسماء الجنود المجهولين وصورهم، في «عملية صور»، من ضمنهم الشهيد رضا حريري، الذي ساعد في الإغداد لهذه العملية، واسم الشهيد عبد المنعم قصير وصورته، الذي انتخب الاستشهادي أحمد قصير لتنفيذ هذه العملية. هنا، يبثّ شريط للمرة الأولى أيضاً للشهيد عبد المنعم قصير، ووصيّته (1983)، التي استخدم فيها اسم «حزب الله» للمرة الأولى، حتى قبيل إعلان «الوثيقة التأسيسية» للحزب (شباط/ فبراير 1985) بعامين.
يستعين الشريط بتقنية الغرافيكس في الحديث عن كيفية الإعداد لهذه العملية الجهادية، وبخرائط وصور جوية. يعود بنا الفيلم إلى عام 1982، لحظة غزو الاحتلال لجنوب لبنان، وصولاً إلى بيروت، ومحاصرتها براً، وجواً، وبحراً. يخرج المراسل العسكري الصهيوني، رون بن يشاي، ليعلن بدء «العملية»، وتبدأ بعدها عملية «التوغل»، التي كان مقرراً أن تكون فقط 40 كلم مربع، بغية «إبعاد خطر الصواريخ الفلسطينية»، وضمن «أيام محدودة ومدة قصيرة». لكنها ستصل إلى عمق بيروت، وسط مشاهد التهجير، والحصار القاسي الذي فرضه العدوّ آنذاك، وتصدي «حركة أمل»، وما كان يعرف بـ «الشباب المؤمن» للاحتلال في منطقة خلدة (جنوب لبنان)، وفي البقاع الغربي، وتصدي الجيش السوري لمدرعات الصهاينة، وتحديداً في منطقة «السلطان يعقوب».
بعد مجزرتي صبرا وشاتيلا، اللتين يكشف الجنرال غيورا آيلند في بداية الشريط، أن «الكتائب» قد ارتكبتهما، ضمن ما وصفه بحالة «وهم صعودهم إلى السلطة»، روّج لدخول لبنان إلى «العصر الإسرائيلي»، وسط تحالف واضح لبعض الأفرقاء اللبنانيين، مع العدو الإسرائيلي… إلى أن أتى تاريخ 11 تشرين الثاني من العام نفسه، ليرسم مشهدية مختلفة، أدخلت مفهوم العمليات الاستشهادية في صلب جسم المقاومة.
بالتالي، خشي الكيان الإسرائيلي من ولادة خصم محترف، سيعمل على دحرهم لاحقاً من لبنان. تفاصيل توضع للمرة الأولى على شاشة «المنار»، عن عملية الاستشهادي أحمد قصير، الذي أُعلن اسمه بعد عامين من تنفيذه للعملية، وعن كيفية تفخيخ السيارة (300 كيلوغرام من المتفجرات، إضافة إلى تدعيمها بألغام مضادة للدروع)، التي قادها إلى المقرّ، وعن العقل المدبّر لها: «ساحر المقاومة» اختار بنفسه هذا الهدف، وكان على مسافة قريبة من جنود الاحتلال قبيل العملية. راح يرصد حركتهم، ويحدد الساعة الصفر. هذا «الشبح»، الذي عجزت استخبارات العالم، على رأسها «الموساد»، عن تحديد شكل وجهه، وحركته، وأماكن وجوده، وظل طيفه حاضراً حتى بعد استشهاده يؤرق العدو. سنراه في هذا الشريط، حاضراً، ومشرفاً على عملية صور، ثم ذاهباً للصلاة بعد التنفيذ، فمتوجهاً إلى تخطيط لعملية عسكرية أخرى، تزلزل العمود الفقري للعدو، وتوقع في صفوفه إصابات بالعشرات.
عند الساعة السابعة صباحاً، واكب الحاج عماد سيارة الاستشهادي الشاب إلى مفرق بلدة «العباسية»، لنكون بعدها أمام زلزال بكل ما للكلمة من معنى. ضرب مدينة صور مع اختيار اللحظة المناسبة لوجود العدد الأكبر من الجنود داخل المبنى، جراء الشتاء المنهمر. المبنى سيستحيل في دقائق ركاماً، وتنهار طبقاته الست، ويضحي ارتفاعه 9 أمتار، بعدما كان يصل إلى 22 متراً.
سنرى صوراً أرشيفية نادرة لموقع التفجير، وهلع الجنود الصهاينة وجنونهم، ونداءات الاستغاثة، في انتشال جثث زملائهم من تحت الركام، وتخبّط الإعلام الصهيوني، وقتها. إذ لجأ مباشرة إلى تقزيم الحدث، والإعلان أن هذا التفجير ناجم عن انفجار قوارير غاز، مع عرض ردود فعل القادة الصهاينة الظاهرين في الشريط، واسترجاع هذه اللحظة القاسية في تاريخهم (عناوين الصحف الإسرئيلية الصادرة في ذاك التاريخ)، ثم اكتشاف أن عماد مغنية، هو من هندس هذه العملية النوعية. تطلّ علينا صور حصرية جوية من شاطئ «تل أبيب».
تهبط الكاميرا إلى هذا الشاطئ، لنضحي أمام صورة فوتوغرافية عملاقة للشهيد مغنية، زرعت هناك في قلب الكيان الإسرائيلي، لعلّها من أبرز مفاجآت الشريط. وبالتأكيد، سيسجلها التاريخ لحظة تلفزيونية، نادرة، ستهزّ وتؤرق «إسرائيل» مجدداً.