المشهد اليمني الأول/
تمنح خريطة شبه الجزيرة العربية رؤية جديدة، ليست مغايرة بالكلية، لصراع الدم والنار في اليمن، لكنها أشمل، لحصر ومعرفة كافة اللاعبين الأساسيين في معركة السيطرة على القشرة الخارجية الصلدة لجزيرة العرب.
اليمن التي حباها الله بإمكانات بشرية تفوق كل دول الخليج العربية مجتمعة، وكتب أهلها في الماضي السبق الحضاري على العالم، والعرب خاصة، تبدو في هذه المرحلة جائزة كبرى لمتصارعين لا تضمهم بالكامل أعلام تحالف الشر والعدوان، بقيادة قصير النظر بن سلمان، الذي يعد أداة محلية في صراع أكبر.
الصراع على جزيرة العرب حُسم في قلبه، منذ زمن طويل، بقيام وتمدد وتعزيز مكانة حكم آل سعود على كل قلب الجزيرة تقريبًا، بما فيها أقدس الأماكن الإسلامية، بل واتخاذ كيان آل سعود كرأس حربة محلي، لتسويق النموذج الأمريكي، اعتمادًا على فوائض البترول الضخمة، مقابل الحماية والإمداد الأمريكي المستمرين، ويبقى الصراع مشتعلًا على قشرته.
حصر الحرب اليمنية في مشاهد القصف على أرض اليمن وحدها تسطيح، وقصر الحديث على فاعلين إقليمين، لا يرقى أي منهم للفاعل الحقيقي، غض للبصر عن الشيطان الأكبر، الشيطان الذي يقف وراء كل نزاع على امتداد قارات العالم ودوله، الولايات المتحدة هي الفاعلة والمستفيدة من محاولة تطويق اليمن، التي تجري بأيدي تحالف الشر.
وللولايات المتحدة، تاريخ طويل من التدخل بالقرب من القرن الإفريقي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، خصمها الأكبر والوحيد على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، بعدما فوجئت بوصوله إلى اليمن الجنوبي، مع وصول سالم ربيع علي، الماركسي التوجه، للرئاسة، وسيطرة أحزاب يسارية على الحكم في كل من أثيوبيا –كانت تضم وقتها إريتريا-، مع انقلاب “هيلا مريم”، والصومال، عن طريق محمد سياد بري، قبل أن تنجح السعودية بالذات إلى إعادته لحظيرة الدول “التابعة للأمريكي”، بالاعتماد أساسًا على المال.
اليمن في الفكر الإستراتيجي الأمريكي تمثل عقدة التقاء المحيطات، ومؤهلة لدور أكبر خلال العقود القادمة، خاصة مع تنامي دور ونفوذ الصين، باعتبارها القوة الصاعدة الجديدة إلى قمة العالم، واتساع الطريق التجاري بين بكين وإفريقيا، وكله يمر بالقرب من اليمن، وهو ما استتبع نشاط أمريكي لمحاصرة الطريق الجديد.
ومع تنامي الاهتمام باليمن، بحكم موقعه وجغرافيته، ينشط دور الوكيل المحلي للأمريكي، ليقوم إما بدور الفاعل من خلف ستار، كما جرى طوال العقود الماضية، أو يتورط مباشرة في الحرب، التي تشتعل حاليًا، للسيطرة على الأرض والمستقبل.
الاهتمام السعودي البالغ بالتدخل في الشأن اليمني لا يعود إلى ثورات الربيع العربي “الملون”، بل أن سلسلة تدخلاتها تتعدي ذلك إلى القرن الماضي، لتأسيس ورسم دور فاعل لها في الحاضر اليمني، وإبقاء اليمن المفكك، كضمان أمن للمملكة، التي تعلم أن نشأتها جاءت باستقطاعات من أراض يمنية بالأصل، مثل عسير ونجران وجازان، في الثلاثينيات، بعد حرب مع الإمام، ثم فرضت سلامها في 2000 مع علي عبدالله صالح، لتحصل على الأرض مقابل السماح لملايين اليمنيين بالعمل في أراضيها.
وفي السبعينيات من القرن الماضي، دخلت السعودية إلى اليمن من جديد، لمحاولة وأد محاولات الرئيس الشمالي إبراهيم الحمدي، بتوحيد اليمن، وإنشاء دولة عصرية، وهو ما مثل قمة جرائمها المسكوت عنها في اليمن.
ولعل أخطر ما قاله “الحمدي”، الذي حكم 3 سنوات من 1974 حتى اغتياله في 1977، أنه ينوي الذهاب للوحدة مع اليمن الجنوبي، حديث العهد وقتها بالاستقلال، وتعزيز قيم الديموقراطية في اليمن الشمالي، وانسحاب الجيش من المشهد السياسي، أن يكون اليمن الشمالي مثالاً يحتذى للدول المجاورة حينها، وبالذات اليمن الجنوبي، وإقامة ما سماه بالـ”مؤتمرات الشعبية”، والتي كانت البذرة الأولى لما أصبح حزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة علي عبدالله صالح، هدف هذه المؤتمرات الشعبية كان الاستعداد لإقامة انتخابات وانسحاب الجيش تدريجياً من المشهد السياسي.
لكن قبل أن ينسحب الجيش من المشهد السياسي، كان لا بد لـ”الحمدي” من استئصال نفوذ مشايخ القبائل، لنقل الدولة اليمنية إلى العصر الحديث، عوضًا عن المحاصصة القبلية، التي سادت المشهد اليمني، ولا تزال تسوده حتى اليوم.
أعاد “الحمدي” تأسيس الجيش اليمني، على أسس احترافية، للتقليل من سيطرة وتغول مشايخ القبائل الموالين لآل سعود، منذ دخول الذهب السعودي إلى اليمن، خلال الأحداث التي تلت ثورة 1962، وتدخل الجيش المصري، في زمن جمال عبدالناصر، لتثبيت ومساندة الحكم الجمهوري الوليد.
ما فعله “الحمدي” أنه مضى إلى شوط التحدي للسعوديين إلى نهايته، مع انتصاف عقد السبعينيات، وسقوط القرن الإفريقي في الحضن الشيوعي، وهو ما أسرع بتدخل السعوديين لمساندة عبدالله بن حسين الأحمر، الإخواني-السعودي الهوى، بعد قيام “الحمدي” بعزله سياسيًا، وحلّ وزارة شؤون القبائل، ومنع تولي أي شيخ قبيلة مناصب حكومية.
كما أن الماضي في اليمن، وأي مكان في الكوكب يمنحنا الدورس، فأنه كذلك يفيد في تمييز الأعداء، الخفي منهم والظاهر، كل ضربة يضربها “أنصار الله” اليوم تصيب الولايات المتحدة، قبل وكلائها المحليين، وهو ما يزيد من أهمية الانتصار اليمني، ويمنح صمودهم أسطورته.
أحمد فؤاد / صحافي مصري