كتب/ ناصر قنديل
– لا يوحي التحرك الأميركي في المنطقة بامتلاك رؤيا سياسية وعملياتية واضحة للحرب أو للتسوية أو للجمع بينهما، كما كان قبل سنتين في ذروة اندفاعته للحرب والسعي لتحويل نتاجها تراكماً تفاوضياً بعد يأسه من قطف ثمار نصر حاسم.
فالأداء الأميركي منذ التفاهم على الحل السياسي للسلاح الكيميائي لسورية، وبعده التفاهم على الملف النووي الإيراني أداء مياومة تحكمه ضوابط لا خطة. فهو في موقع الانفعال لا الفعل، يقول نعم أولاً على خطوات يطرحها حلفاؤه الماضون في خطط التصعيد، وشريكه الروسي الساعي لاجتذابه بقوة ضغط المأزق والفشل والعجز إلى مخارج تحفظ المصالح المعقولة، وتحفظ معها ماء الوجه، والأميركي كلما تلقي عرضاً يتفحصه ويقيسه على ضوابط من نوع ماذا لو قلنا لا وماذا لو قلنا نعم.
وهذا ما فعله عندما عرض الروس تسوية عنوانها مسار فيينا، في ذروة الاندفاعة العسكرية لعاصفة السوخوي والحركة الميدانية الكاسحة للجيش السوري وحلفائه. وكان مضمون التسوية تكريس إخراج مصير الرئاسة السورية من شروط الحل السياسي، وجعل الحرب على الإرهاب أولوية المداخلة الدولية والإقليمية، والسعي لحكومة سورية موحّدة تكون شريكاً فيها لا تشارك فيها جبهة النصرة ولا تنظيم داعش، ويترك للآخرين الخيار بين القبول أو الالتحاق بداعش والنصرة.
وكان الحساب الأميركي أنه لو قلنا لا ستتواصل الحرب ويتحقق انتصار حاسم لحساب سورية وحلفائها، فالأفضل أن نقول نعم، لكن الأميركيين لم يقولوا نعم ويضعوا خطة لترجمتها، بل لتفادي تداعيات الـ «لا»، وهكذا عندما قال التركي والسعودي فلنجزئ الاستثناء من الهدنة ونحصره بداعش، ونحتوي النصرة قال نعم، لأنه افترض أن الـ «نعم» ستحسن الوضع التفاوضي تحت سقف التسوية مع الروسي في ضوء ما يراهن عليه من مقدرة النصرة بدعم من حلفائه على فرض أمر واقع عسكري يجعل القبول الروسي وارداً، ولما فشل قال للروس «نعم»، النصرة هدف مشروع للحرب.
– انتهى المخاض الأميركي بمعادلة نسير مع الروس بسقوف التسويات والحرب، ولا نلتزم بإلزام حلفائنا ونماطل لمنحهم الوقت الأطول لترتيب أوراقهم، ولا نجعل خطة الروس خطتنا، وكان المولود الأميركي المستقل عن الروس وعن الحلفاء هو هجوم الرقة بواسطة قوات سورية الديمقراطية التي تستند بصورة رئيسية على الأكراد، وتثير ريبة الأتراك، وتنفصل عن خطة السعودية، والهدف بين سقفين، أعلى الإمساك بجغرافيا سورية تفاوضية بعنوان معارضة محلية، وأدنى بفرض الحضور العسكري الرمزي في الملف السوري، ولا مانع لدى واشنطن من أن ينجح حلفاؤها بتحقيق منجزات في حرب النصرة، ولا في استنزاف سورية وحلفائها.
فهي جاهزة لتوظيف كل ما يحققونه تفاوضياً، لكنها لن تدفع فواتير فشلهم ولن ترضخ لضغوطهم للانضمام إليهم، ولن تسمح لهم بتخطي الضوابط التي تنسف التفاهمات مع الروس مثل نوع تسليح الجماعات المسلحة وحدود التدخل المباشر في الحرب.
– وضعت كل من تركيا والسعودية ثقليهما في مواصلة حرب النصرة والرهان عليها، وهما تعلمان أن كل ما عدا النصرة مجرد مشهد تحميلي عسكرياً، بما في ذلك جيش الإسلام وأحرار الشام، ورهان هذه الحرب وخياراتها ونهاياتها هذا الصيف ثبات بتأمين ربط حلب وإدلب بالحدود التركية، أو إنتاج لخطوط استنزاف بجغرافيا متقاطعة، أو انتصار للجيش السوري وحلفائه بوصل حلب وإدلب بالجغرافيا الواقعة تحت سيطرة الجيش، وبلوغ الحدود السورية التركية، وتحول ما يبقى من وجود للنصرة ومسانديها إلى جيوب يستدعي إنهاؤها مجرد وقت، لكن اللافت أن تصدر كل من السعودية وتركيا إشارات معاكسة لخيار التصعيد تحسباً لما قد يحدث وربطاً لنصيب لا يسقط من حصص التسويات، ورؤوس الجسور مع التسويات سعودياً، يحملها شطب ممثل جيش الإسلام محمد علوش من الوفد المفاوض، وفتح الحوار من جماعة الرياض المعارضة مع سائر مكونات المعارضة، تحت شعار توسيع الوفد المفاوض، وكلام ولي العهد السعودي عن الحاجة لإعادة النظر بالسياسات وتقبل التنازلات المؤلمة، إضافة للمسار المتعرج، لكن الثابت للتمسك بالتفاوض حول الحل السياسي في اليمن، أما تركيا فالإشارة الأهم هي كلام وزير الخارجية التركية الذي نقلته وسائل إعلام رسمية عن اعتبار الأولوية الأهم في سورية الحفاظ على وحدتها، أي ليس التغيير السياسي فيها ولا إسقاط رئيسها ونظامها، وإن إيران وروسيا تشكلان أبرز قوتين تشاركان تركيا هذا الهدف، ويجب السعي لبلورة تفاهم تركي روسي إيراني يضمن تحقيقه.
– يسلك الأميركيون طريقهم في حرب الرقة التي تراوح مكانها، وهم يرون تقدم الجيش السوري بغطاء روسي يتقدم، بينما يقف الأتراك والسعوديون على مفترق طريق بين خيار التصعيد والتسويات، بانتظار جولة حاسمة تستعد لها مناطق شمال سورية، سيشهد شهر رمضان بداياتها، وستكون مع شهر آب قد خلّفت حصادها، ليتقرر المسار والمصير وينتهي المخاض الذي بشر الأمير محمد بن نايف أنه يتضمن تنازلات مؤلمة، وقال وزير خارجية تركيا شاووش أوغلو إنه يتضمن الإعلان عن تفاهم تركي مع روسيا وإيران والاكتفاء بعدم قيام كيان كردي على حدود تركيا كمفهوم للأمن القومي التركي في سورية.