كتب/ عبدالباري عطوان
كانت القمم التشاورية لقادة دول مجلس التعاون الخليجي منذ اقرارها عام 1998 ذات طابع روتيني، تقتصر على لقاء بمن حضر في العاصمة السعودية الرياض، ومأدبة غداء يقيمها المضيف السعودي لضيوفه، يعقبه مؤتمر صحافي لامين عام مجلس التعاون الخليجي ووزير خارجية دولة رئيس القمة، يكرر فيه بعض العبارات المألوفة حول تطابق وجهات النظر في القضايا ذات الاهتمام المشترك، ثم تعود الطائرات الملكية والاميرية الى مضاربها.
ا
لمشهد تغير في السنوات الخمس الاخيرة، والقمة التشاورية التي انعقدت في الرياض اليوم (الثلاثاء) ربما كانت اهمها على الاطلاق، بسبب التغيرات الكبيرة في المشهد الخليجي، وتعاظم الاخطار التي تحيط به من كل جانب على الاصعدة كافة، السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.
حكومات مجلس التعاون الخليجي تمثل دولا لم تعد هامشية، يقتصر دورها على تقديم المساعدات المالية، والجلوس في المقاعد الخليفة لحافلة القرار العربي، بل تجلس “ككتلة” امام مقعد القيادة، وتشارك في حروب، سواء مباشرة او بالنيابة، في اليمن (عاصفة الحزم وتحالفها)، او في سورية والعرق وليبيا، وربما قريبا ضد ايران (فلسطين ليست في الوارد).
***
المعلومات التي رشحت حول هذه القمة وجدول اعمالها، والقرارات التي جرى اتخاذها اثناءها، شحيحة، وذات طابع عمومي وتعميمي في الوقت نفسه، وباستثناء الاتفاق على عقد قمة بريطانية خليجية دولية، لم تتم اي اشارة، مباشرة او غير مباشرة ، عن اي قرارات تجاه قضايا اخرى ساخنة، مثل سورية والعراق وليبيا واليمن وايران، لافتة للنظر، او حتى كتابة هذه السطور على الاقل.
يمكن تلخيص حراجة الموقف الخليجي والتحديات التي تواجهها حكوماته في ست نقاط اساسية تشكل قلقا، ومن المؤكد انها هيمنت على جدول الاعمال والجلسات المغلقة، وتشكل “صداعا” في الايام والاشهر المقبلة.
اولا: ازمة الحج المتفاقمة بسبب مقاطعة ايران وحجاجها للموسم المقبل، نتيجة انهيار المفاوضات بينها وبين السعودية حول الترتيبات المتعلقة باداء 75 الف حاج ايراني لهذه الفريضة، فرغم “التنازلات” السعودية التي جرى تقديمها بخصوص اصدار التأشيرات في طهران عبر السفارة السويسرية، والسماح بنقل الحجاج على ظهر طائرات ايرانية، الا ان الوفد الايراني الذي زار مدينة جدة برئاسة السيد سعيد اوحدي اصر على قيام الحجاج الايرانيين بطقوس البراءة من الكفار، و”دعاء كميل” و”نشرة زائر”، وهو ما رفضه الجانب السعودي، وتريد السعودية من دول مجلس التعاون موقف داعما لها في هذه المسألة، والوقوف الى جانبها في حال حدوث تصعيد ايراني اثناء موسم الحج، خاصة من قبل حجاج من دول حليفة لها.
ثانيا: بعد عام وثلاثة اشهر ما زالت “عاصفة الحزم” التي انطلقت حربا في اليمن تراوح مكانها، ولم تحقق اي تقدم ملموس، بل اعطت نتائج عكسية تماما، فالرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي ما زال يقيم في الرياض، والحوثيون وحليفهم صالح تحولوا الى “جيران صالحين”، لا بد من التفاوض معهم، بعد ان كانوا كفرة ومجوسا، ورأس حربة للمشروع الفارسي الذي يهدد المنطقة، والمدن التي تم تحريرها مثل عدن لم تعد آمنة، واخرجت قوات التحالف السعودي وطائراته قوات “القاعدة” من المكلا في حضرموت، لتعود اليها قوات “الدولة الاسلامية” باحزمتها الناسفة وسياراتها المفخخة، ولم يكن صدفة ان تعلن القيادة العسكرية السعودية عن التصدي لصاروخ باليستي اطلقه التحالف “الحوثي الصالحي” نحو جيزان عشية انعقاد القمةـ واعلان حدوث تقدم في مفاوضات الكويت.
ثالثا: تواجه حكومات الخليج ازمة اقتصادية حادة نتيجة تراجع النفط وعوائده، وبات التقشف هو القاسم المشترك فيها جميعا، بسبب العجوزات الضخمة في الميزانيات وتآكل الارصدة المالية الاحتياطية، الامر الذي ادى الى حالة “تذمر” في اوساط المواطنين.
رابعا: اصدار الكونغرس الامريكي قانونا يعطي الحق لاهالي ضحايا هجوم التجارة العالمي بمقاضاة المملكة العربية السعودية امام المحاكم الامريكية طلبا للتعويضات، بسبب تورط بعض امرائها في تمويل هذه الهجمات بشكل مباشر او غير مباشر، الامر الذي قد يترتب عليه تجميد الارصدة السعودية الرسمية، وربما غير الرسمية في الولايات المتحدة، لتسديد تعويضات قد تصل الى عشرات المليارات من الدولارات، ان لم يكن اكثر، ومن غير المستبعد ان يطالب يمنيون وسوريون وليبيون بتعويضات مماثلة لتدخل السعودية ودول خليجية اخرى عسكريا في بلدانهم، وفق القوانين نفسها.
خامسا: رفع الولايات المتحدة مظلتها الدفاعية التقليدية عن دول الخليج التي كانت تستظل هذه الدول بظلها طوال السنوات السبعين الماضية على الاقل، وهذا ما يفسر اصدار القمة التشاورية قرارا بعقد قمة بريطانية سنوية، اي ان هذه الدول بدأت تعود الى “العم” البريطاني القديم مجددا.
سادسا: تراجع الدور الخليجي تدريجيا في كل من سورية والعراق، فالتدخل الروسي قلب كل المعادلات في سورية، والتحالف السعودي التركي القطري يتآكل ويفقد زخمه السابق، ومفاوضات جنيف بين المعارضة والنظام في غرفة العناية المركزة، ومعارضة الرياض تواجه انقسامات واستقالات، والتحالف الامريكي الكردي بات البديل للتحالف الامريكي العربي في ملفي سورية والعراق، واستعادة القوات العراقية المدعومة بالحشد الشعبي لمدينة المفلوجة، في وقت يقف فيه “التحالف السني” موقف المتفرج، كلها عوامل مجتمعة، او متفرقة، تعكس انكماش الدور الخليجي وتراجعه.
***
لا نعرف كيف تعاطت القمة الخليجية التشاورية مع جميع هذه التطورات، ولكن التصريحات التي ادلى بها السيد عادل الجبير تعكس احساسا بالقلق، ورغبة في التعاطي الخليجي المشترك معها، مثل حديثه عن “اتفاق قادة الخليج على رؤية العاهل السعودي الملك سلمان لتعزيز العمل الجماعي المشترك”، وانشاء “هيئات اقتصادية جديدة”، تتعاطى بالازمات الاقتصادية، و”عقد اجتماعات دورية لوزراء الدفاع والداخلية والخارجية”.
هذه الخطوات بمثابة اعلان “حالة الطواريء” اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، ولكن السؤال هو عما اذا كانت مثل هذه الخطوات مجزية وترتقي الى مستوى التحديات المطروحة؟
اللافت ان الحكومات الخليجية ما زالت تدور في الدائرة نفسها، وترفض اجراء اي مراجعات سياسية او اقتصادية او عسكرية، ترصد السلبيات وتعزز الايجابيات، وتتضمن نقدا ذاتيا يؤدي الى تبني سياسات جديدة حتى لو كانت مؤلمة، تقلص الخسائر، اذا لم تتمكن من اخراجها من هذه الازمات.
تراكم كل هذه التحديات والمخاطر يعني ان اخطاء تراكمية جرى ارتكابها، لا بد من الاعتراف بها، والعمل على علاجها، ولكن لا يوجد اي مؤشر يوحي بذلك على الاطلاق، او هكذا نقرأ الاوضاع الراهنة وتطوراتها.
الحكومات الخليجية يجب ان تعود الى عمقها العربي الذي ابتعدت عنه في السنوات الاخيرة، وتعتمد “الحوار” وليس المواجهات، التي لا تبدو مستعدة لها في الوقت الحالي، خاصة بعد ان تخلى عنها الحليف الامريكي التاريخي، والاقدام على اصلاحات سياسية جريئة عنوانها الانفتاح على المواطن الخليجي وتوسيع دائرة اتخاذ القرار، وتنفيس حالة الاحتقان الراهنة بالمزيد من الحريات، وقبل فوات الاوان.
نكتب عن حكومات دول الخليج وسياساتها لان اذرعها، واصابعها تتدخل في معظم القضايا العربية سياسيا وعسكريا وامنيا، الامر الذي يعطينا الحق، نحن الذين نتأثر بهذه السياسات، سلبا في معظم الحالات، ان نقول رأينا وبصوت اعلى من اي وقت آخر، فامتنا وشعوبنا دون استثناء باتت هي التي تدفع الثمن.