المشهد اليمني الأول/
توقيع السعودية، إلى جانب كل من مصر والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، على الاتفاق الذي تملكت بموجبه جزيرتي صنافير وتيران هو موافقة من قبلها على اتفاقيات كامب دافيد، ما يعني دخول العلاقات بينها وبين الكيان الصهيوني في مرحلة التطبيع العلني.
لا ندري متى بدأت عملية نسج العلاقات “السرية” التي أفضت إلى توقيع اتفاقيات السلام بين الكيان الصهيوني والرئيس المصري أنور السادات في العام 1977. لكننا نعلم أن هذا الأخير لم يلجأ في ذلك إلى أي نوع من المداورة والمناورة. لم يأخذ رأي الشعب المصري، وحط بطائرته في الأراضي المحتلة، وخطب في الكنيست، وصفق له الصهاينة والكثيرون غيرهم في بلدان الغرب. ولم يعدم مصريين وعرباً كثيرين يهللون لفعله الخياني على أنه انتصار باهر سيفتح على مصر والعرب شآبيب الازدهار وأوسع المجالات لـلعيش و”أكل العيش”.
جسر الاعتراف والتطبيع
ما يقرب من أربعين عاماً مرت على هذا الحدث الذي أسس بشكل رسمي وعلني لعلاقات حسن الجوار بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية التي تدور في الفلك السعودي. ورغم جميع الهزائم والتراجعات والخيانات التي شهدتها المنطقة لم تجرؤ السعودية على أن تحذو حذو السادات في نقل علاقاتها مع الكيان الصهيوني من وضعها المكشوف لكن غير الرسمي والمعلن إلى وضعها الرسمي والمعلن بشكل سافر حتى ورقة التوت الأخيرة. ومن هنا لجأت إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني من خلال مضائق تيران وجسر بطول 60 كلم فوق مضائق تيران.
ذلكم أن الفرق شاسع بين العام 1977 والعام 2016 لجهة موازين القوى في المنطقة. فالشعوب العربية، ومعها ما كان يسمى يومها بالأنظمة التقدمية، لم تكن في العام 1977 قد صحت بعد من الصدمة، صدمة هزيمة مصر في 5 حزيران 1967، ولم تصدق الضجيج الانتصاري الذي أحيطت به حرب العام 1973 رغم وصول الجيش الإسرائيلي إلى مشارف القاهرة. وكل ذلك شكل جزءاً من الظروف التي سهلت على السادات إقدامه على توقيع اتفاقيات الاستسلام التي تابعه عليها كل من النظام الأردني ونظام السلطة الفلسطينية.
أما اليوم، وعلى الرغم من انهيار معظم أنظمة ما كان يسمى بالصمود والتصدي، فإن محور المقاومة، متمثلاً بطليعته الصدامية في لبنان وغزة، قد حطم جميع الاعتبارات التي كانت تشكل منطقاً يتذرع به الانهزاميون العرب لتبرير هرولتهم نحو منح الكيان الصهيوني حق السيادة المطلقة على المنطقة. كما أن صمود سوريا والمواقع المتقدمة التي باتت تشغلها إيران على الساحتين الإقليمية والدولية، كل ذلك قد أدخل معسكر الهيمنة بكل مكوناته في حالة من الذعر تدفعها إلى رص الصفوف في محاولات يائسة لإشاعة الانطباع بأنها ما تزال تتمتع بالقوة اللازمة للاستمرار في الوجود. خصوصاً في ظل أوضاع تجبر بلد كمصر على الانحناء أمام بلد كالسعودية كل أهميته أنه ما زال يمتلك بعض خسيس المال الذي يسيل له لعاب الساقطين من أصحاب الأنظمة الفاشلة.
ولا ندري ما إذا كانت السعودية ما تزال قادرة على صرف 3 مليارات دولار لبناء ذلك الجسر الأسطوري (جسر الملك سليمان) الذي سيصل إفريقيا بآسيا، أو على تزويد مصر بملياري دولار سنوياً، كثمن لاتفاقية التنازل المصري لصالح السعودية عن جزيرتي تيران وصنافير. إذ يبدو أن السعودية وغيرها من مشيخات النفط قد وصلت إلى الوضع الذي بات يتحتم عليها فيه أن تنفض يديها نهائياً من تريليونات الدولارات المكدسة في مصارف الغرب. فقد حدث منذ أقل من يومين أن هددت السعودية بسحب 750 مليار دولار من المصارف الأميركية خوفاً من لجوء واشنطن إلى وضع اليد عليها. وكان من الطبيعي أن ترد واشنطن على هذا التهديد بالهزء والازدراء المقرونين بالتحدي حيث ألقمت السعوديين حجراً بدلاً من إعادة الأموال المسروقة من أرزاق الأرامل واليتامى المسلمين والمكدسة في مصارف أميركا وأوروبا.
الشريك الإسرائيلي
ومهما يكن من أمر، فإن مصر سيكون بإمكانها أن تنتظر وأن تطيل الانتظار بعد أن وقعت مع السعودية وثيقة “بيع” الجزيرتين. أما السعودية التي وقعت على الاتفاقية نفسها، جنباً إلى جنب مع كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، على أساس أن هذا الأخير معني بالجزيرتين لأنهما تقعان عند مدخل خليج العقبة، أي المدخل الإسرائيلي إلى البحر الأحمر، فقد أصبحت شريكاً رابعاً في الموافقة على اتفاقيات كامب دايفد التي تنص على عدم إعاقة الملاحة في منطقة المضائق من قبل الأطراف الموقعة على الاتفاقيات.
على هذا، يكون الكيان الصهيوني قد أصبح شريكاً في ملكية مياه المضائق التي أصبحت ملكية دولية منذ لحظة التوقيع. ومن غير المستبعد أنه، وهذا ما عودتنا عليه مكرمات آل سعود، قد أضاف إلى هذه الحصة حصة “سرية” أخرى كهبة مالية سعودية مقابل ما يشاع عن كونه قد مانع في بناء الجسر العتيد بدعوى أن وصل السعودية بسيناء يشكل تهديداً لأمنه الاستراتيجي.
والأهم من كل ذلك هو أن توقيع السعودية على الاتفاقية قد أدخلها في عملية تطبيع فعلية مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام كل أنواع العلاقات وخصوصاً أمام التحالف العسكري المعلن بين الكيانين السعودي والصهيوني.
لا قيمة عملياً لكل هذه التطورات. فمصر كانت قد أصبحت مستلحقة تتسول على أبواب السعودية قبل الاتفاق الأخير، والعلاقات الاستراتيجية بين الكيان السعودي والصهيوني كانت قد وصلت إلى مستوى جعل السعودية تجر خلفها عشرات الدول الإسلامية والعربية في حربها على حزب الله وقناة المنار. والكيان الصهيوني ما زال يفرك يديه حسرة على فشل الحرب على سوريا في تحقيق أغراضها، أي في تدمير الدولة السورية وحزب الله، وخوفاً من الإقدام على مغامرة في لبنان ستتكلل حتماً بهزيمة تضع الوجود الإسرائيلي برمته على المحك الخشن.