في ظل التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها سوريا بعد تغيير النظام في دمشق، تتصاعد حدة التوترات بين تركيا و”إسرائيل”، حيث تتبلور معالم صراع جديد قد يرسم ملامح المنطقة لسنوات قادمة، يأتي هذا التصعيد في سياق تناقض المصالح بين أنقرة وتل أبيب حول ما يُطلق عليه “تقسيم الكعكة السورية”، وهي عبارة تعكس التنافس على النفوذ والهيمنة في دمشق.
ومع استمرار “إسرائيل” في تعزيز وجودها العسكري في الأراضي السورية المحتلة، وتزايد الدور التركي في دعم ما يسمى النظام الجديد، يبدو أن المواجهة بين الطرفين قد باتت “أمرًا لا مفر منه”، وفقًا لمصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى.
سياسة الصمت أم عجز عن الرد؟
لطالما واجه النظام السوري السابق انتقادات حادة بسبب عدم رده على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، لكن مع سقوط النظام السابق وتولي أبو محمد الجولاني، القائد السابق لـ”هيئة تحرير الشام”، مقاليد الحكم في دمشق ليس عبر انتخابات، كان من المتوقع أن يتغير هذا النهج، غير أن الواقع بدا مغايرًا تمامًا، فقد تمادى كيان الاحتلال الإسرائيلي في انتهاكاته، معلنًا عبر وزير حربه إسرائيل كاتس أن قواته ستبقى في الأراضي السورية المحتلة ولن تنسحب منها، فيما اكتفى حكام دمشق الجدد بصمت مطبق أثار استغراب المراقبين.
هذا الصمت لم يقتصر على ما يسمى النظام السوري الجديد فحسب، بل امتد إلى الدول العربية التي دعمت الانقلاب في سوريا وما زالت تقدم الدعم السياسي والاقتصادي لحكامها الجدد، فلم تصدر أي إدانة رسمية أو موقف واضح من هذه الدول تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، وكأن الأمر لا يتعلق بدولة عربية تُنتهك سيادتها يوميًا من قبل عدو تاريخي للأمة العربية، هذا الوضع أثار تساؤلات حول مدى استقلالية القرار السوري الجديد، وما إذا كان خاضعًا لضغوط خارجية تحول دون اتخاذ موقف حاسم.
تركيا و”إسرائيل”… تناقض المصالح يرفع منسوب التوتر
في قلب هذا الصراع، تبرز تركيا كلاعب رئيسي يسعى لتعزيز نفوذه في سوريا، مستغلًا الفراغ السياسي والعسكري الذي خلّفه سقوط النظام السابق، وحسب تقارير إعلامية إسرائيلية، مثل موقع “والا” العبري، فإن النظام السوري الجديد بقيادة الجولاني يجري محادثات متقدمة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتسليم منطقة ميدانية في تدمر للجيش التركي، هذه الخطوة، التي تأتي مقابل مساعدات اقتصادية وعسكرية وسياسية، أثارت قلقًا كبيرًا في تل أبيب، حيث يُنظر إلى الوجود العسكري التركي شرق حمص كتهديد محتمل قد يتيح لتركيا الوصول إلى جنوب سوريا، ومن ثم الاحتكاك المباشر مع “إسرائيل”.
من جانبها، ترى “إسرائيل” في هذا التطور تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي وحرية عملها العسكري في الأجواء السورية، وقد أكدت مصادر أمنية إسرائيلية أن المؤسسة العسكرية أجرت نقاشات مكثفة خلال الأسابيع الماضية حول كيفية التعامل مع هذا الوضع، مشيرة إلى أن الحفاظ على التفوق الجوي الإسرائيلي يتطلب إحباط أي محاولات لإعادة بناء البنية التحتية العسكرية السورية، مثل بطاريات الدفاع الجوي أو الصواريخ في الجنوب السوري، في هذا السياق، يبدو أن “إسرائيل” مستعدة لاستخدام كل الوسائل اللازمة لمنع تركيا من ترسيخ وجودها العسكري في مناطق قريبة من حدودها.
المواجهة لا مفر منها… تصريحات إسرائيلية تكشف المخاوف
في تصريح لافت أدلى به مصدر أمني إسرائيلي رفيع خلال مناقشات تقدير الوضع الأسبوع الماضي، قال إن “المواجهة بين تركيا وإسرائيل في المنطقة السورية أمر لا مفر منه”، هذا التصريح يعكس عمق القلق الإسرائيلي من طموحات أردوغان، التي يُنظر إليها كمحاولة لتقويض “حرية العمل الإسرائيلية” في سوريا، والتي تهدف إلى القضاء على أي تهديد محتمل ينبع من الأراضي السورية، وفي الوقت ذاته، يواصل جيش الاحتلال تعزيز وجوده في المنطقة العازلة السورية، مع التركيز على بناء علاقات مع السكان المحليين، وخاصة في القرى الدرزية، من خلال تقديم مساعدات في مجالات البنية التحتية والغذاء والدواء.
ويُضيف المحلل السياسي في صحيفة “إسرائيل اليوم”، أرييل كاهانا، بعدًا آخر لهذا الصراع، حيث يرى أن تركيا أصبحت “الوصي الفعلي” على سورية تحت قيادة أردوغان، ويشير إلى أن عداء الرئيس التركي المعروف لـ”إسرائيل” قد يدفع نحو مواجهة مباشرة، وخاصة مع تصريحاته السابقة التي توعد فيها بمواجهة القوات الإسرائيلية، ويذهب كاهانا إلى أبعد من ذلك، معتبرًا أن “إسرائيل” قد تسعى إلى نزع السلاح من المناطق القريبة من حدودها كإجراء وقائي لإحباط أي تحالف تهديدي قد ترعاه تركيا.
تقسيم سوريا… استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد؟
وراء هذا الصراع المتصاعد، تلوح في الأفق استراتيجية إسرائيلية أعمق تتمثل في تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية، بهدف إضعافها كدولة مركزية تشكل تهديدًا محتملاً لأمن “إسرائيل”، هذا الهدف ليس جديدًا، بل يعود إلى رؤية دافيد بن غوريون، مؤسس “إسرائيل”، الذي اعتبر أن عظمة “إسرائيل” تكمن في تدمير الجيوش العربية في دول مثل سوريا ومصر والعراق، ومع استمرار “إسرائيل” في ترسيخ وجودها في المناطق المحتلة وبناء علاقات مع الطوائف المحلية، يبدو أنها تسير بخطى حثيثة نحو تحقيق هذا الهدف.
في المقابل، تبدو تركيا مصممة على لعب دور محوري في سورية، سواء من خلال دعم النظام الجديد أو توسيع وجودها العسكري، لكن هذا الطموح يضعها على مسار تصادمي مع “إسرائيل”، التي لن تتردد في استخدام قوتها العسكرية للحفاظ على هيمنتها في المنطقة، ومع غياب موقف عربي موحد، واستمرار صمت دمشق الجديدة، تبقى سوريا ساحة مفتوحة لصراع النفوذ بين القوى الإقليمية، حيث قد تكون النتائج كارثية على وحدتها وسيادتها.
في الختام، مع تصاعد التوترات بين تركيا و”إسرائيل”، واستمرار تفاقم الأزمة السورية التي أضحت مرتعًا للصراعات الإقليمية، تتجه المنطقة بخطى متسارعة نحو مرحلة جديدة من عدم الاستقرار قد تعيد تشكيل خارطتها السياسية والعسكرية، فسوريا، التي كانت يومًا ركيزة أساسية في التوازنات، باتت اليوم ساحة مفتوحة تتصارع فيها القوى الإقليمية على النفوذ والسيطرة، وفي هذا السياق، تبرز التساؤلات الحاسمة هل ستتحول سوريا إلى مسرح لمواجهة مباشرة بين أنقرة وتل أبيب، حيث تتصادم طموحات أردوغان الإقليمية مع استراتيجيات “إسرائيل” الهادفة إلى الحفاظ على تفوقها العسكري؟ أم إن هناك مساحة للجهود الدبلوماسية لاحتواء هذا التصعيد الخطير قبل أن يتفجر في صورة نزاع مفتوح؟
الإجابة على هذه الأسئلة تبقى معلقة، محاطة بضباب كثيف من الغموض، إذ تعتمد على عوامل متعددة تشمل مواقف اللاعبين الدوليين، مثل روسيا والولايات المتحدة، وقدرة النظام السوري الجديد على الخروج من حالة التبعية التي يبدو أنه غارق فيها، لكن ما يمكن التأكيد عليه هو أن “تقسيم الكعكة السورية”، كما يُطلق عليه، لن يكون مجرد عملية تقاسم نفوذ سلسة بين الأطراف المتنافسة، بل إنه صراع معقد، متعدد الأبعاد، تحكمه حسابات استراتيجية دقيقة ومصالح متضاربة، قد يترك تداعيات عميقة وطويلة الأمد على سوريا وعلى المنطقة بأسرها.
فمن جهة، تسعى تركيا إلى ترسيخ دورها كقوة مهيمنة في المشهد السوري، مستفيدة من علاقتها بالنظام الجديد ودعمها العسكري والسياسي له، في محاولة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية التي تشمل كبح النفوذ الكردي وتعزيز حضورها في شرق المتوسط، ومن جهة أخرى، تتمسك “إسرائيل” بسياستها التقليدية المتمثلة في منع أي تهديد محتمل من جوارها، سواء كان ذلك عبر إضعاف البنية العسكرية السورية أو مواجهة التمدد التركي الذي قد يشكل خطرًا مستقبليًا على أمنها القومي، هذا التنافس، الذي يتخلله صمت دولي وعربي لافت، يضع سوريا في مأزق خطير، حيث قد تجد نفسها مقسمة فعليًا إلى مناطق نفوذ تخدم مصالح الخارج أكثر مما تخدم وحدتها الوطنية.
وعلى المدى الطويل، قد لا تقتصر التداعيات على سوريا وحدها، بل قد تمتد لتشمل استقرار دول الجوار مثل لبنان والعراق والأردن، التي ترتبط مصائرها ارتباطًا وثيقًا بما يجري في بلاد الشام، فإذا ما اندلعت مواجهة عسكرية بين تركيا و”إسرائيل”، أو حتى تصاعدت الاشتباكات غير المباشرة عبر وكلاء محليين، فإن ذلك قد يشعل فتيل أزمة إقليمية أوسع، تضع المنطقة على حافة هاوية جديدة من الفوضى، وفي المقابل، إذا نجحت الدبلوماسية في تهدئة الأوضاع، فإن ذلك قد يتطلب تنازلات كبيرة من جميع الأطراف، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل تصلب المواقف الحالية.
يبقى المشهد السوري مرآة تعكس هشاشة التوازنات الإقليمية، ومدى تعقيد الصراعات التي تتشابك فيها المصالح الوطنية والطموحات الإقليمية، وسواء أفضى هذا التوتر إلى مواجهة عسكرية أو تم احتواؤه مؤقتًا، فإن سوريا، ستظل الخاسر الأكبر فهي مقبلة على اختبار صعب سيحدد معالم المستقبل، بين احتمالات التقسيم والتفتت من جهة، وأمل بعيد في الاستقرار والتعافي من جهة أخرى